حداثة الإسلاميين تكشف الادعاءات النظرية للمعتزلة الجدد.
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من اقتنع بعكس ما يُريد يصر على موقفه السابق..
تنطلق الحداثة،كما يعتقد أدونيس في الثابت والمتحوّل، من افتراض وجود نقص أو قصور معرفي في الماضي. وهي امتداد لعملية تحول وسيرورة لانهائية تسعى إلى سد النقص بنقلٍ ما، أو ابتكار ما.. بمكوّناتها الثلاثة : لا نهائية المعرفة، لا محدودية الإبداع، والكوزموبوليتانية (الاختلاف والتمايز والفسيفسائية الثقافية). وهي، أي الحداثة، بهذا التعريف الأوّلي عملية مفاهيميّة تتوازى مع الحداثية، الواقعيات المادية التحديثية، وتعكسها ؛ أيضاً فهي قد تسبقها أو تأتي تاليةً لها. الحداثة، إذن بحسب هكذا مقاربة، أبعد من حصرها في جنس أدبي أو رؤية ثقافية / إيديولوجية آحاد.هي،بمعنى أكثر إجمالاً: الحياة الجديدة، بوسائلها الجديدة.. بمقدورنا أن نعتبرها، كذلك، التماس طريق الكمال والاكتمال. رامبو، كشاعر مغامر اختصر إدراكه لمساقات التحوّل العام في الجملة الاجتماعية وما تفرزه هذه المساقات من حياة جديدة تتطلب طريقة قول جديدة وتصوّرات جديدة وإنسان جديد.. لقد نسَف[أعني رامبو] فرصة الخيارات والمواقف المترددة أمام إنسان العصر بعقيدته : ينبغي أن تكون حداثيّاً. رغم ما يبطنه مثل هذا القول من مصادرة فجّة لحق الذين يأنسون للحياة في الماضي، وربما اعتبرها كثيرون من عشاق القدامة شهوة وغواية لا تقل شعرية ومنطقيّة عن غواية الانشداد إلى المستقبل. أبعد من ذلك، فقد يتراءى لنا، هُنا، القداميّون كما لو كانوا أكثر إفادة من المفاهيم النظرية للحداثة، بالتحديد : من عقيدة سقوط الحتميّة ؛ وعليه يكون إسقاط حتمية الحداثة ( وما سيترتب عليه من إفساح لمجال للقدامة بإنساناتها ومفاهيمها لتعيش متجاورة مع الحداثة، ومحتف كلاهما بالآخر) متاقطعاً مع أحد أهم مفاهيمها التكوينيّة بوضوح شديد، ومتساوقاً معها.
أعلاه، مقدمة مهمّة للدخول في موضوعة حديثي هنا. فثمّة جدل غير متوقف، ولا يبدو أنه سيفعل، حول المشروع الإسلامي الراهن، وإمكانية تحديثه. حول استعداده البنيوي للعصرنة، حول سؤال المستقبل في التصور الإسلامي، ومكانة الماضي.. حول فكرة الانتظام في أنساق الماضي، بالتحديد : في مرحلة ما قبل الانقطاع التاريخي، كما يطرح الجابري،للخروج بمبادئ عموميّة يمكنها أن تتسع للتحولات الكونية الكبرى، من السياسة لحتّى الشعر، غير المتوقفة للحظة.. حول حداثة النظم وقدامة المبادئ؛ حول موقع المرجعيّة من الحداثة، وعلاقة المرجعية بسقوط النظام الشمولي والحتميّات.. حول الماضي كإضاءة، والماضي كعصر ذهبي يخلق نوستالجيا عارمة تجاهه.. حول العلاقة الجدلية بين الحُرية المطلقة والإسلام.. حول الرقابة على الإبداع، ولامحدوديته.. إلخ.
هذه القضايا، بمتعلقاتها الذهنية والواقعية العديدة، تُطرح بشكل حاد أمام المثقف الإسلامي، دافعة هذا المثقف إلى الخروج من خندقه القديم، وتحسس مكانه في المستقبل.. إن أول ما يمكن أن تنسفه هذه التحوّلات، في عملية إعادة ترتيب الفهوم الإسلامية، هو " المرجع الشخص، أو المفتي الفرد " لمصلحة نشوء المرجع - المؤسسة، كمحاولة عاجلة لتطوير النظرية الإسلاميّة، المتأخرة لظروف تاريخية جمّة،وسرعة الزج بها في تفاصيل سؤال الحداثة الضخم، بشكل مؤسساتي حداثي. يطرح د. محمد عمارة، في المنهج الإسلامي، خطاطة لهكذا تحوّل مطلوب في النظرية الاسلامية، بينما يشير د. الجابري إلى خانة اللامفكر فيه غير القابل للتفكير فيه، واللامفكر فيه القابل للتفكير فيه، كمناطق هادئة في الفكر الإسلامي، آن أوان الدخول فيها والانطلاق منها إلى المستقبل بحداثة إسلامية مرنة ذات طاقة استيعابية عالية. وبمثل هذه المحاولات يتحرّك حملة المشروع الإسلامي الأكثر مرونة "الإخوان" في عملية تهدِف إلى تأكيد حضورٍ لمرجعية لا تطرح شروطاً مسبقة قبل مساءلة تفاصيل الكثير من خاناتها المهمّة. وبينما يفعل الإخوان المسلمون، كمثقفين عرب مشغولين بأسئلة المستقبل العربي : الحرية والتعليم والحياة الكريمة، كلَّ هذا.. يخذلهم أدعياء الحداثة العرب الذين لا يبدو لكثيرين منهم أنهم فهموا من مضامينها أبعد من حرية الممارسة الجنسيّة وإشهارها، وإعلان نسف القيمة الاجتماعية وتوجيه العدوان إلى الآخر المختلف.فيما يمكن أن يعطي صورة مقلوبة للتيار السلفي الإسلامي بكل حمولاته من عنف النظرية والممارسة. كما سيعيد إنتاج القبيلة العربيّة بهيئة جديدة، لا أكثر. سأستعرض هنا موقف المثقف العربي الحداثي من الآخر الإسلامي، الراكض نحو التحديث بكل جدّية، في لحظة فارقة في التاريخ العربي الحديث.. معركة إنجاز مجتمع الحريّة والعدالة..
منذ عامٍ من الآن، كتب المثقف الإسلامي،محمد عبد القدوس، في صحيفة الدستور المصرية : سألت المرشد العام للإخوان المسلمين : ما الحل يا فضيلة المرشد ؟ ففاجأني المرشد بالقول : الحريّة هي الحل. أتصوّر أن إجابة المرشد هنا ليست مناورة سياسيّة، مهما كانت ارتباطاتها الظرفية، فهي تأتي إشهاراً لأصل من أصول المشروع الإسلامي الكبير "خلوا بيني وبين الناس".. ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. بيد أن حضور هذا الأصل الحداثي في النظرية الإسلامية لم يدفع الحداثيين العرب للوقوف بجديّة أمام تاريخ المشكلة العربية الحديثة، بالتحديد : المطالبة بنقل المعركة مع المشروع الإسلامي من الخانة الأمنية إلى صرَاع ثقافي حول إجابات أسئلة الحضارة والحداثة. أيضاً، فإنّ طرحاً حداثيّاً، بهكذا تقدّم، لا يتم التعامل الجاد معه، في حين اكتفى التنميطيّون من مثقفي النص السردي وملحقاته بإعادة نشيد القطيعة القديم، والزج بذات التّهم والمحاذير الرافضة للآخر الإسلامي، في سماء عربية لا ينقصها شيء كالحريّة، حتى على مستوى إجراء حوار حقيقي مع هذا الآخر الإسلامي. أنا، بكل تأكيد، لا أطالب المثقفين بتبني المشروع الإسلامي كنظرية في الحياة العامة، فقط أتساءل : لماذا تسقط الفهوم الثقافية الداعية للحوار وقبول الآخر، طبقاً لأحد أهم مضامين الحداثة، عند التعامل مع الطروح الإسلاميّة المدنية، بما فيها تلك الأكثر حداثة من مستوى تفكير المثقفين أنفسهم ؟ أبعد من ذلك : غالباً ما كان المثقف العربي داعية تحريض لأجهزة الدولة العربية القمعيّة ضد مقابِلهِ الإسلامي. فإلى اللحظة القائمة، لم يسجِّل أي مؤتمر أو تجمع لمثقفين عرب بيان إدانة واحد، على الأكثر، ضد إرهابات الأنظمة العربية تجاه المثقف الإسلامي الحداثي. ولكي تبدو الصورة " آيرونِك - أكثر سخرية" بشكل واضح، فإن عديداً من الصحف العربية هذا الصباح (11/2/2007) تحزّمت بمنشيت صغير يقول [صحيفة جورزاليم بوست : إسرائيل تبارك الحملة ضد الإخوان].. بالإضافة إلى بعض تصريحات سياسية خجولة، لمنظمات حزبية هُنا وهُناك، تحاولُ أن تتذكر أن الإسلاميين مواطنون أيضاً، ومن حقّهم أن يخضعوا لإجراءات التقاضي العادلة،كغيرهم.. هكذا، كأبعد ما يمكن أن يكون موقفاُ ثقافيّاً محايداً ومحترماً.
في سياق آخر، فقد رمى الإسلاميون أوراقهم الذهبية بغية تحريك الزمن العربي الساقط، كمحاولة للخروج من مأزق الوجود العربي - الإسلامي، بتحديث إسلامي واعٍ يسعى إلى ترميم كل مترسبات الحرب الباردة ومعادلاتها منتهية الصلاحية، ونسف التخندقات القديمة المتصارعة، والقفز على الجهوزيّات التشخيصية عالية العدوانية. لقد كانت البداية منذ عام من الآن. ففي العيد الأخير للراحل العظيم نجيب محفوظ، زاره وفد من مكتب الإرشاد الخاص بحركة الإخوان المسلمين. تقدم الوفد رأس حربة الحداثة الإسلامية، أبو الفتوح. قبّل أبو الفتوح محفوظَ في رأسه، وجبهته. كانت الصور الفوتوغرافية، للمشهد، مفاجئة.. تسونامي حقيقي، في مجتمعات اعتادت أن تفكر بنمطية، وأن تصنف بجهوزية فذّة، وأن تُحاكم الآخرين بعموميّات معبّأة سلفاً غير قابلة لإعادة المساءلة. في اللقاء نفسه قال أبو الفتوح : جئنا، رسميّاً، لنحتفي بهذه الشخصية العظيمة.. لنقول لمحفوظ لقد كنتَ واحداً من أهم أسباب نجاح الإخوان في الانتخابات، بسبب ما راكمته من تنوير في كتاباتك طوال عقود من الزمن. لقد ساعدت الناخب المصري في عملية اختياره، في انحيازه إلى خيار الاعتدال والوسطية ( بالطبع، لم تكن هذه الألفاظ هي ما قيل بالتحديد، لكن المعنى كان هو بكل دقة).
كان محفوظ محفوفاً بمريديه القُدامى، على رأسِهم القاص يوسف القعيد، الذي يبدو أنه أصيب بحمّى مفاجئة بسبب هذا الطرح. القعيد، كغيره من المنشغلين بكتابة النص الأدبي السردي، ربما اعتقد أن الفكر يكبح السارد، كما أعلن درويش في مرثيته لإدوارد سعيد، طِباق. لذا، فقد اكتفى القعيد بما سمعه عن الإخوان في الستينيّات، وبدت له مهمّة تفكيك البنية الفكرية للجماعة الإخوانية متاعاً إضافيّاً، ليس فيه ما يغري. آخذاً في الاعتبار أن تاريخ الجماعة هو محصلة لسجون وطوارئ، والبعد عن الشر أمتع. بالقرب من القعيد كان يقفُ الكاتب محمد شعير، يسجّل ما يدور لأخبار الأدب.. ويحرّف بمهارة صحفية بعضاً مما يقوله أبو الفتوح، بالتحديد : فيما يتعلّق بسيد قطب. فقد بدا أن أخبار الأدب لم تكتفِ بقول أبي الفتوح عن قطب : فكره غير ملزم للإخوان وهو خلاصة لفترة زمنية مرضية. فقد جعلتها الصحيفة : إن فكر سيد قطب حالة مرضيّة ! وهو التصريح الذي رفض أبو الفتوح نسبته إليه في حوار مع صحيفة العربي الناصري، فيما بعد.أبو الفتوح يتحدّث، الدهشة تكتسح التنميطييّن المحيطين بمحفوظ، بينما العظيم نجيب محفوظ يهزّ رأسه : كلام جميل جدّا.
وفدٌ آخر من مكتب الإرشاد اتّجهَ إلى أنيس منصور، في زيارة مرضية. النافذة شبه مفتوحة، والإخوان يحاولون النفاذ من خلال شقوقها إلى المثقفين، الطلائعيّين، لردم الهوة غير المبرّرة بين المعسكرين. أبو الفتوح يتحدث أمام المثقفين : من الطبيعي أن يكون هناك قصور في ما نقدمه من مشروع عام، فنظريتنا لم تشتبك بالواقع.. سنسعد كثيراً بملاحظات المثقفين، وسنحاول أن نحدّث مشروعنا كلما التصقنا بالواقع أكثر.. نحنُ بالكاد، ربما قالها وهو يبتسم، استطعنا أن نطل برؤوسنا إلى الشارع. لقد بدا، آنئذٍ، أن الإخوان يتحرّكون في الضوء الشديد، لأول مرّة في تاريخهم. لم تكن خبرتهم كافية بالمرة، بل لم يكن لديهم أي خبرة عن قواعد وإجراءات الحركة في النور. فهم لم يعيّنوا ناطقاً رسميّاً للتنظيم، في فترة زمنية تطلّبت مثل هذا الإجراء وبشدة. كما أن عديداً من طروحاتهم الفكرية، فيما يخص الدولة والمواطنة والحريّة والديموقراطية، هي طروحات قديمة وغير ناضجة بالمعنى الثقافي. ناهيك عن امتلاء الأدبيات الإخوانية بعموميّات لم يتطرق إليها تفصيل، إلى الآن.. الأمر الذي يجعل من تناولها بالسؤال والتفصيل مفرّخاً لعشرات من التصورات المختلفة، التي قد تبدو متناقضة وفاتحة، أو مغذّيةً، لشهية الشك في المعروض الإخواني. هذا ما حدث بالفعل، تحت وطأة هوس قيادات الإخوان بالميكرفونات واللقاءات الصحفية، في فرصة تاريخية غير مسبوقة. ثمّة عثرة واضحة في أدبيات المشروع الإخواني، في أكثر من خانة حداثية مهمّة. في حين تجاوزت ممارستهم السياسية الكثير من أدبياتهم النظرية بمراحل شاسعة ( تفوّق التطبيق على احتمالات النظرية). بمعنى أن حداثيّة الإخوان سبقت حداثتهم، حتى أصبحوا الآن بحاجة ماسة إلى ردم هذه الفجوة المتّسعة من خلال إعادة كتابة نظرية الإخوان الإسلامية الحداثيّة، تحت إضاءة جليّة من خبرتهم الواقعية واشتباكم النظري بالآخر وأسئلة الواقع السريعة والمخيفة.
كانت هذه هي الثغرة الأخطر، في تلك اللحظة، أعني تجاوز التطبيق للنظرية.. غير أن أحداً من المثقفين، خارج المعسكر الإخواني، لم يشِر إلى أي ثغرة جوهرية في المشروع الإخواني، في حين اكتفت جوقة الكُسالى بالحديث عن قضايا امتهنتها وسائل الإعلام الرسميّة في الدولة العربية، مثل موقف الإخوان من السينما والغناء والتدخين. وطبيعي أن لا ينظر الإسلاميّون في هكذا قضايا، غدت مدرّة للضحك أكثر منها مثيرة للتساؤل. وأسوأ من الحديث عنها هو توافق خطاب المثقف العربي وخطاب الإعلام الرسمي عند الإشارة إلى مشروع الإخوان. أيضاً، ظهور جماعة العسكرتاريا الليبرالية الجديدة، كمال جبريال - على سبيل المثال. خرجت هذه العسكرتاريا الفكرية إلى العلن لتحرّض أجهزة الدولة الأمنية ضداً لحق الإخوان في الوجود؛ لسحلهم في الشوارع والزج بهم في السجون، من جديد.. وكأنهم غير متّصلين بقديمهم الإنساني المأساوي. جبريال، وهو مثقف ليبرالي مهِم، يتقاطع بوضوح شديد مع رؤية رجل أمن الدولة لملف الإخوان المسلمين، ويهينُ الحداثة في واحدة من أبرز عقائدها : حريّة التمايز والاختلاف والمغايرة (الكوزموبوليتانية). ويبرّر القمع والنظام الشمولي، معيداً إنتاج أزمة الليبرالية العربية الأولى "المعتزلة" وممارساتها القمعية الدموية ضد المختلف الفكري، بفعل أحكام قاضيها الشهير" أبو داود" وسوط شاعرها الأشهر " الزيّات، مستشار المعتصم بالله " صاحب المقولة الدموية : الرحمة خورٌ في الحكم.. بينما كان المختلفون معه، ثقافيّاً، يلقون في تنّور كبير مليء بالويل، والتنوير.. أيضاً ! هكذا برغم كل ما سكبته المعتزلة من نظريات حول العدالة والتوحيد. صورة شبيهة لهذه الصورة الشائهة، القديمة، تُنتج الآن بذات المقدمات النظرية الصافيّة. بسيولة ممجوجة تسقط مفاهيم الحداثة، في ممارسات كبار مريديها، للمرة ألف.
يضاف إلى هذا، هوسٌ ماسوشي يعاني منه المثقف العربي المبدع، بتصنيفه لنفسه. نزوع قاتل للإقامة في خانة الضحية والمظلوم اليسوعي.. ذهنية تحاول أن تخرج من أزمتها مع الإبداع إلى أدوار بطولة افتراضيّة مع المؤسسة العربية المتاخمة للماضي،وفق فرزه لها.. تحضر مثل هذه النفسية في النص الإبداعي، كحالة معاناة جسديّة تناقض فكرة الاحتفاء بالعابر واللحظي ومع حقيقة انخراط منتج النص في فشله اليومي بصورة مخزية يصنعها هو، لا أحد سواه. تدفع هذه النفسية المرضيّة بكثيرين إلى التحرّش الفكري،والإبداعي أيضاً، بالمؤسسة الدينية والمجتمع العربي المتدين بطبيعته التكوينية، في انتظار أن تلتفت هذه المؤسسة إليهم ولو بتلميح من الدرجة العاشرة،بإمكانه أن ينفتح على تأويلات " التكفير أو التفسيق أو التحريض على القتل". شخصيّا، فقد حدث أن سمعت شاعراً عربيّاً يعلق على مناحة أقامها شاعرٌ زميلٌ له بسبب ما ناله، بحسب زعمه، من تكفير المؤسسة الدينية : لا أستبعد أن يكون دفع مبالغَ مالية ضخمة لمشائخ متطرّفين بُغية أن يصدروا حكماً بتكفيره، كشكل حداثي من أشكال الدعاية المدفوعة..لمصلحة كتابه الجديد.
فمن المفترض أن يكون دور "الضحية الفكرية والإبداعية" لافتاً لـعناية الرأسماليات الأوروبية، فتقوم، كما يتيح أفق التوقع، باحتضان هذا المهمّش،المهِم بمصادفة ما بعد التكفير؛ والدفاع عنه وربما التكفّل بنشر ما يكتب، ومنحه جائزة معتبرة عن دورِه في فتح نوافذ التنوير والتحديث و..إلخ، علّه يتمكن على إثرها من مواصلة حضوره الصوتي. هكذا، عناية الرأسماليّات، التي مارس ضدها، هذا المثقف العربي، تنويعات اللعن والمناكفة، في بداياته اليساريّة، سواءً في ذلك تلك البدايات التروتسكيّة أو حتى السارتريّة الأكثر أناقة. أعني تلك البدايات المفضية، بطبيعة نزوعاتها العنيفة، إلى يمينيّات متأخّرة.
عودة إلى لقاء الإخوان - محفوظ، فقد ابتسم يوسف القعيد، عبر أخبار الأدب، على إثر قراءته للقاء صحفي مع النائب الثاني لمرشد الإخوان، خيرت الشاطر، في أسبوع تالٍ للقاء الإخوان - محفوظ. كان الشاطر عاطفيّاً في تصوّراته، غير محدد في طرحه إطلاقاً. باختصار : لقد بدا كما لو كان يحاول، بنيّة ساذجة، نسف كل ما فعله أبو الفتوح، في الاحتفالية الرابعة والتسعين لميلاد محفوظ. تحدّث القعيد، في أخبار الأدب، عن سلامة وموثوقية ما ذهب إليه من أن الإخوان يعملون بالتقية، وأنهم لن يغيروا من فكرهم الخشبي الرافض لمعادلات المدينة. تجاهل، أيضاً، ما سمعه وقرأه منذ أسبوع واحد فقط. وبنفسية المنتصر على قناعته،التي يرفضها لأنه لا يريدها وحسب، حذّرَ المجتمع،بمعنى مستبطن تماماً، من تغيّر وشيك في قواعد اللعبة قد تقضي على منجزه الحضاري(!).. ختم كلامه بابتسامة، قال أنه، رسمها على شفتيه عقب قراءته لتصريحات الشاطر؛ و..." رجعت ليالي زمان ورجعوا أهالينا".
في الوقت نفسه.. عملية تطبيع حاولت أن ترسم خارطة طريق خاصة بها، بخفّة مدهشة بين الجماعة المحظورة والمجتمع المصري، بكل تنويعاته. توارت التّهم السابقة، إلى وقت غير معلوم. ظهرت تُهم جديدة، كما حدث مع مجلة المصور وما سمي بوثيقة فتح مصر. كان الهدف الأوّلي لهذه المحاولات الجديدة : إعادة وضعية الجماعة إلى المربع واحد، أعني: مربع القطيعة مع المجتمع المصري، بالتحديد : مع المثقف المصري.. الذي بدا أنه اقتنع إلى حد كبير بما قاله نجيب محفوظ في لقاء مع صحيفة الدستور lt;lt; لا يمكن أن نرفض الديموقراطية لأنها ستجيء بالإخوان.. أنا لا أخاف من الإخوان، وإذا اختارهم الشعبُ للحكم فخدعوه فعلى الشعب أن يدافع عن حقوقه ويحمي ديموقراطيّته دون وصاية من أحد.gt;gt;
الشروط الموضوعية الخارجية والداخلية، للنجاح، كانت مشاكسة تماماً للإخوان، تماماً كما هي مناوئة لأي مشروع إسلامي في المنطقة العربيّة، بيد أنّها كانت أكثر حدّة في المشاكسة في ساعة الدخول الكبير للإخوان إلى البرلمان المصري. فحركة حماس، التي فضحت ديموقراطية " الخداع الضروري" الليبمانية، تحاول أن تغير في قواعد اللعب الدولية مستفيدة مما حسبته انفراجاً لصالحها، وهو ما أربك الجلسات المغلقة في العواصم المهتمة بحركية المنطقة العربية. وهكذا، فإن صوت كونداليزا رايس الذي انطلق من الجامعة الأمريكية " فضلنا الاستقرار على الديموقراطية فلم نحصل على أيّ منهما. لقد آن الأوان أن ننحاز للديموقراطية في الشرق الأوسط ".. هذا الصوت خفت تماماً، وعاد الشرط الخارجي برؤيته السابقة لما يمكن أن تكون عليه المنطقة العربية : الاستقرار"طبقاً للرؤية الأمريكية " بدلاً عن الديموقراطية. بدا واضحاً، بعد ذلك، أن الرمال العربية التي تحرّكت من تحت أقدام الدولة العربية غير - الديموقراطية ( بحسب تعليق ليديعوت أحرنوت) في طريقها إلى أن تُصار إلى إسمنت مسلّح بالغ المتانة.. يشارك في تدعيمه المثقف العربي المنقلب على فهوم الحداثة برمّتها، وجهاز الأمن العربي المسؤول الثاني عن سقوط المجتمع العربي، كأمّة ودولة. أيضاً : ثمّ غطاء دولي رأسمالي، عنصري، استعماري لكل هذا. توليفة لظواهر قاتمة، لم تستفز المثقف العربي، مطلقاً.. فالمهم عنده أن لا تنجح الحداثة الإسلامية في معركتها الحضارية. بحزن بالغ، كان مهدي عاكف، المرشد، يعلّق عبر العربي الناصري : نحنُ لا نطالب بمطالب خاصة لنا. ما ندعو إليه هو جوهر ما تدعو إليه كل التنظيمات السياسية الأخرى. بيد أن فهمي هويدي كان واضحاً وعميقاً بشكل معهود عنه. ففي مقابلة مع " المصري اليوم" حذّر المتهالكين فرحاً بما يعانيه المشروع الإسلامي من مواجهة أمنية إرهابية : الإخوان ليسو مقصودين لذواتهم. المستهدف هو مشروع التغيير، ولو كان اليسار أو القوميون في مثل قوة الإخوان المسلمين كانوا سيواجهون نفس الحملة القمعية، وبمبرّرات أخرى.
تحللت قوانين الديموقراطية تماماً، بشكل مفاجئ.. وعادت قواعد اللعب القديم إلى الواجهة السياسية، تلك التي تفترض وجود مجتمع فائض عن الحاجة يمكن تسميته بالمجتمع المحظور، مهما بلغت قاعدته التصويتيّة، وقناعاته المدنية. وبصحبة هذا التحلل الرسمي العام للإدعاءات الديموقراطية تحلل المثقفون أيضاً من التزامهم الأخلاقي والتثقيفي تجاه مجتمع استهدفوه بأعمالهم الإبداعية طيلة عقود من الزمن، مقتنعين بأنهم يعكسون تطلّعاته وأشواقه الجوهرية. وبرغم أن نواب الإخوان استهلوا أولى جلسات البرلمان باستدعاء وزيري الثقافة والسياحة لسؤالهما عن ظاهرة تهريب الآثار في مصر، إلا أن روائيّاً بحجم وحيد عبد المجيد مازال يتمنى خروج الإخوان من البرلمان لأنهم شغلوه بمشاكل الحجاب والتدخين، بحسب مقالةٍ له في صحيفة المصري اليوم.
تجاهل المثقفون المصريون عمليات الاعتقالات الواسعة التي طالت رفقاءهم من المثقفين الإسلاميين، وهم الذين أثاروا غبار العالم ضد قرارات حبس موسى حوامدة، في الأردن، أو اعتقال علي الدميني، في السعودية. بدا الأمر كما لو كان ما يحدث للإسلاميين عرضاً مملّاً لفيلم قديم، ملوّن. انشغل المثقف المصري، في الوقت ذاته، بإدانة حركة حماس.. وظهر جمال الغيطاني عبر أخبار الأدب ساخراً " من أين جاء هذا المشعل، الذي يطوف العالم لجمع المال، بغية إقامة إمارة إسلامية على أرض فلسطين". ختم الغيطاني ثورته السردية بحُلم ذي نكهة تعبيرية سلسة: إذا جاز التمنّي فأنا أتمنى أن تختفي هذه القيادة التي دفعت بالقضية إلى هذا النفق المُعتِم".بهذه المجانية يختصر الغيطاني المسألة الفلسطينية برمّتها.. لغة سطحية متطابقة مع منطق مثقفي السلطات العربية في تعليقهم على أول انعقاد لمؤتمر البرلمانين الإسلاميين : الإخوان يعلنون إمارتهم الإسلامية من ماليزيا! وقبله كان الروائي بهاء طاهر يشعر بالتوتر من طوفان الإخوان المسلمين الذي سيحول مصر إلى طالبان، ولم ينس أن يقدم نصيحته إلى من يهمّه الأمر.. هو، بالطبع، أقام حجّته على طرح فاسد قديم أصبح في حكم المستهلك الرخيص، الذي لا يبدو أن وعيه (أقصد بهاء طاهر) الخاص بالإبداع يعافه ويرفضه كما هو موقف الإبداع من كل مستهلك وجاهِز! ربما لأنه كان منشغلاً بدراسة حياة الإسكندر الأكبر، ليجسّد بعضاً منها في " واحة الغروب"، فهو، لكل ذلك، لم يحظ بالوقت الوافر اللازم لمجاوبة سؤال : ما هي حياة الإخوان المسلمين، أيضاً.. فما يحتاجه أهل البيت يحرّم على أهل المسجد، كما تقول الأمثولة الشعبيّة التي يعشقها بهاء طاهر، نفسه.
المثقف المصري، والعربي إجمالاً، المنشغِل بعقيدة أن مشاركة المجتمع قضاياه المفصلية تعد مجازفة غير مأمونة قد تطيح بالإبداع، يعود مرّة كل عام بخطاطات منشورة،يعتقد أنها تنوء برؤية تكوينية لمعادلات المجتمع الداخلية جدّا. كذلك، يحتفي المثقف،كشاعر، في نصوصه الشعرية بأشياء يسميّها "اليومي والعابر" متجاوزاًً، عن جهل وافر بفكرة اليومي والعابر، للعابر الحقيقي واليومي المندغم بفكرة السيرورة بحق. وسيكون ظريفا أن أشير إلى ما كتبه الروائي والصحفي إبراهيم عيسى في صحيفة الدستور بعنوان " قال الشاعر" بعد وصلة احتفاء طويلة بمعركة يقودها أحمد مطر، وهو الشاعر الذي يلعنه شعراء منتصف الجسد ويخرجونه من جنّتهم الموعودة. يتحدث عيسى عن الشاعر المصري الذي يتخلى عن إملاءات الموقف الثقافي، المواز في تكويناته للحياتي العام، تجاه اليومي الحقيقي، في حين يغرق هذا الشاعر الحافي والفقير في الحديث عن اللازوَرد lt;lt;حد شاف لازورد في مصر يا جماعةgt;gt;.. ويتساءل على طريقة : بأيّ يوميّ يحتفون، بالضبط، إذا لم تكن لقمة العيش هي اليومي، والحرية هي اليومي، وفجائع التحوّلات الخطيرة على مستوى الدسترة والتقنين، هي اليومي، ومآسي أقسام الشرطة، هي اليومي.. ! يبدو لي، على مستوى الملاحظة الشخصية، أن المثقف العربي(أعني به : ذلك المشتغل على إنتاج النص الإبداعي،السردي والشعري والمسرحي) يستوعب اليومي باعتباره الشخصي، جدّاً، عند حدود الاحتفاء بممارسة الجنس واعتناق الحشيش.. وأن العابر، هو أن يعبُر شخصٌ وحيدٌ، فقط، إلى مجتمع ليس فيه حريّة ولا عدالة. أما اللحظي، فهو معاوقة التغيير بقناعات لم تعُد عميقة.. يغذّيها رعبٌ من المجهول، ذلك الذي سيظل مجهولاً لانشغال المثقف العربي بالفراغ المطلق، وإجفاله العام عن محاولة تفكيك مجهولاته الحقيقية بوعي، بعيداً عن مجهولات الشاعر رامبو، التي أوصلته إلى القول بأنه لم يعُد قادراً على أن يكون حقيقيّاً البتّة. كذلك، فمن اقتنع بعكس ما يريد، يصر على موقفه السابق.
شاعر وكاتب يمني - القاهرة.