كتَّاب إيلاف

أمّ كلثوم، مُطهَّرة أمْ مَحظيّة؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

1
عشقُ الطرب العتيق، الأصيل، كان وما زال متأصلاً في معظم الناس. وطربُ كوكب الشرق، الخالد، المافتيء على إشعاعه ونضارته في ليل السهر والسمر، هوَ وصفة سلوان، ناجعة، في كربة حياتنا. مثل لدّاتي في سنّ المراهقة، المبكر، كانت لي بدوري أغنياتي المحببة، المفضلة، لهذا المطرب أو تلك المطربة. ولكنّ تعرّفي على صوت أم كلثوم، الآسر، هوَ من الذكريات غير الممكن أن أسلوها قط. كان ذلك في ساعة مساء ربيعيّ، المُعتادة فيها إحدى محطات الإذاعة على بثّ أغنية " كلثومية " بتوقيت يوميّ محدد، دائب. وإذاً، ففي حجرة أقرب أصدقاء الطفولة والفتوة إليّ، رحتُ أنصت ساعتئذٍ إلى مقدمة أنشودة " هذه ليلتي "، المعجّزة، فرأيتني أنشدّ لها بكل جارحة في نفسي، متابعاً هكذا مقاطعها جميعاً، المطوّلة، دونما إنتباه لحلول الظلمة الحالكة من حولنا. قبلاً، كان لي وصالُ طربٍ آخر، مع نجاة الصغيرة؛ وهيَ المغنية الرائعة، الدافئة الحنجرة، والتي هيأت مقطوعاتها الطويلة نسبياً، فضلاً عن طريقة إنشادها، دربَ إعتيادي على الغناء المعتق والمؤدي، لاحقاً، إلى سيّدته؛ إلى أم كلثوم، سيّدة الغناء العربي. إسمُ أحمد رامي، كان أيضاً مألوفاً لسمعي، منذ تلك الفترة عينها، المراهقة، المُبحرة عَبْر عمري. ولكنني هنا، أبادرُ للإعتراف من فوري، بأنّ الكتاب الوحيد المُتسنى لي قراءته لهذا الشاعر المصريّ، الرومانسيّ، ما كان وقتئذٍ سوى ترجمته الجميلة لـ " رباعيات الخيّام ": جرى ذلك، للصدفة، مباشرة ً بعيْدَ تعرّفي على صوت أمّ كلثوم. فقد كان كتابه ذاكَ، الموسوم، بعضاً من متاع مكتبتي، الحافل بالمجلدات والمجلات، الأدبية والسياسية والفكرية. وإذاً، ما كان لي إلا التولّه بالرباعيات تلك، الخالدة، خاصة ً وهيَ المغناة، كأروع ما يمكن أدائه، بصوت مطربتي المفضلة. فضلاً عن أنّ ذلك الكتاب نفسه، كان مرقشاً برسوم منمنماتٍ مدهشة، إيروتيكية، موضوعة من لدن فناني " فارس "، العظام. ولا أذكرُ أنّ مطبوعاً آخر، أدبياً، قد طبَعَ أثره على نفسي ـ في تلك المرحلة، على الأقل ـ كما فعله شعر عمر الخيّام ذاكَ، المردود للعربية بتعابير شاعر مرهفٍ، غنائيّ النفس؛ كأحمد رامي. إذ أفاضَ النصّ، مُترجماً، بمكنونات روح قلقة، ضائعة، متخاطفة الأهواء بين المتعة والصَوْن؛ بين الشك واليقين. من جهتي، كنتُ حتى في ذلك العمر الغضّ، متحرراً تماماً من أيّ رابطةٍ غيبيّة، إيمانيّة. بيْدَ أني، للحق، إنجذبتُ إلى سحر الصوفية المشرقية هذا، الموغل في تعرية النفس؛ في مماحكة تجديفات أقطابها ومريديها، وشطحاتهم، الزاعمة تماهيها بالخالق والتوحّد في كينونته. ما كان قد جاز لعلمي بعدُ، أنه في سبيل شِعر الخيّام، غامر رامي بالسفر إلى باريس في مبتدأ عشرينات القرن المنصرم، لكي يدرس في جامعتها العريقة " السوربون " اللغة والأدب، الفارسيَيْن؛ هوَ من كان نذرَ نفسه لنهل هذه الرباعيّات نفسها من منبعها الأصل.

2
" كانت الفرقة قد إحتلت مكانها على المسرح؛ فلاحان يرتديان الجبّة الرمادية الطويلة ويعتمران العمامة؛ شيخان وفدا لتوهما من القرية؛ أمامهما، في الوسط، صبيّ لا يُحرك ساكناً، وقد إقتعد كرسياً، وبدا الذعر على محيّاه، فيما يداه مشبوكتان فوق بطنه، باذلاً ما بوسعه لإظهار صرامةٍ في القسمات بمقدار ما يستطيع مراهقٌ مثله إلى ذلك سبيلاً. لا يُرى منه إلا اليدان والوجه؛ وجه مستدير، منتفخ قليلاً، أقرب إلى الدمامة لو لم يتسع لعينين واسعتين سوداوين. وبرغم القيظ الشديد والكشافات، كان يلف جسمه بعباءة بدوية ويغطي رأسه بعمرة مشدودة على الرأس بحلقتين، معقودة أسفل الذقن " (*): هكذا يصفُ أحمد رامي ذلك " الصبيّ المراهق "؛ الذي ما كان سوى أم كلثوم، بذاتها، حينما رآها للمرة الأولى على أحد مسارح القاهرة، وكانت برفقة أبيها وأخيها الكبير. جرى ذلك بعيدَ عودة شاعرنا من دراسته في مدينة النور، وبتدبير من صديقه، عبد الوهاب. هذا الأخير، أرادَ يومئذٍ مفاجأة رامي بمرأى مغنية شابّة، صاعدة في موهبتها وحضورها، وهيَ تنشد قصيدته " الصبّ تفضحه عيونه "، والتي سبق أن لحنها الشيخ أبو العلا، لما كانَ ما يزال طالباً في باريس. معرفة حقيقة المنشدة تلك، المتماهية بزيّ الرجال، كانت مفاجأة اخرى لشاعرنا: إنها من " طماي الزهايرة "، في دلتا النيل؛ من عائلة فلاحين كان رأسها شيخ المسجد، الوحيد، في البلدة تلك. ويبدو أنّ إبن العائلة ذاكَ، الكبير، كان قد سبق له الإنشاد في الموالد، حتى لحظة ترامي صوت شقيقته، الصغرى، المنغم والمتطاول النفس؛ اللحظة الحرجة، المتعيّن فيها على الأب التفكير ملياً وهوَ في تردده بينَ تحفظه التقليديّ، وضيق حاله، الزريّ. ولكن في ذلك اليوم، القاهريّ، الشاهد على لقاء الشاعر والمُنشدة، كانت هذه الأخيرة قد قطعتْ مسافة غيرَ هيّنة في مستهل رحلتها / مغامرتها الكبرى، نحوَ سماء الفنّ الشرقيّ؛ لتسطع فيه بعدئذٍ ككوكبٍ متبوّج الأنوار ومتوّج الإسم. وعلى كل حال، فقد دشن اليوم ذاته، المشهود، ولادة صداقة أبدية، خالدة، بين منشدتنا وشاعرها الأثير، أحمد رامي.

3
منذ مستهل تلك العلاقة الحميمة، بين المبدعَيْن هذيْن، كان ثمة ميلٌ غيرَ متكافيء لكفة أحدهما على حساب الآخر. إنّ رامي، الجمّ التواضع والدمث الخلق، كان متساهلاً جداً مع حقوقه ـ كمؤلف أغاني؛ مساهلة، فيها ما فيها من إستهتار أنه كان يرفض غالباً قبول ثمن أبياته الشعرية، البديعة، المنذورة لفنّ من أضحَتْ لاحقاً معبودته. فالطبع الريفيّ، المتميّز عموماً بالتقتير والحرص، وجدَ له هنا مكاناً في المسألة، وتمادى في إجحافه وجحوده إلى النهاية. هيَ ذي شقيقة شاعرنا، توبّخه بحنق: " لقد جنتْ ثروة بفضلك، الملايين، وأنتَ ماذا جنيتَ؛ تدفع لكَ جنيهين أو ثلاثة للقصيدة، هذا إذا دفعَتْ ! ". ولكنّ رامي، بطبعه المعلوم، تجاهل كل ذلك من أجل أن يبقي على تلك الصداقة، الوثيقة، المصّاعدة الخطى هوناً نحوَ حبّ حقيقيّ ـ من جانبه، على الأقل. وبلغ به التعلق بمن كان يدعوها تحبباً " فلاحتي الصغيرة "، أنه خضعَ أيضاً لرغبتها في تأليف الأشعار بالعاميّة، مقتنعاً على مضض بحجة كونها لغة الطرب، التي يفهمها الجميع. هذه النقلة، النوعية، في مراتب البيان والنغم، أدى في النهاية إلى إبتعاد أم كلثوم عن الشيخ أبو العلا، مكتشفها، حيث ما لبثت أن إستعاضت عنه بملحن جديد، أكثرَ شباباً؛ هوَ محمد القصبجي. بيْدَ أنّ غلبة العامية على الفصحى، في ميدان الغناء خصوصاً، ما كان حالة فريدة، معزولة عما شهدته مصر من تطورات على كافة الصعُد. وكان عبد الوهاب، الموسيقار المُحدّث، من أكثر المتحمسين للموسيقى الغربية، وضرورة تهجين مثيلتها، المشرقية، بها. موسيقارنا هذا، ذهب أبعد من ذلك في معتقده، بما كان من دعوته البلاط الملكي لرعاية مؤتمر دولي، في أوائل الثلاثينات، تحت مسمى " التقليد والحداثة ". كانت أم كلثوم ثمة، تراقب عن كثب ما يدور؛ هيَ الماحضة مقتها المستطير لعبد الوهاب. وبتبنيها لأطروحات المتزمتين في الفن، الحريصين على ما كانوا يسمونه " قدسية التراث "، دبّ إذاً ما بدا أنه قطيعة، نهائية، بينها وبين موسيقارنا ذاك، الحداثويّ، ضافرَها هزيمة أطروحاته التجديدية، والتي تجاهلها المؤتمر. للحق، فإنّ إنحياز فنانتنا للمحافظة، ما كان موقفاً عابراً، سبّبه خلافها ذاكَ، الموصوف، مع عبد الوهاب؛ بل كان عن قناعةٍ مترسخة في أعماقها: فأم كلثوم، علاوة على منشئها في تربة دينية، أضحتْ مقتنعة بدورها ذاكَ؛ هيَ المنعوتة بإسم بنت الرسول، تيمّناً بولادتها في ليلة القدر ـ كما رسخته فيما بعد سيرتها المكتوبة أو المقدمة فنياً في هذا الفيلم وذاك المسلسل، والتي جعلت منها شخصية مطهّرة. ما قدّر لفنانتنا، والحالة تلك، أن تشبّ كنبتة متمردة قط. وحتى تثقيفها المثابر لنفسها، المدهش حقاً، فقد إنحصر في كلاسيكيات التراث. كما أنّ تحديها لعائلتها، في مسألة الحجاب، مثلاً، ما كان سوى مسايرة ً لعقلية المجتمع الراقي زمنئذٍ؛ هيَ التي صارت نجمة سهراته وحفلاته في " دار الأوبرا " وغيرها من الأماكن. لقد أسبغ عليها في الفترة نفسها لقب " كوكب الشرق "، بعدما طار صيتها في العالم العربي، وتحديداً إثر إفتتاح إذاعة " صوت القاهرة " بتسجيل حيّ لأغنيتها " جنة نعيمي في هواك "، من كلمات أحمد رامي.

4
" كانت تحبّ النساء، أعلمُ، ولكن ليس بالطريقة التي يلمّحون إليها. لقد فتحت عينيها على عالم حيث الرجال، كل الرجال، يشبهون والدها، بالطغيان نفسه، وبالعناد نفسه، وبحسّ التملّك نفسه. فبحثتْ عن الأمان في جنسها هيَ. وكانت تردد على مسامع الجميع: لن أتزوجَ لأني تزوجتُ فني، ويجب أن أكرس نفسي لما وُهبته، ولجمهوري الغيور. وبذلك كسرتْ العرف، وما كانت لتعرف عرفاً آخر، فوجدت نفسها بلا أعراف ": هذه الكلمات، المكشوفة، المسجّلة روائياً على لسان أحمد رامي في السيرة الكلثومية، المتخيّلة، تضعنا في صميم المسألة الشخصية لفنانتنا والتي كانت كما رأينا " معلومة " من معاصريها. نستطيع هنا، في مسألة إستنفاض سيرة كوكب الشرق، الإحالة إلى عالم طفولتها وفتوتها وما كان عليها أن تجتنيه آنئذٍ من تربية متزمتة وعسرة. ذلك العالم، المحصور في قرية صغيرة، لم يُتح لها فرصة للتعليم، ولا حتى في الكتاتيب. وبالمقابل، فإنّ الأخ الأكبر كان قد حظيَ بتلك الفرصة؛ هوَ المتعيّن عليه، حتى في المراحل التالية من صِبا فنانتنا، أن يكون العين اليقظة، المنتبهة لكل ما ظهر وخفي من أمورها. هذا الشقيق، المتناهي الفظاظة في تدخله بأخص تفصيلات حياة أم كلثوم، الفتية، ما عتمَ أن تحوّل إلى " رجل أعمالها "، خالعاً من ثمّ جبته وعمامته مكتسياً بالقيافة الفرنجية، لكي يكون لائقاً بصفته تلك. الأب إذاً، يُسلّم تلك " الوديعة "، الثمينة، إلى أخيها الأكبر؛ وديعة، سيتسلمها لاحقاً وبدورهم رجالٌ آخرون، ما كان همهم أكثر من إستغلال صوتها الرخيم، المعجزة. لا غروَ والحالة تلك، أن تمحَضَ فنانتنا جنسَ الرجال مقتها وإزدرائها، وكذلك أن تسعى لتكبيل المحيطين بها منهم بأغلال الحاجة، جسدية كانت أم مادية. عالم الطفولة الكلثومية ذاكَ، وملحقاته، ليُذكرنا بمثيله في سيَر الطغاة، عموماً !.. وما كان إتفاقاً ربما، أن تبدو أم كلثوم على المسرح متفردة، بلا كوْرَس، كما لو أنها ملكة حقيقية، تمتلك مشاعر الحضور بطغيان صوتها، المذهل في طبقته وأدائه. هكذا طغيان، نستعيدُ به حضور " الزعيم القومي " خلف الميكروفون، المتفوّه البليغ، الملهب حماسة الجماهير: إستعادة، أيضاً، للشخصية الناصرية بالذات، التي تولهت بها كوكب الشرق وأسهمت بقوة في ترسيخ حضورها في وجدان تلك الجماهير بين المحيط والخليج. هنا أيضاً، في العهد الجمهوري، تمّ إختيار فنانتنا هذه لإفتتاح محطة " صوت العرب "، الموكل لها إثارة الأمة العربية وحشدها خلفها " رائدها "، الناصر، والمودي بها أخيراً إلى الإحباط واليأس، إثر هزيمة حزيران 1967. قد يتبادر للذهن لوهلةٍ، أنّ أم كلثوم ـ كمطربة قبل كل شيء، ما أبهتْ إلا لفنها وجمهورها، وأنّ مسألة تزلفها للسلطة ملكية كانت أم جمهورية، بقيت في حدود ذلك الإهتمام. هذا صحيحٌ، إنما في الظاهر حسب. لأنّ فنانتنا، خلال حياتها الحافلة، وإن وثقت علاقاتها مع القصر والمعارضة الوفدية، بنفس الدرجة كما بدا لكثيرين، إلا أنها كانت تجدُ نفسها ـ هيَ المنحدرة من الريف ـ غريبة عن ذلك العالم الأرستقراطيّ، المتعالي، المانح إياها دوماً نظرة السيّد إلى محظيّة أثيرة: وحدهم، إذاً، إنقلابيو تموز 1952، القادمون من أعماق ريفها نفسه، من وجدتْ أم كلثوم في كنفهم الأمان الحقيقيّ، المفتقد، الذي كانت تعتقد قبلاً أنها لقيته في فنها. في هذا الختام، أستعيدُ ما حفظته ذاكرتي من مفتتح قصيدة المبدع محمد خير الدين، التي نذرها لكوكب الشرق بمناسبة زيارتها للمغرب في نهاية الستينات: " غني أم كلثوم / غني، يا محظيّة القرن العشرين".

(*) من كتاب " كان صرحاً من خيال.. " لسليم تركيّة / ترجمة بسام حجّار ـ بيروت 1999: والاستشهادات الواردة في مقالتنا مستلة من هذه السيرة الروائية الممتعة، المتخيلة.

Dilor7@hotmail.com



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف