مأساة التعليم ورجاله في العراق..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تعرض النظام التعليمي كله في العراق لانتكاسات مركبة في عهد النظام السابق. كان الأساتذة والطلبة ملزمين بالانتماء لحزب البعث وبدونه لا يختار الطلبة للبعثات، ولا يتقدم الأستاذ في سلك التعليم. إن التبعيث شمل كل مفاصل العملية التربية وفلسفتها، وجرى تشويه المناهج، وتزييف التاريخ باتجاه تمجيد الحزب والقائد وتشجيع الطائفية والعنصرية.
في بداية الأربعينات من القرن المنصرم كنا في المتوسطة والثانوية نتعلم ونحفظ أشعار مختلف الشعراء العرب كالمعري، والمتنبي، وأبي تمام، وابن الرومي، وأبي نؤاس، وبشار، وغيرهم بلا تحفظ ولا تزمت ولا عقد. كان مدرس اللغة في المتوسطة يترنم في الصف بقصيدة أبي نؤاس:
"عاج الشقي على رسم يسائله كنت أسأل عن خمارة البلدِ "
ولا أزال أحفظ عدة أبيات من القصيدة. وفي الثانوية درسنا غزليات عمر ابن أبي ربيعة وشعراء الغزل الآخرين. وفي الكلية كان الأساتذة من المبرزين المشهود لهم في مجالات تخصصهم وكانوا من مختلف الأديان والمذاهب والقوميات. كما نتذكر عهد الفقيد عبد الكريم قاسم واختياره عالما من الصابئة المندائيين لرئاسة أول جامعة عراقية وهي جامعة بغداد رغم اعتراضات المتزمتين والعنصريين.
في المجال التربوي والتعليمي، وكما في مجال اختيار الوزراء والمديرين العامين، كانت المعايير السائدة هي الكفاءة المهنية والقدرة برغم وجود بعض أشكال التمييز الطائفي في العهد الملكي.
أجل، لقد خرب نظام البعث المنهار نظامنا التعليمي، وكان منتظرا بعد سقوطه معالجة الأمراض الخطيرة التي تعرض لها، بروح احترام حقوق الإنسان، وتقديس حرية الرأي، واستقلالية الفكر، واحترام شخصية المرأة، وحب العلم، والشعور العالي بالمواطنة. كان المفترض تطهير العملية التربوية من أشكال الانحياز، من حزبي، ومذهبي، وديني، وعنصري.
كيف تطورت الأمور؟ المأساة هي أن الخراب الذي ورثه عهد ما بعد صدام اتخذ أشكالا جديدة وفي مختلف المجالات، من سياسية، واجتماعية، وثقافية، وتربوية، ووصلنا عهد تحريم الموسيقى والغناء والفنون الجميلة وملابس الرياضة وهذا في عراق أنجب العشرات من خيرة المبدعين والكتاب والشعراء.
إذا توقفنا لدى مجال التربية والتعليم، لصعقنا بعمليات اغتيال الأساتذة وإرهاب الطلبة والاعتداء بمدافع الهاون على المدارس وحتى على مدارس الأطفال. إن مئات الآلاف من الطلبة لم يعودوا يداومون في التعليم خوفا من التفجير والموت المجاني اليومي، ونصعق أكثر حين تتعرض مدارس الأطفال للتفجير، ووقوع حالات يذبح فيها المعلم أمام الصغار في الصف.
ترى هل من عجب إذن لهجرة ملايين جديدة من العراقيين بينهم مئات الآلاف من المثقفين الذين يضافون للملايين الأخرى المهاجرين في عهد صدام، هذا فضلا عن عمليات التهجير القسري الواسع النطاق على أساس مذهبي.
تلكم بعض النقاط نوردها تعليقا على الكارثة الجديدة التي توشك أن تحل بالعملية التربوية كلها. إن التقارير المنشورة قد أكدت صدور قرار من الحكومة العراقية بتغيير المناهج والفلسفة التربويةبجعلهما ملائمين لفكر المرجعية الشيعية واقتراحاتها وفتاواها!
في العالم المتحضر يكون التعليم محايدا تجاه الأديان والمذاهب مع احترامها جميعا، ومحايدا تجاه الأحزاب والحزبية. إن ميثاق الأمم المتحدة، ومواثيق المؤسسات التربوية الدولية، والاتفاقات الدولية حول التربية، تنص جميعا على وجوب تربية الشباب بروح الأخوة بين البشر، والمساواة بينهم، ورفض كل أشكال ودرجات التمييز. إن التقدم الحضاري الغربي في عالم اليوم جاء نتيجة عمل قرون، ولاسيما بعد فصل التعليم عن سلطة الكنيسة، وإعلاء سلطة العلم، والاحترام الصارم للحريات الفردية؛ ولعل في مقدمة ميزات وخصائص التعليم في العالم المتقدم هو تشجيع الطلبة على حرية الرأي والنقد، والتعود على الاستقصاء والتحليل المستقل. إن إخضاع التربية والتعليم لمشيئة وأفكار رجال الدين، ومن أي مذهب أو دين كانوا، وفي أي بلد، يؤدي للخراب الفكري وتشجيع التعصب المقيت والتضييق على المرأة والحياة الخاصة، وكراهية الآخر وغالبا الحث على العنف ضده. هذا ما طبقه الطالبان والقاعدة في أفغانستان وما يطبقونه في السودان وفي دولة ولاية الفقيه.
إن عراق اليوم يعاني من انتشار التعصب والتطرف الطائفيين واتخاذهما شكل حرب التطهير الطائفي وخصوصا في بغداد. إن هذا الخطر القائم يسير جنبا لجنب مع حرب الإرهاب الصدامي ـ القاعدي، مما قد حول العراق لجحيم حقيقي ومسلخ دموي كبير.
إن القرار الجديد لحكومة السيد المالكي سوف يؤجج أكثر الصراع الطائفي في العراق، بينماعلى الحكومة الانصراف الحقيقي لضرب الإرهابيين ولجم المليشيات، التي ساهمت مرارا هي الأخرى في العدوان على الجامعات وكما جرى في البصرة مثلا.
حقا، سنواجه ردة فكرية وحضارية كبرى بتطبيق القرار المذكور، وستكون لها عواقب بعيدة الأمد. فهل الكوارث الحالية لا تكفي!؟