كتَّاب إيلاف

كشف المستور في أمور الدستور

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

(1)
في برنامج أكثر من رأي على قناة الجزيرة (19 يناير) حول الإخوان، تحدث د. حسام البدراوي، أحد قياديي الحزب الوطني الحاكم في مصر، عن "(..) التخوف الموجود، من التيارات السياسية الإسلامية أو القبطية اللي عايزة تحط إطار الدين في السياسة". لا نعرف بالضبط مصدر معلوماته البلهاء عن "التيارات القبطية" التي تريد وضع "إطار الدين في السياسة" (!!)، ولكن هذا الكلام يؤكد، على أي حال، ما ذهبنا إليه من قبل؛ أن نتيجة إضافة فقرة حول الأحزاب إلى المادة 5 ـ وبدون تعديل المادة الثانية ـ هي غلق الباب أمام إمكانية قيام حزب "قبطي" (بغض النظر عن كون هذه الفكرة غير موجودة أصلا). لكن ماذا عن التيارات الإسلامية (الإخوان) وإمكانية تكوين حزبهم؟ وعلى أي أساس يكون هذا الحزب؟
في نفس البرنامج، يقول الأستاذ إبراهيم منير، عضو مكتب الإرشاد للجماعة، أن الإخوان يتقدمون بطلب حزب بناء على المادة الثانية من الدستور، ويؤكد أنهم لا يريدون أن يكون الإسلام هو "المرجع الوحيد"، ولا يطالبون بأكثر مما هو موجود في المادة الثانية وأن يكون حزبهم "بناءً على ثوابت الدستور المصري الموجود الآن..".
لن ندخل في الضمائر، ولا حتى نحاول استقراء التاريخ وأدبيات الجماعة ولا تخمين استراجياتهم وتكتيكاتهم المعروفة لنستنتج أن هذا الكلام من قبيل التقية، فهذا موضوع آخر؛ لكن المهم تكرار أن قيام حزب إخواني بناء على الدستور الحالي واستنادا إلى المادة الثانية هو أمر لا يمكن للجنة أو محكمة أن ترفضه، وأن التعديل المقترح لن ينجح في إغلاق الباب أمام حزب إخواني لأنه ببساطة يتناقض مع المادة الثانية التي تحدد طبيعة نظام الحكم.

(2)
في جلسة مجلس الشعب المصري يوم 17 يناير أعلن المهندس سعد الحسيني الأمين العام لكتلة نواب الإخوان أن "الحزب (الحاكم) يستند على مرجعية دينية" مستشهدا على ذلك بصفحات كاملة في برنامجه تتحدث عن "الدين وكونه مردودنا الثقافي، وعن الشريعة الإسلامية وثقافة الأمة الدينية، ويورد ألفاظا تشبه تماما تلك التي نقولها نحن - الإخوان المسلمون - عن المرجعية الدينية أو علاقتنا بالدين".
واستطرد الحسيني، طبقا لتقرير بثته قناة "العربية" حول ما جرى: "قلت لهم في مجلس الشعب، نريد إنشاء حزب ذي مرجعية دينية إسلامية (..) ويؤيدني في ذلك برنامج الحزب الوطني. ويؤيدني في ذلك ما فعله زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، وكمال الشاذلي (وزير الدولة السابق لشؤون مجلسي الشعب والشورى) في موقفهما الرائع من قضية الحجاب، فما الذي دعاهما للانفعال بعد تصريحات وزير الثقافة فاروق حسني؟.. لقد كان السبب أن ذلك هو دينهما وثقافتهما".
وجاء ضمن صفحات برنامج الحزب الوطني التي استعرضها المهندس الحسيني "إن (..) نظرتنا إلى بناء الإنسان المصري وتحقيق رفاهيته لا يمكن أن تنفصل عن قضية إذكاء القيم الروحية والدينية لديه وذلك بمزيد من الاهتمام بالتربية الدينية وبث روح التضحية والفداء، لذلك كان طبيعيًا أن يؤكد حزبنا على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بحيث يلتزم المشرع المصري بمبادئ الشريعة فيما يصدره من قوانين".
وتضمنت أيضا: "(..) الحزب الوطني الديمقراطي يدعو إلى العناية الفائقة بالدعاية الدينية للمجتمع في كل المجالات". كما دعا البرنامج إلى نشر التعليم الديني في جميع المراحل الجامعية لسد الفراغ الديني والنقص العلمي في التعليم الجامعي". وطالب الإعلام بالتركيز على جانب القيم والأخلاق والتوجيه الديني (..) وتضمن نصوصا تؤكد المرجعية الدينية للحزب الحاكم.
وأشار الحسيني إلى أن "د. عبدالأحد جمال الدين رئيس الهيئة البرلمانية علق على المادة الثانية وتناقضها مع التعديلات الدستورية بأن المعاملات فقط هي المقصودة بالشريعة الإسلامية، لكن هذا غير صحيح فهي أشمل من هذا، وتضم العقائد والعبادات والأخلاق".
نشكر السيد الحسيني على تذكيرنا ببرنامج الحزب الحاكم. ولا شك أن أي مراقب محايد سيدرك على الفور أن الوعود الوحيدة التي نفذها الحزب، وبكفاءة شديدة، أثناء فترة حكمه التي امتدت ثلث قرن هي تديين مصر إلى حد الهلوسة وإعداد الطريق أمامها لتصبح "مصرستان" في أقرب فرصة. ومازالت لنا هذه التساؤلات: ما هو رأي الحزب وقياداته وحكومته في "المقصود" بالشريعة كما هي مذكورة في الدستور؟ وأي دستور هذا الذي لا يعرف رئيس الهيئة البرلمانية للحزب الحاكم (ناهيك عن المواطنين الغلابى) ما هو المقصود بالضبط من مواده الحاكمة؟ أم إنه يعرف ـ كما نعرف ـ ولكن "زنقة الموقف" دفعته للتخبط؟ وما هو الفرق بين الحزب "الوطني" الحاكم والحزب الإخواني المزمع والمتطلع للحكم؟؟ ألا تدل "ايديولوجية" الحزب الوطني وتصرفات أعضائه على أنه إخواني الشكل والمخبر؟ وهل إذا كانت المادة المعدلة ستحظر قيام أحزاب على "أسس دينية" سيقوم الحزب الوطني بحل نفسه والتقدم بطلب جديد، بناء على برنامج جديد، للجنة الأحزاب (التابعة له!)؟ وبالمناسبة: لماذا لا يتحد الإثنان (الوطني والإخوان) في حزب واحد فيستريحون ويريحون؟؟

(3)
يشير الأستاذ فهمي هويدي، وهو من كبار كتاب "التيار الإسلامي" (الأهرام 23 يناير)، إلى تقرير شهير لهيئة مفوضي مجلس الدولة أعد في عام rlm;91 ردا على طعن أحد الدعاةrlm; (rlm;السيد يوسف البدريrlm;) ضد لجنة الأحزاب التي رفضتrlm; طلبه بتأسيس حزب باسمrlm; "الصحوةrlm;". يقول تقرير الهيئة، التي كان يرأسها وقتذاك نائب رئيس المجلس المستشار طارق البشري، أنها خلصت إلي ما يليrlm;:rlm;
[أن الباب الأول من الدستور المصري أورد مجموعة من المواد التقريرية والتوجيهية في مقدمتها النص علي أن الاسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة الاسلامية تمثل المصدر الرئيسي للتشريعrlm;.rlm; وثمة نصوص اخري تعلقت بطبيعة نظام الدولة وأشارت إلي ممارسة الشعب لسيادته وحمايته وصونه للوحدة الوطنيةrlm;..rlm;إلخrlm;.rlm;
في الفقه القانوني فإن الأحكام التقريرية والتوجيهية للدستورrlm;rlm; لا يراد بها فقط تثبيت الملامح القائمة ولكنها ايضا ترسم سياقا وحركة لمستقبل نشاط مؤسسات الدولة والمجتمع بأسرهاrlm;.rlm; كما أنها تجدد المقاصد العامة لأصول الشرعية التي تقوم عليها الدولة والمجتمعrlm;rlm;].rlm;
ويستنتج الأستاذ هويدي "إن الدستور هو أول تعبير تشريعي عن الأصول المرجعية للمجتمعrlm;.rlm; وإذا كانت الإسلامية لا تعبر في الدستور عن وضع طائفي، فإن ما ورد في قانون الأحزاب من حظــر قيام الحزب علي اساس طائفي rlm;(rlm;أو غيرهrlm;)rlm; لا يشكل حظرا متعلقا بالدعوة الإسلامية المجتمع أو الدولة المنصوص عليه والمقرر بالدستور ذلك أنه لا يصح باي معيار أن يمنع قانــون الأحزاب ما أوصت به وأرشدت أحكام الدستورrlm;".rlm;
ويضيف (وهو ما سبق أن نوهنا إليه عدة مرات) أن "قانون الأحزاب الذي حظر قيامها علي أسس طائفية أو طبقية نص ايضاrlm; (rlm;في مادته الرابعةrlm;)rlm; علي ألا تعارض مبادئُ الحزب وأهدافُه مبادئَ الشريعة الإسلامية التي هي المصدر الرئيسي للتشريعrlm;.rlm; و لا يصح في العقول أن يحظر القانون الأمر ونقيضهrlm;.rlm; فيحظر التعارض مع الشريعة الإسلامية ويحظر الدعوة إلي نظم يستخلص منها أو يحظر الدعوة إلي تطبيقهاrlm;".rlm;
وكل هذا الكلام عين العقل، لأنه يؤكد أن الأستاذ هويدي والأستاذ البشري (الكاتب الإسلامي الحالي، والمستشار السابق بمجلس الدولة) يفهمان الدستور على حقيقته تماما..
وكل هذا يؤكد، مرة أخرى، أن مشكلة الدستور المصري هي في تحديد طبيعة الدولة ولا يكفي أسلوب الترقيع ووضع العبارات المتناقضة لعلاج المشكلة، أو بمعنى أدق محاولة إخفائها. فالسؤال الحقيقي هو: ماذا نريد بالضبط؟ دولة مدنية، أم دولة دينية (أي دولة ذات مرجعية دينية)؟

(4)
من ناحية أخرى، يتساءل البعض عن معنى "الدولة المدنية"، لأن أدبيات النظم السياسية في العالم لا تعرف هذا المصطلح، وإن أقصى ما قد يشير إليه هو كونه عكس "الدولة العسكرية". ويبدو أنه يُستخدم في منطقتنا كبديل ومرادف لمصطلح "العلمانية" الذي أصبح محملا، بفعل الهجمات المضادة، بمعاني ترتبط بمعادة الدين.
وبالطبع فإن الغرب وباقي أنحاء العالم المتحضر، التي تجاوزت مشاكل الدولة الدينية ونظم الإنقلابات العسكرية، لم تعد في حاجة لصك تعبيرات جديدة بهذا الشأن. ولكننا لا نرى بأسا من استخدام هذا المصطلح ليعبر عن "خصوصية أوضاعنا" ويصبح دليلا على الرغبة في إقامة نظام سياسي يتميز بكونه نقيضا لكل من "الدولة العسكرية" و "الدولة ذات المرجعية الدينية".
المشكلة تبقى في حفظ مصطلح "الدولة المدنية" من المتناقضات.
لكن المثير للقلق أنه قد أصبح من المتداول بصورة متزايدة على ألسنة الكثير من "المفكرين" والقادة الحزبيين أن مصر "دولة مدنية ذات مرجعية دينية". وفضلا عن كون هذا بالضبط ما يقول به الإخوان، فإن التعبير هو نوع فاقع من التناقض الداخلي (oxymoron) الذي لا يختلف عن تعبيرات "دولة رأسمالية ذات مرجعية ماركسية" أو "دولة أبارثهايد ذات مرجعية مساواة (أو العكس)" أو مقولات بلا معنى مثل "ينبوع من الماء الجاف" أو "الظلام المضيء". بل إن الدكتور محمد كمال، عضو هيئة مكتب أمانة السياسات بالحزب الوطني، قد زاد الطين بلة ـ كما يقولون ـ إذ نفى في تصريح للأهرام (4 فبراير) أن الاتجاه لتنظيم العلاقة بين الدين والسياسة في مصر يعني فصل الدين عن الدولة أو إفراغ المادة الثانية من الدستور من مضمونها!

***
باختصار: إن كانت حكومتنا العزيزة تسعى ـ دون أن تعلن ـ إلى مساعدة الإخوان على تقنين أوضاعهم وتأسيس حزب لهم؛ فقد نجحت، وها قد بدأت الخطوات الفعلية. وإن كانت ترغب في إقامة "دولة مدنية" عن طريق حظر الأحزاب الدينية وفصل السياسة عن الدين لكن بدون فصل الدين عن السياسة (!)، فهي لن تفعل سوى إقامة نظام فريد من نوعه يمثل إضافة مأساوية للتراث الدستوري العالمي: نظام شيزوفراني على طريقة "دكتور جيكل ومستر هايد".

adel.guindy@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف