كتَّاب إيلاف

منديل لوركا: بطاقات لعيد حب عراقي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

" كل ضياء العالم تَسَعه عين واحدة "(غارسيا لوركا)

أبدا لم أحب لنفسي اعتياد القول: ان الكائن، في حياته، لا يصنع لوحده سعادة منشودة، لكن يسعه، دونما اختيار، فقط ان يموت وحيدا..
قبل عامين أو أكثر، حينما كنت اقل اكتئابا من الآن واشد حماسة، قبل ان تزاحم شعرات رمادية دخيلة سواد الرأس الطموح، حينما آمنت مع الملايين بإمكانية كسب ود المستقبل، في لحظة استطاعتي الغناء مع الشمس البهية في حفل تذوق بريق الأصدقاء ممزوجا بالشعر، حينما كنت من على المساطب الرخيصة ارقب، بقلب شاغر، غياب الحبيبة..
قبل عامين تجرأت ذاكرتي وهي مغمضة العينين على استعادة شاطئ العمر ذاك.. من بدايته.
شاطئ حياة محت مياهه الشائكة رمال خمس وثلاثين عاما من الاستواء المخيف. فكرت حينها برحيل الأب النهائي إلى السماوات الغامضة قبل ان يشبع خدودنا الطرية بسيل قبلاته الفواحة. رحل الأب أواخر حرب ثمانينية بعد ان تدبر بحكمة العارف موعدا جميلا للولادة، خفق في ظهيرته الشتوية قلبي الصغير متنفسا نور العالم الجديد، ليهفهف جسدي آنذاك بين أنامل حنونة لأم نحيفة اصدق عندي من أناشيد الكتب والأنبياء، حتى وان كانت لا تعرف بعد كل هذه السنوات معنى ولادة ثالث أبنائها في يوم رقيق يخاصم الموت بأسم الحب. يوم ربما سيسر روح الابن الوديع تذكره دائما، مخففا لحين جريان ألمه المجهول..
الروح تلك، يدها فارغة.

- 1 -
من دون عناء كبير أو شكوى، يستطيع المرء، بالقليل من قصائد لوركا وموسيقى باخ الاحتفال بنفسه ولنفسه. طالما ان العالم تخلى عنك للرصاص والمقابر وسورة الفاتحة..
وما تراه كل العيون مألوفا، سيبدو مولودا جديدا للحظات.
وبالشعر قد يكف الإنسان عن حسد الطير، لخفقان الأجنحة.

كان غارسيا لوركا الذي خجلت السماء من عذابات قلبه، قد قال:
" عذاب، عذاب، حلم، تخمّر وحلم.
هكذا الدنيا، صديقي، عذاب، عذاب.
أجساد تتحلل تحت ساعات المدينة،
الحرب تمضي باكية ومعها مليون فأر رمادي،
الأغنياء يعطون عشيقاتهم
أشياء صغيرة مميتة ومضيئة،
والحياة ليست كريمة، لا طيبة ولا مقدسة."
قصيدة ( نشيد إلى والت ويتمان )

- 2 -
في جوهرها، أتعني الكتابة اليأس أم مداواته ؟
أرى ان الحياة أعذب من الكلمات، وجمالها ألذ من النحو كله.
لكن ليست الشوارع كلها فارغة، فيها العشرات ممن يحتملون اكفنا الممدودة بسلام، أولئك الصحبة يقامرون بأجسادهم معنا تحت مغطس دافئ أوحد.. وفي عري إنساني حميم سيلعقون دونما وجل أفواهنا الدامية بالسعادة والمرض.
ربما بوسع الكتابة ان تكون شريك لحظات الاحتراق الأليمة. ان تخفف شيئا من وخزات الروح الشاردة وهي تبحث عن عيون ساحرة تطفئ في سوادها الطاهر نار الرغبات المبتورة.
بودي أن أنصت هاهنا لقلب الكائن الذي خطت يده أولى حروف الكون، أتمعنه بشغف صادق. سأسأله ربما عن خواطره، أحلامه، خطاياه وغوامضه التي لفت الحياة العقيمة بنسغها الأبدي. هل سنكتشف هناك أولى رسائل الحب الإنساني ؟
هل كانت تلك اليد عراقية ؟
لماذا تخلت عن لهوها الأصيل اذن، وأضاعت في هول مجرى الدم بريق حروفها الأزلي ؟

- 3 -
وحدك معي اليوم ومنذ زمن، أيها الصريع المعزول.. لوركا، من عساه غيرك يقول:

" إذا هبّت الريح برفق
يأخذ قلبي شكل فتاة."
قصيدة ( قمر وبانوراما الحشرات )

-4-
في العاشرة من صباح يوم 14/2/2007، قبل ان أصحو بساعات من بقايا ليل طويل ضجر، وصلت رسالة الصديق عبر الأثير، قصيرة كعادتها، حزينة وواعدة:
" عيد ميلاد سعيد، وأمنية بحياة آمنة
بعيدا عن جنة العراق السوداء."
ليتني تأملت وجهي بالمرآة لأعرف على وجه الدقة الانطباع الذي تركته على قلبي ومضة البرق الخاطفة تلك.

*******


في المساء ذاته حدثت أمي عن معنى عيد الحب. وبلسان طليق عبرت لها عن سعادتي بان أكون مولودها الأليف في يوم كهذا، كان يوما طويلا وشاقا عليها كما تذكر:
- كانت ولادتك عسيرة أكثر من باقي إخوتك وأخواتك، لولا رحمة الرب ومساعدة جارتنا المصلاوية الحنونة التي نسيت اسمها ..
معتقدة ان الله بهدايته الرحيمة سيرضى عني، تلفظت الأم بكلمات لفتها قداسة صافية:
- لقد ولدتك مع صيحة آذان الظهر التي أطلقها جدك مكبرا بأعلى صوته.
عاش الجد حتى مماته ضريرا ينسج الحكايا الغريبة ويردد المواعظ لمحبيه، يعدهم بحياة آمنة إذا ما أكثروا من الإنجاب، فالأبناء يطردون الوحشة ويجلبون الأرزاق للبيوت الصالحة.
ما كان للجد ان يتصور يوما ما ان البيوت أمست بلا أبناء، وان السماء تخلت عن منح الأرزاق.
غادرت الأم غرفتي الباردة، وبقيت عالقا في منحنيات الليل، وحدي.
وتحت وقع وجع الأسنان المزمن، سقطت نصف برتقالة من يدي، وما كان للجسد المحتال إلا ان يجرب خداع يقظة الألم المميت بموسيقى الشعر.
هكذا.. بعيون مفتوحة تسخر من جوقة المفارقات هذه، كنت نائما مثل موزة رخوة، يتقافز في مخيلتي حطام الأحياء.
حلمت أنني اسمع صوت طفل عار، يصرخ في بحيرة تماسيح.
كان صوتي عاريا.

-5-
يوما ما، في مواجهة الأيام التي تخطو، دونما رجعة، عمياء نحو الأفق البعيد.. سيكون ممكنا مقارنة خزانة أحلامك الجميلة مع ما جنته يداك. وقد يتملكك فرح غامر يسري في عروقك كالسم الذائب.. فرح غريب من زوال الألم القديم مع تساقط آخر أسنانك من ضراوة الحب.
حينها ستتذكر في اشراقة الشمس على السطوح الهانئة..
أول حب.
أول قبلة.
أول زهرة قطفتها.
ولن تنسى بالطبع استدارة خصر مائع كنت قد طوقته كالإخطبوط بأذرعك الثماني.

-6-
رغم الحب والأعياد..
في العراق: يكرر الفجر نفسه مبتذلا مع كل انفجار.
في بغداد: الموت كائن خرافي تؤرقه الوحدة من رحيل البشر.
في الناصرية: الأطفال يلعبون تحت جسر صغير.. رسمه أطفال يلعبون.
في الحب: يفتك قلب المرأة بجسد الرجل بين سماء الأمنيات.

-7-
وسط فلاءات البرية الشاسعة يصدح الحب بحناجر البلابل، حينما يواصل غارسيا لوركا غناءه الحزين، وفي أعلى سترته يسترخي منديل ناصع البياض:

" وفي الآثار المعتمة لمواطئ قدمك،
حبيبتي، حبيبتي، حبيبتي، ساترك
كمانا وقبرا، أشرطة الفالس."
قصيدة ( فالس فيّني صغير )

-8-
لا تشتموه في صمتكم.. لم يحصل شئ خطير بعد. انها الأمنيات العزيزة تسقي القلب ثانية.
كانت اليد تواصل الاكتشاف، فيما لم تمنع الصلوات البشرية كائنا اعزلا من اختيار ساعته الأخيرة.. منتحرا بنفاد دموع أساه.
ملخص الحكاية يفيد: ان رجلا سعيدا ارتكب خطيئة عظمى حينما أوصد على نفسه نوافذ البيت، فرسم مسارا افتراضيا وحيدا ليوم ينهي رعب الدم الأرجواني الماثل. وما زال الرجل يرقب حلول المعجزة بانتظار وصول بطاقات عيد الحب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف