كتَّاب إيلاف

أبو الفقراء لم يكافح الفقر فقط !

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الفقر ليس عيبا ، إنما العيب هو ألا نعترف بوجوده في مجتمعاتنا ، فان اعترفنا بوجوده فالمعيب هو ألا نفعل شيئا لمكافحته. ومن هنا فان الزيارة التي قام بها مؤخرا إلى البحرين أبو الفقراء البروفسور البنغلاديشي محمد يونس، حملت دلالات كثيرة و أعطت مؤشرات مهمة، رغم تشكيك البعض في صلاح تجربته لمجتمعاتنا المختلفة في أوضاعها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية عن مجتمعات جنوب آسيا.

فالزيارة التي جاءت بدعوة رسمية للإطلاع على التجربة الفريدة لهذا الإنسان الذي استطاع أن يحرر ملايين البشر داخل بلاده و خارجها من الفقر و العوز و البؤس والارتهان للمرابين، و أن يصدر نموذجه المتجسد في بنك الفقراء (غرامين) إلى أكثر من مائة دولة، فاستحق معها جائزة نوبل للسلام لعام 2006 ، هي أولا اعتراف رسمي بوجود ظاهرة الفقر المدقع. و هي ثانيا اعتراف بفشلنا في مكافحته بالوسائل و السياسات التقليدية القائمة على الصدقات و الزكوات والتبرعات والصناديق الخيرية من تلك التي لم تعالج المشكلة من جذورها بقدر ما سكنتها، بل بقدر ما رسخت ظاهرة التسول و الاستجداء فسهلت بالتالي لقوى الإسلام السياسي أن تقتات جماهيريا عليها. وهي ثالثا مؤشر على وجود توجه رسمي جاد للاستفادة من تجارب المجتمعات الشرقية الفقيرة الأخرى دون حساسيات أو اعتداد كاذب بالذات.

صحيح أن لكل مجتمع سمات و ظروف تختلف عن السائد و المتوطن في المجتمعات الأخرى، وبالتالي فان تجربة ناجحة في مكان ما في حقل من الحقول لا يمكن تطبيقها في مكان آخر عن طريق النسخ الكربوني. غير أن الصحيح أيضا هو أن الأفكار و الوسائل التي تنطوي عليها تلك التجربة بالامكان استيرادها و تلقيحها و تهيئتها لتلائم أوضاع مجتمعات أخرى إذا ما وجدت الإرادة الصادقة و الرؤى الخلاقة. و هذا ما فعلته أقطار كثيرة أقوى اقتصادا واقل فقرا و أكثر تمدنا من بنغلاديش، بما فيها الولايات المتحدة، يوم راحت تستنجد بالبروفسور يونس و تجربته الرائدة في بلده.

أما الحقيقة المغيبة إعلاميا في تجربة الرجل فهي انه حينما بدأ من الصفر و بالاعتماد على قدراته الذاتية المتواضعة في تأسيس مصرف غرامين، لم يسع فقط إلى تحرير مواطنيه من الفقر، و إنما أيضا سعى بالتزامن إلى تحريرهم من جملة من الخرافات و العادات الاجتماعية السقيمة. و الشق الأخير ربما كان أهم من الشق الأول لسبب بسيط هو أن الفرد في المجتمعات الشرقية مكبل بالكثير من العادات و القيم والأساطير البالية التي تحد من انطلاقه و تقتل فيه روح الطموح و الجرأة والإقدام و ترسخ فيه نزعة التوكل و القناعة بظروفه البائسة. و لعل ما يدلل على هذا هو الكم الكبير من الأمثلة الشعبية الدارجة التي تقدم عندنا للناس على أنها من جواهر الحكم (بكسر الحاء و فتح الكاف) ابتداء من مقولة "القناعة كنز لا يفنى" وانتهاء بمقولة " تجري جري الوحوش، غير رزقك ما تحوش".

و يكفي هنا أن نشير بإيجاز إلى أن القروض التي يقدمها مصرف غرامين إلى الفقراء بدون ضمانات مالية لتأسيس مشاريعهم الخاصة المدرة للدخل تشترط التزام المقترض بحفظ و تطبيق جملة من المباديء و القيم، تحت طائلة إلغاء القرض في حالة المخالفة. من هذه المباديء: الانضباط ، و الدأب، و احترام الوقت، و رفض الظلم للنفس أو للآخرين، و مساندة الآخر في أوقات الشدائد، و المحافظة على البيئة، و الالتزام بقواعد الصحة العامة، والمشاركة في جهود إصلاح ما تدمره الكوارث الطبيعية، و استخدام الغذاء الصحي كالحبوب و الخضروات، و ممارسة الرياضة البدنية الخفيفة، و عدم التهاون في إلحاق الأبناء بالمدارس. هذا فضلا عن مقاومة تلك العادة الاجتماعية المرذولة السائدة في مجتمعات جنوب آسيا ممثلة في دفع المرأة لمبلغ مالي للرجل الذي سيتزوجها على سبيل المهر.

و حينما يأتي ذكر المرأة، فان تجربة البروفسور يونس كان لها دور محوري و طليعي على صعيد تحرير النساء، ليس من الفقر و البؤس فحسب، و إنما تحريرهن أيضا من الخوف و التردد والاستسلام للهيمنة الذكورية و الرضوخ للعادات المقيدة لدورهن الطبيعي في المجتمع إلى جانب الرجل. وهو بتركيزه الشديد على أن تكون الأولوية هي للنساء في الاقتراض من مصرف غرامين، لم ينطلق فقط من حقيقة أنهن يشكلن نصف المجتمع أو لأنهن قوة عمل مهملة أو لأنهن فقيرات ويتحملن العبء الأكبر في الأسرة، و إنما أيضا لأن تجربته العملية أعطته مؤشرا على أن النساء بصفة عامة أكثر التزاما و جدية، و على أن الفوائد المتحققة للأسر تكون اكبر حينما يكون التحسن في دخلها متأتيا من تحسن دخل المرأة. ذلك أن عاطفة الأمومة تجعل تأمين متطلبات الأطفال من الغذاء و الكساء و الدواء في قمة سلم اولويات المرأة بينما الرجل لديه في العادة سلم مختلف للاولويات. و من هنا تحرص المرأة أكثر من الرجل على المثابرة و التوفير و عدم الإسراف وتنمية الدخل و الوفاء بالتزاماتها. و هذا بطبيعة الحال أحد الأسباب التي جعلت نسبة النساء من إجمالي عملاء مصرف غرامين تتجاوز 90 بالمئة.

غير أن هذا ليس كل شيء في تجربة يونس الفريدة. فهناك أيضا ما تأسس و ترسخ من قواعد وأساليب في كيفية الإدارة الناجحة للمؤسسات المعنية بانتشال المهمشين و الفقراء من قاع المجتمع. فمصرف غرامين لم يكتف بمكافحة الفقر و الترويج لبعض القيم الجميلة على نحو ما أسلفنا، و إنما استحدث أيضا نظاما إداريا يعطي أهمية قصوى لعملية الإبداع و النقد الذاتي، وتطوير آليات حل المشاكل و تبادل الأفكار و اختراع الحلول، و التمرن على الحوار و التفاعل والمناظرة، و إعطاء الأولوية لتحقيق الأهداف النبيلة و ليس للتقيد بالإجراءات الإدارية، و التعامل مع المتغيرات بمرونة شديدة، و غير ذلك مما خلق له وضعا فريدا و أخرجه من قائمة المصارف التقليدية الصارمة في أنظمتها و الجشعة في أهدافها.

و يكفينا على سبيل المثال الإشارة إلى كيفية تعامل مصرف غرامين مع أية فكرة جديدة قد تخطر على بال احد موظفيه. حيث بامكان صاحب الفكرة أن يرفعها إلى مديره المباشر ليرفعها هذا الأخير إلى رئيسه وهكذا، لكن إيمان المصرف بضرورة الإبداع و المبادرة، و بأهمية ألا تترك الأفكار الجديدة لتموت في القنوات البيروقراطية المعتادة، دفعه إلى إصدار صحيفة أسبوعية داخلية تتداول فيها الأفكار الجديدة بحرية و يضمن وصولها إلى كل مستويات القرار. إلى ذلك يسمح المصرف لمديري القطاعات فيه بتطبيق الأفكار و البرامج الجديدة دون معوقات، لكنه يشترط عليهم قبل تعميمها أن تجرب في فرعين في وقت واحد لتقليل أهمية العوامل الشخصية و المحلية.

نتمنى أن يكون قرار الإطلاع على تجربة البروفسور يونس و الاستفادة محليا منها خطوة عملية أولى نحو استلهام تجارب أخرى - و لاسيما في حقل التعليم المتطور - من آسيا الزاخرة بالدروس التنموية المدهشة.

باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف