هل النظرة الواقعية الانتقادية للوضع العراقي.. تشاؤم؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إن بعض أصدقائي من خيرة الكتاب العراقيين يصفون نظرتي وتحليلي للوضع العراقي بالتشاؤم. إن المتتبع لمقالاتي، وخصوصا منذ عامين، لابد ويلاحظ أنني أعتبر الوضع اليوم جهنم جديدا بعد جهنم صدام، وأن الانتخابات الأخيرة للبرلمان لعام 2005، برغم حرية الصناديق، جرت وفق معايير وحسابات مذهبية وعرقية، ومن ثم جاءت نتائجها لغير مصلحة التطور الديمقراطي إذ كرست مبدأ المحاصصة الطائفية.
لقد اعتدنا تعليق كل الخراب الحاصل اليوم بعواقب ما تركه صدام من خراب بشري، واقتصادي، واجتماعي، وسياسي، وفكري. بالطبع لا يستطيع غير المكابر أو الجاهل بوضعنا نكران تلك المواريث الباهظة الثمن والتي ورثها عهد ما بعد صدام. والسؤال هو هل هذا وحده يفسر تفسيرا واقعيا ويبرر كأمر واقع حقيقة التطورات التي حصلت منذ سقوط صدام وصولا لدستور مشوه متناقض، وتكريس التحزب الضيق، والمعيار الطائفي؟؟
نعرف أولا مدى شراسة واستماتة عدد من دول الجوار، خاصة إيران وسوريا، وشبكات القاعدة لتدمير كل العملية السياسية وخلق حالة فوضى ورعب دائمين. كما نعرف بالأخص مدى وحشية وقدرة القوى البعثية الصدامية وإمكانياتها الواسعة مالا وسلاحا وتدريبا وتلقيا للدعم الخارجي، مما يجعل هذه القوى المتمرسة في القتل والاغتيال واحتقار البشر على قيادة حرب الإرهاب الشاملة التي يتعرض لها شعبنا ويذهب ضحاياها عشرات ومئات من المواطنين يوميا.
إن كل هذه العوامل الخطيرة، من مواريث وتدخل خارجي إقليمي، لم تكن لتصل بالحالة العراقية لوضعها الراهن لولا الأخطاء الفادحة والمتتالية للجانب الأمريكي من جهة، والقيادات العراقية الحاكمة من جهة أخرى.
كلا! لسنا من المتشائمين اليائسين رغم شعوري الحاد بالمرارة والإحباط. لسنا ممن توهموا أن الانتقال بالعراق لوضع ديمقراطي حقيقي عملية قصيرة أو سهلة، ولذلك لم نتحمس للجدول الزمني المرتجل الذي عرضه الأمريكان بالاتفاق مع القيادات العراقية، وفي أواخر العام الماضي كتب الدكتور عبد الخالق حسين مقالا هاما طالب فيه ب" تأجيل الديمقراطية" لفترة مناسبة، وهي دعوة أيدناها.
لقد كان المطلوب أولا أن تقوم قوات التحالف بتحقيق الأمن والاستقرار، وأن تقمع في مهدها عمليات النهب والسلب للأيام الأولى، وأن تبذل جهودا اكبر لمنع التسلل من الحدود السورية والإيرانية. كما كان من الخطأ الفاحش قرار بريمر بإعلانه عن حل الجيش، بدلا من دعوة العسكريين، الذين لم يقاتلوا أصلا، للعودة لثكناتهم، مع تطهير الجيش من كل المتهمين بالجرائم الثابتة عليهم ولا سيما في صفوف الحرس الجمهوري و ضباط الأجهزة الأمنية. وقد قرأنا توا في الهيرالد تريبيون [ عدد 17 فبراير ] تلخيصا لمحتويات سلايدات أمريكية رسمية عن خطة ما بعد الحرب. لقد كان ضمن المقرر وجود فترة انتقالية مناسبة ودعوة الجيش للعودة للخدمة، وهو، كما تقول الجريدة، ما أحبطه قرار بريمر. ومما نعتبره أخطاء أمريكية تلطيف المصاعب وتزكية الدستور باعتباره أحسن دستور في المنطقة مع كونه يفتح أبواب النظام الإسلامي باعتماده حكم الشريعة.
أما القيادات العراقية الحاكمة فالنادر منها من لم تسيرها الحسابات الضيقة من حزبية ومذهبية وعرقية، ونلاحظ أيضا انتشار عقلية الاستحواذ، بل وغرور بعض الأطراف الواسعة النفوذفي الحكومة، مما شجع، لهذا الحد أو ذاك، مشاعر المرارة لدى بعض فئات المواطنين ممن اعتبروا سقوط النظام البعثي ضربة لطائفتهم ولدورهم في العراق، ولا سيما مع كثرة الحديث عن "الأكثرية" و"الأقلية".
لقد أكدت مقالاتي عشرات المرات إن حرية الصناديق الانتخابية لا تشكل لوحدها وبحد ذاتها تقدما ديمقراطيا، ما لم تجر الانتخابات وفق برامج سياسية واضحة على أساس وطني عراقي، وما لم تتوفر للمواطنين الشروط اللازمة لإدراك أهمية الانتخاب وما لم تسد روح المواطنة العراقية التي هي في نفس الوقت مظلة الحقوق الأساسية للقومية الكردية والأقليات التركمانية والكلدو ـ آشورية، كما هي مظلة كل الأديان والمذاهب الموجودة على أرض العراق. إن الانتخابات الحرة تكون خطوة ديمقراطية كبرى لو ولدت عنها حكومة وطنية قائمة على أسس الإتلاف الوطني وليس على أساس التقاسم المذهبي للمراكز.
لماذا كان عام 2004 أفضل نسبيا من الأعوام التالية، فرجعنا للوراء بدلا من التقدم المستمر؟ في ذلك العام وكما قبله كنت ذا آمال كبيرة بالتقدم التدريجي، ولم تصبني المرارة القاتمة إلا بعد الانتخابات الأولى، بل وصدمت حقا لسوء الأداء السياسي، والتسابق على المناصب، وانحسار روح المواطنة. في عام 2004، تم اعتماد دستور ديمقراطي، فيدرالي، علماني، يحترم حقوق المرأة وحرياتها الشخصية، برغم وجود ثغرات في ذلك الدستور. أما دستور عام 2005، فهو، وكما قلنا، دستور حكم الشريعة الذي يفتح أبواب النظام الإسلامي ويقمع حريات المرأة، ويشطب على القانون المدني للأحوال الشخصية. وتذكيرا، فإن عددا منا طالبوا بإلحاح تأجيل اعتماد الدستور، وهو ما كان يسمح به الدستور المؤقت، ولكن القوى الحاكمة مضت في طريق اعتماده بسرعة تلفت النظر بعد أن سبقته مسوداتنصوص كانت أصلا لا تذكر كلمة ديمقراطية وتطالب بدور سياسي "للحوزة العلمية."
أجل، نعتقد من جانبنا أن الوضع العراقي الراهن هو جهنم من حيث القتل والتفجير الجماعيين واليوميين، واستفحال الإرهاب والعنف الطائفي، وانفلات المليشيات الحزبية التي يحظر الدستور قيامها. وإذ نثمن الخطوات الأولى لتنفيذ الخطة الأمنية، فإن اختفاء الصدر وجيشه بكامل سلاحه يبعث على القلق المشروع، فهو يذكرنا بإنقاذهما في فتنة النجف عام 2004 وكذلك عام 2006 عندما حاصرت القوات الأمريكية مدينة الثورة [ الصدر ] فأصدرت حكومة السيد المالكي أوامر بفك الحصار. إننا لا نعتقد أن أية خطة أمنية تحقق الحد المعقول والممكن من الأمن تكون متكاملة ما لم تضرب المليشيات وتنزع سلاحها وتحلها مهما كلف الأمر.
إن هجرة ملايين جديدة للخارج وإن تهجير عشرات الآلاف من العائلات في الداخل، وتحول الوزارات لمزارع حزبية وطائفية وقيود على الموظفات بفرض الحجاب، واستفحال الفساد؛ كل ذلك مؤشرات صارخة على تدهور الوضع ومبرر لعدم النظر إليه بلون وردي كما يصور لنا الوضع بعض الكتاب العرب.
هل هذه النظرة الواقعية، بحسب رأينا، هي تشاؤم؟ لا نعتقد، لأن المتشائم مبتلى باليأس من المستقبل مهما كان بعيدا، ولا يعي قوانين المسيرة البشرية. لا ليس تشاؤما، ولكنه، وكما كررت، شعور قوي بالإحباط، وخيبة الآمال بالقيادات الحاكمة.
إن النظرة الواقعية تشخص أمراضا قائمة وتشخص المسؤوليات والمسؤولين عنها بدلا من كيل المديح لهذا الطرف أو ذاك.
إن النقد السياسي المخلص واجب وطني من الدرجة الأولى لأن الأحزاب والقيادات والحكومة ورجال الدين ليسوا معصومين، ولا يمكنهم ادعاء احتكار كل الحقيقة. النقد السياسي في حياتنا السياسية هو مع الأسف مرفوض ومتهم، وكثيرا ما يتعرض أصحابه للشتائم الرخيصة والاتهامات المجانية المبتذلة، التي اعتاد عليها المفلسون فكريا وسياسيا!
في الختام،
فإن من المستحسن أن نورد مقولة أو حكمة ذكّرنا بها بعض كتابنا الموضوعيين: "قد أكون أنا على خطأ، وقد تكون أنت على صواب، وببذل الجهد قد نقترب أكثر من الحقيقة."