سايكولوجية الإرهاب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سوف أحاول أن أحصر محاضرتي ضمن موضوع العنوان قدرالإمكان ولكن لكي أعطي الموضوع حقه فلا مفر من أن أضيف الجانب الإجتماعي وبالأخص الموروث الحضاري وتأثير هذين العاملين على الجانب السايكولوجي لكي نتوصل الى إطار قد يساعدنا على تفهم هذه الظاهرة البشرية المخيفة.
في البداية أود أن أوضح بأنني كعلماني سوف ألتزم في تحليلي بقواعد النهج العلمي المادي دون مجاملة أو مراوغة وأنا أدرك أن بعض مما سأقوله قد يضايق البعض وقد يسر البعض الآخر فأرجو المعذرة مسبقاً لهذا وأرجو أن يتسع صدر الجميع للرأي الآخر و لا بأس فهذا في نهاية المطاف هو جوهر الممارسة الديمقراطية.
و في البداية أود أن أوضح أن هناك فرقاَ أساسياً بين المنهج العلمي ومنهج الغيبيات الذي أبتليت به الحضارة العربية والإسلامية. فالمرء في المنهج العلمي يبدأ من موقع الجهل بالعالم أي أن متبع المنهج العلمي عندما يواجه العالم المادي فإنه يجابه المجهول ولذا فإنه يبذل قصارى جهده الذهني والبدني لمحاولة معرفة و فهم و إكتشاف الواقع المادي المحير. وعلى العكس تماماً فإن الفكر الغيبي يبدأ من اليقين وليس من الجهل وهو ينظر الى الواقع بإزدراء وإستخفاف لكونه مقتنع بإنه يمتلك الحقيقة المطلقة والتي هي أكثر أهمية من الحقائق الصغيرة التافهة للواقع المعاش. وعلى العكس من النهج العلمي الذي يبدأ في طرح الأسئلة على شكل فرضيات ومن ثم إختبارها في العالم الخارجي فإن المنطق الغيبي يعتبر أنه يمتلك تفسيرات جاهزة يتم إستنباطها من النصوص الموروثة. ومن الجلي إن الحضارة الإسلامية والحضارة العربية على وجه الخصوص هي حضارة نصوص وليست حضارة علوم. كذلك فإن الموروث الحضاري الإسلامي والعربي يتميز بالسكونية والقناعة واليقين شبه المطلق بإن مالديهم هو أفضل ما لدى البشر و قد أدى هذا الى حالة من الإنتفاخ والتعالي والغرور والى إهمال وإزدراء حضارة وعلوم الآخرين.
ولذا فمما يثير الإنتباه على سبيل المثال إن المسلمين إستعمروا بلداناً ذات حضارات عريقة وعظيمة تشهد لها الصروح الهائلة لهذه الحضارات التي وجدها المسلمون عند فتحهم لهذه البلدان. لكن المدهش أن الفاتحين الجدد، هؤلاء البدو القادمين من أكثر بقاع الأرض جدباً وتخلفاً لم يعيروا أي إهتمام لعلامات الحضارة والمدنية التي وجدوها في العراق ومصر وغيرها. فلماذا لم يبد المسلمون إهتماماً يذكر في دراسة هذه الحضارات القديمة التي لم تشهد الجزيرة العربية لها مثيل؟ لماذا لم يبدوا إهتماماً في التعلم والإقتباس من هذه الحضارات، في تعلم لغاتها وعلومها وآدابها وأديانها؟ الجواب هو لأن المسلمين جاءوا الى هذه البلدان منتفخين ممتلئين بروح التعالي والغرور وباليقين بإن ما لديهم هو أرقى ما في الوجود و لإعتقادهم أن كل ما سبق الإسلام لا قيمة له ولا يستحق عناء البحث. وقد نعت المسلمون كافة الحضارات التي سبقت الإسلام بالجاهلية تحقيراً لها وإستصغارا بها.
إن روح التعالي والغرور هذه جعلت أبناء الرافدين ووادي النيل يعيشون في جهل مطبق لحضارات أسلافهم لأربعة عشر قرناَ حتى جاء الأوروبيون في القرن التاسع عشر وأخبرونا عن تفاصيل تأريخنا ذاته وفكوا طلاسم الكتابة الهيروغليفية والمسمارية. فأصبحنا نعرف شيئاَ عن ملحمة جلجامش و عن حمورابي ونبوخذنصر وغيرهم. وبدلاَ من أن يقتبس بدو الجزيرة، أسياد الشرق الجدد، من بلدان الحضارة التي إستعمروها نشروا أفكار وعادات البداوة في هذه البلدان وأدى ذلك الى عملية ترييف للمدن وطغيان القبلية البدوية على مجتمعات مدنية عريقة في مدنيتها. وكما هو معروف فإن العراق على وجه الخصوص قد أبتلي بموجات الترييف وطغيان البداوة آخرها كان حكم أهل القرية ذوي العادات شبه البدوية للعراق في الأربعين سنة الأخيرة.
وللأمانة التاريخية فلابد من ذكر اليقضة العلمية والمعرفية التي حصلت في العصر العباسي وخصوصاً في عصر المأمون حيث تمت ترجمة الأعمال الإغريقية وإستمرت هذه الحركة العلمية التنويرية بشكل متقطع لمدة أربعة أو خمسة قرون لتصل الى عصرها الذهبي في الأندلس وأنجبت علماء ومفكرين أفذاذ مثل إبن رشد و إبن الراوندي وإبن حزم وكثيرون غيرهم وأفرزت كذلك حركات فكرية من أبرزها المعتزلة وإخوان الصفا. ولكن الفقه الحنبلي ومشتقاته تبلورت في خط متوازي للحركة الفكرية والعلمية التنويرية وأصبحت مع مرور الوقت هي الخط الحضاري المهيمن للحضارة الإسلامية عموماَ. فكم من المسلمين اليوم يعرفون شيئاَ عن فكر إبن رشد أو الرازي وكم منهم سمع مجرد سماع بإبن الوراق أو إبن الراوندي ؟ إن من المذهل أن يختفي المحتوى التنويري للعلماء والمفكرين المسلمين من الحضارة الإسلامية إختفاءاً شبه كامل. ونحن نشهد اليوم تلاشي وفقدان معالم النهضة التنويرية التي حصلت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بفعل التماس مع أوروبا والفكر الغربي في ذلك الوقت ونشهد أمام أعيننا ردة حضارية تحاول إرجاعنا قروناَ الى الوراء.
ورجوعاً الى موضوع المحاضرة إذن فالحضارة العلمية هي حضارة الشك والشك يؤدي الى التساؤل وهذا يؤدي بدوره الى البحث عن أجوبة من الواقع ومن العالم المادي وهذا كله يؤدي الى حضارة ديناميكية ميزتها التغير الدائم والصراع المستمر للأفكار. أما الحضارة الغيبية فهي حضارة اليقين وحضارة الإيمان الراسخ الذي لايتزحزح. وأنا أدعي أن هيمنة حالة اليقين هذه و غياب التعددية الفكرية تجعل الفرد معرضاً الى التحول الى الآيديولوجيات المتطرفة ووبالتالي الى الإرهاب.
ومن الملفت للإنتباه أن الدراسات التي أجريت على التركيبة الساكولوجية لإرهابيين من خلفيات مختلفة وجدت أن من النادر أن يعاني هؤلاء من الأمراض النفسية المعروفة. وفيما عدا وجود نسبة قليلة منهم يعانون من السايكوباثية (وهي حالة إضطراب في الشخصية تتميز بممارسة العنف المفرط) فإن من المثير للعجب أن الأغلبية الساحقة من الإرهابيين هم من الأسوياء، أي إن الأغلبية الساحقة من الأرهابيين بما فيهم الإنتحاريون هم غير مصابين بإي أمراض نفسية أو عقلية معروفة. ولكن العامل المشترك الذي يجمع كافة الإرهابيين الذين تمت دراستهم هو إيمانهم العميق و يقينهم المطلق بآيديولوجيتهم أو عقيدتهم والأهم من ذلك يقينهم المطلق بصحة وعدالة العملية الإرهابية التي ينفذونها. وهذه الحقيقة تدعو للعجب والتأمل. فنحن إذن أمام ظاهرة سايكولوجية غاية في الغرابة والخطورة وهي أن شخصاً سوياً وديعاَ ومتوازناً من الممكن أن ينقلب في فترة وجيزة الى آلة مخيفة للقتل والدمار العشوائي. فكيف يحصل هذا وما هي العوامل التي تؤدي بالإنسان أن يصبح إرهابياَ لا يكترث بألم أو حياة الآخرين؟ و من المهم أن نتذكر هنا هو إذا صح هذا التحليل فإن الإرهابي لا يولد إرهابياَ وإنما يصبح إرهابياَ بفعل عوامل بيئية مختلفة أي بكلمات أخرى فإن على المجتمع المبتلي بالإرهاب أن يفهم المصادر التربوية والحضارية والعقائدية التي تفرخ هذه الظاهرة.
فلنبدأ أولاَ بتعريف للإرهاب. وهنا لن أدخل في متاهات التفريق بين القتل المشروع و غير المشروع. و المعروف أن هناك مئات التعريفات المختلفة للإرهاب بعضها يناقض البعض الآخر وأنه من المستحيل أيجاد تعريف للإرهاب يرضي الجميع. ولهذا فلازالت الأمم المتحدة غير قادرة على الإتفاق حول معنى الإرهاب. و لكن لغرض التبسيط فسوف أقترح تعريفاً بسيطاً هو أن الإرهاب هو " إستخدام العنف المفرط العشوائي يهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين". وكما هو الحال في كافة التعريفات الأخرى للإرهاب فأنا أدرك تماماَ إن هذا التعريف ناقص وقد لاينطبق على هذه الظاهرة في كافة الظروف أو في كافة أشكالها المختلفة. وأنا لا أريد أن أدعي هنا مثلاَ بإن قتل العسكريين أو قوات الشرطة ليس إرهاباً أو بأن الإغتيال السياسي لشخص محدد ليس إرهابًا. لذا فأنا أعلم بإن تعريفي هذا غير مكتمل. وليكن، ولكنه يحمل في رأيي الفكرة الأساسية التي تميز الإرهاب عن غيره من أعمال العنف ألا وهي أنه عنف عشوائي هدفه الأساسي هو قتل وجرح أكبر عدد ممكن من الناس. أي أنه على العكس من الأعمال العسكرية التي قد تؤدي الى مقتل المدنيين أما خطأَ أو إهمالاَ فإن الإرهاب حسب هذا التعريف ليس له هدف إستراتيجي غير القتل والتدمير لغرض الترويع. وهذا فرق مهم للغاية وهو الفرق بين أعمال العنف العسكرية والتي قد تؤدي الى ضحايا من المدنيين قد تفوق الإرهاب ولكن الفرق الجوهري هنا هو أن الهدف الإستراتيجي يختلف كلياَ. ففي مثال العملية العسكرية فإن الهدف منها قد يكون السيطرة على موقع ما أو تدمير منشآت معينة ولكن في حالة العملية الإرهابية فإن القتل هو الهدف لاغيره. لذا فمن الممكن لعماية عسكرية معينة أن تلغى إذا ما أصبح بالإمكان تحقيق الهدف الإستراتيجي بطريقة أخرى دون قتل مدنيين أو عسكريين ولكن ليس بالإمكان تصور سيناريو مماثل في حالة العملية الإرهابية، وبالتالي هنا يكمن الفرق الأخلاقي الأساسي بين الإرهاب وأعمال العنف الأخرى. فهل من الممكن أن نتخيل مثلاً سيناريو يصبح فيه تفجير البرجين في 11 أيلول 2001 وقتل أكثر من 3000 مدني من وجهة نظر القاعدة غير ضروري؟ لا أعتقد ذلك.
ليس هناك الكثير من الدراسات الجيدة التي تلقي ضوءا علىَ كيفية تحول الفرد العادي الى إرهابي. ولكن هناك بدايات لبعض النظريات التي طرحها بعض علماء النفس الغربيين و التي تحاول تفسير عملية التغيير السايكولوجي التي يمر بها الفرد لكي يصبح إرهابياَ. وتبدأ عملية التغيير هذه بإختزال هوية الآخر الى هوية أحادية مسطحة (خائن، عميل، كافر...الخ) تليها إختزال هوية الذات الى هوية أحادية بسيطة (مجاهد، مقاتل، شهيد...الخ) وبعد ذلك يتم إنتزاع صفة الآدمية عن العدو يصبح بعدها العدو في نظر الشخص كائناَ لاقيمة له لا يستحق الشفقة ولا يستحق الحياة والمرحلة الأخيرة هي إضفاء صفة الشر المطلق على الضحية أو الضحايا (demonisation) وإنكار أي صفات خيرة أو حميدة لها.
ويبدو لي بإن هذه النظرية تفسر الكثير مما نشاهده ونسمعه من لغة الإرهاب في العراق والعالم العربي والإسلامي اليوم. فالأعداء هم كفار وخونة و المجاهدون هم القوى الخيرة التي ستدخل الجنة في حين أن أولاد القردة و الخنازير (لاحظ عملية إنتزاع صفة الآدمية) فمصيرهم هو أن يكونوا وقود النار في جهنم. وبالطبع فإن أفواج الإرهابيين في العراق يؤمنون إيماناَ راسخاَ بإن ما يفعلونه إنما هو الجهاد الذي فرضه الإسلام على المؤمن وإن عملية القتل الجماعي العشوائي هو تنفيذ للإرادة الإلهية ولذا فهو عمل لا شك في صحته وعدالته.
إن اليقين الراسخ الذي نشاهده في الإرهابي هي حالة إعتقاد مشابهة لحالات المرض العقلي الذهاني التي تتميز بالإعتقاد الذي لا يتزحزح بالأوهام والذي غالباَ ما يؤدي الى إضطراب مرضي في السلوك والذي يحتاج في الغالب الى علاج طبي مكثف. لكن عدا هذا التشابه فإن حالة اليقين عند الإرهابي لا تعتبر مرضاَ عقلياَ بسبب أن معتقدات الإرهابي الأخرى وسلوكه لا يشوبه إضطراب.
لذا ففي رأيي أن حضارة اليقين الأحادية الغيبية السكونية والتي تتميز بها الحضارة العربية الإسلامية حيث ينعدم الشك ولاوجود فيها للتساؤل هي الإرض الخصبة التي تنبت فيها الأفكار الإرهابية. وقد جاءت الصحوة الإسلامية الخمينية البنلادنية لتضاف الى هذه التركيبة الحضارية. و تحتوي هذه الآيديولوجية الجديدة على عناصر إضافية جديدة كإختزال العلاقة مع الآخر الى التناحر والصراع الدائم، كذلك تتميز هذه الآيديولوجية بتمجيد الذات، و إختزال الهوية الذاتية وهوية الآخر وإنتزاع آدمية الآخر وغير ذلك وفي النتيجة نحصل على تركيبة فكرية حضارية تعطي المبررات للعنف المنفلت نحو الآخر والتي من الممكن أن تؤدي الى الإرهاب عند شريحة كبيرة من العوام.
فما الحل إذن؟ إن على العلمانيين العراقيين (والعرب والمسلمين عموماَ) مسؤولية تاريخية في تحدي هذه الحضارة اليقينية الغيبية المهيمنة على عقول العامة وعلى عقول الكثير من ذوي الثقافة. وأنا هنا أود أن أوضح بإنني لا أعتبر الفكر القومي العربي بما فيه الفكر البعثي فكراً علمانياً وذلك على العكس من الكثير من المعلقين السياسيين الغربيين والعرب.
إن التردد الخجول للعلمانيين العراقيين والعرب، عدا القلة منهم، في إنتقاد هذه الحضارة علناَ وكشف عيوبها ونقاط ضعفها الكثيرة تركت الإنطباع لدى الشباب العراقي داخل وخارج العراق بإن هذا الفكر المعادي للحداثة والكاره للآخر لا يرقى اليه الشك ولا منازع أو بديل له. وأنا هنا لا أدعو بالتأكيد الى محاربة أو منع الفكر الديني تحت أي ظرف من الظروف فهذا غير مجدي وينافي الديمقراطية بل هو الطريق الأكيد الى شمولية أسوأ ولكنني أدعوالى توكيد مشروعية الإشهار بعدم الأيمان بهذا الفكر و في التوكيد على أن بمقدور الفكرالعلماني أن يوفر البديل الحضاري والأخلاقي للفكر الغيبي وأن يبارزه في كافة نواحي الحياة.
إن على العلمانيين أن يوضحوا بإن هيمنة هذا الفكر هو السبب في فشل البلدان الإسلامية جميعها في أن تبني نظاماَ ديمقراطياَ. وهو السبب في أن جميع الإرهابيين الدوليين هم من المسلمين، نعم جميعهم. وهو كذلك السبب في السهولة البالغة في إنتشار الإرهاب بين العراقيين والذي لم يكن الإرهاب معروفاَ لديهم قبل 2003، والذي جعل أعداداً كبيرة منهم تتجه فجأة الى ممارسة أبشع الجرائم البربرية بدم بارد.
إن المعركة الدموية بين الحداثة والأصولية في العالم الإسلامي تدور رحاها اليوم على أرض العراق وقد إنتصرت الأصولية في الجولة الأولى منها. وعلى المثقفين العلمانيين شد أزرهم للمشاركة الفعالة في الجولات المقبلة.
(نص محاضرة ألقيت في ندوة التيار الديمقراطي العراقي في لندن في 3 شباط 2007)