دعاة ٌ خارجَ النصّ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
المجتمع الساكن هو المجتمع الذي ينكفئ إلى الماضي فيعيش فيه ويستلهم معطياته منقطعا عن الحاضر بكل ما فيه من تجليات ثقافية وزخم عصري، وهو المجتمع الذي تتحكم فيه وتسيطر عليه مرجعيات منغلقة ذوات رؤى ضيقة تخلط فيها بين الدين وحيا وحديثا، ومقولات واجتهادات بعض الفقهاء. تلك المرجعيات التي لا تعي حقائق الدين ومغازيه وعيا جيدا وتتسم بالتشدد والغلو وتنتقي من القرآن والسنة ما يروق لها ويؤيد وجهات نظرها.
تحتل المرأة بؤرة تلك الرؤى المتزمتة فهي مادتها وموضوعها، وهي التي تمثل مركز الثقل في فكر الداعية الذي يكفل له حشد الجمهور والمريدين، وهي _ أي المرأة _ ضحية ذلك الخطاب الملتبس بحمولات ترسّخ لتأثيمها ودونيتها ونقصان عقلها ودينها في تحريف مشين لمقصد الحديث النبوي!
إن صورة المرأة في أي مجتمع عنوان من العناوين البارزة الدالة على رقي المجتمع ونموه وازدهاره، وعلامة من العلامات الكبرى المؤشرة إلى نقاء فكره وإنسانيته وتحضره بخلوصه من شوائب العنصرية والقهر والاستبداد الموجهة ضد المرأة.
وتحفل القنوات الفضائية بحضور كثيف للدعاة الجدد وغير الجدد الذين يصدرون آراء على الهواء للجمهور المتعطش لمعرفة أحكام الدين فيما يعرض له من إشكالات مفهومية، وتأتي الأجوبة صيحات اتهام للمرأة وتجييش لمشاعر الناس واستنفارهم لحماية حصون الفضيلة التي تدكها المرأة، وهذا أمر مألوف في المجتمعات المنغلقة التي استكانت لهذه النبرة العالية والمشاعر الغاضبة والملامح المتوترة التي تمليها طبيعة هذا الخطاب وكل ما له صلة بالمرأة.
ومن تلك الآراء على سبيل المثال : إجابة أحد الدعاة على سائل عن حكم أخذه رأي زوجته ومشورتها بقوله: لا تستشرها فإنها ضعيفة وعاطفية ورأيها غير صائب، وحذره من ذلك مستشهدا بالحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم " ما أفلح قوم ولوا شأنهم امرأة " وأكمل بقوله إن المرأة سفيهة ولا تؤتمن على مال واستشهد بقوله تعالى ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما )، ولم يكتف بذلك بل استرسل مستشهدا بقول نسبه إلى على بن أبي طالب " لا تطيعوا النساء فإن عقولهن في... " ولم يخجل من ذكر كلمة بذيئة، ولم يستح من الاجتراء على صحابي جليل بكلام لا يعتقد عاقل أنه يصدر عمن نشأ وتربى في كنف الرسول صلى الله عليه وسلم.
يرفض كثير من الدعاة الاعتراف بأن حديث " ما أفلح قوم ولوا شأنهم امرأة " قيل في ظرف تاريخي وسياق خاص، و أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يكون ذلك القول حكما ينطبق على النساء كافة في كل زمان ومكان.أما قوله إن السفهاء في الآية الكريمة تعني النساء ففيه جرأة على الله الذي ساوى بين المرأة والرجل، المسلم والمسلمة في العبادات والتكاليف ( فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى )، وأين نقصان العقل من قوله تعالى( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) حيث جعلهن شركاء للرجال في الولاية العامة، بل إن القرآن قدر المرأة في شخص ملكة سبأ وأشاد بحنكتها ورجاحة عقلها.فضلا عن وجود كثير من الوقائع التي تؤكد تقدير النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة ومشاورتها والعمل برأيها، كما حدث عندما عمل بنصيحة أم سلمة رضي الله عنها بشأن الصحابة في الحديبية عندما طلب منهم أن ينحروا ويحلقوا، قالها ثلاث مرات ولم يقم منهم أحد، فدخل على أم سلمة وذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له اخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنتك وتدعو حالقك، فخرج وعمل بما قالته، فلما رأوه فعلوا مثلما فعل!
وسئل داعية آخر عن فتوى أصدرها أحدهم تحرم شراء حذاء للزوجة لأن ذلك لا يدخل في نطاق النفقة الواجبة لها عليه! فأكد الداعية الفضائي هذه الفتوى، وأنها من باب المحافظة على المرأة، لأنها مأمورة بالبقاء في البيت وليست بحاجة إليه، وهو إن اشتراه لها سيكون هذا مدعاة لخروجها من المنزل، وأضاف أن هذا رأي السرخسي في كتابه المبسوط الذي يقول فيه " فأما المرأة فمأمورة بالقرار في البيت، ممنوعة من الخروج فلا تستوجب الخفّ على الزوج "!
وأخذ داعية آخر يحرض الآباء والأشقاء والأزواج على البنات والأخوات والزوجات، قائلا إن المرأة التي لم تعالج بالضرب منذ الصغر تكبر وهي متمردة فيصعب قيادها! لقد تعمد ذلك الداعية إساءة فهم الضرب الذي جاء في القرآن في سياق العلاقة المضطربة بين الزوجين، ولم يكن الأمر بالضرب على إطلاقه كما لا يخص كل النساء، وإلا لجاز ضرب الأمهات أيضا بناء على رؤية ذلك الداعية المختل.
واعتبر داعية آخر خروج المرأة من بيتها دون غطاء على وجهها كخروجها عارية ( هكذا )، وحذر المرأة المسلمة من لبس العباءة على الكتفين لأنها سبب رئيسي للفتنة والضياع!!! وهو رأي فيه كثير من المبالغة والاجتراء على النساء والحكم بضياعهن لمجرد مظهر شكلي لا علاقة له بالدين، وهن كثيرات في المجتمع فهل يعني هذا أن جميعهن ضائعات ؟؟
كما حذر أحدهم النساء من مصافحة الرجال، وقال إن أحد المشائخ ذكر في كتابه " أن المرأة تزني إذا صافحت رجلا غير زوجها وسماه زنى اليد "!!! وهذا مفهوم جديد أدخله ذلك الشيخ على الفكر الديني لم يعرفه السلف، ولم تثبت له حجة ولم ينهض به دليل لا في القرآن ولا في السنة، وهو ليس إلا تحريف مقيت للمفاهيم الإسلامية من باب التنفير والحض على عدم المصافحة عندما يجعلونها إثما وذنبا كبيرا ومعصية!!!
الدعاة المتشددون من فضائيين وغيرهم لا ينفكون يدعون إلى بقاء المرأة في البيت والانصراف إلى تربية الأطفال والقيام بواجبات الزوج فهذه هي رسالتها الوحيدة، كما يحذرون من خروجها من البيت لأنه مدعاة للاختلاط، وهم في هذا يخلطون بين الاختلاط بجمع من الناس رجالا ونساء والخلوة التي جاء الأمر بتحريمها، فالاختلاط شيء والخلوة شيء آخر مختلف.
ونـُقل عن أبي الأعلى المودودي قوله : " إن ميدان عمل المرأة في الإسلام هو تربية الأولاد وواجبات البيت، ولا تعمل خارج البيت إلا للضرورة القاهرة. وهي في البيت أيضا ليس لها حرية الإرادة والاختيار( هكذا ) مثل الرجل، فلقد أوصد القرآن هذا الباب أمام النساء! فخير للمرأة في الإسلام أن تلازم بيتها ولا تخالط الناس في المجتمع "! وقد علق محمد عمارة على هذا بقوله " لا نغالي إذا قلنا إنه نوع من التخلف الموروث في قضية المرأة، وأن مثل هذه الأفكار قد غدت المنطلق لمواقف جامدة ومغالية يتخذها اليوم نفر من شباب وشابات الجماعات الإسلامية المعاصرة ".
يعتقد بعض الدعاة أن المرأة سبب الاهتزاز الأخلاقي والاضطراب القيمي في المجتمع ولتعزيز هذا الرأي المجحف في حقها يستدلون بنصوص ينسبونها إلى الدين وما هي من الدين في شيء نصوص تتحدث عن تفوق المرأة على الشيطان في الكيد والحيلة والانحراف بالرجل، وفهموا أن ضعف كيد الشيطان في القرآن وتعظيم كيد النساء في سورة يوسف دليل على صدق فهمهم، مما جعلهم يرسخون هذا الفهم بإقصاء المرأة عن الحياة العامة لأن في خروجها إضرار بالمجتمع وخرق لأمنه.
وليس الدعاة الفضائيون وحدهم من يخرج على النص، بل هناك دعاة
يعيشون في الغرب ابتلي بهم الإسلام لفرط تطرفهم وجهلهم وإساءتهم له بآرائهم العدائية ضد الآخر تلك الآراء التي تحسب على الإسلام، ومن هؤلاء مفتي أستراليا الذي شبه المرأة الاسترالية التي لا تلبس كما تلبس المسلمات باللحم المكشوف الذي تنهشه الذئاب والكلاب، الأمر الذي عده الاستراليون تبريرا لعمليات الاغتصاب فقامت قيامتهم عليه وعلى الإسلام الذي اعتقدوا أنه مصدر ذلك التبرير، لم يدرك ذلك المفتي أن ما يجوز قوله في المجتمعات الإسلامية لا يجوز أن يقال في المجتمعات الغربية التي لها مفاهيم مختلفة كل الاختلاف عن المفاهيم الإسلامية، وكان عليه أن يكون حصيفا وذكيا يختار من العبارات ما يجعل قوله مقبولا وجاذبا للإسلام لا واصما إياه بالعنف والتطرف. ولم تكد تهدأ عاصفة اللحم المكشوف حتى أثار زوبعة أخرى بقوله " إن المسلمين أحق بأستراليا أكثر من أهلها من الأنجلو ساكسون الذين ذهبوا إليها مكبلين بالقيود والأغلال، أما المسلمون فقد ذهبوا إلى الأراضي الاسترالية بحريتهم بحثا عن فرص أفضل في الحياة " الأمر الذي أعتبر في أستراليا إقصاء يكشف عن رغبة دفينة في تفريغها من سكانها! هذه الآراء المتطرفة لا تخدم الإسلام بقدر ما تسيء إليه، لكنه خطاب التطرف الذي يصر على تطرفه ورفضه الآخر غير مبال بالدين الذي ينتسب إليه ويدعو باسمه! مما جعل رئيس المركز الثقافي الإسلامي في نيويورك يقول : إن الأمة الإسلامية لم تعد قادرة على إيقاف المتطرفين عند حدودهم!
إن التساؤل الذي يجدر بنا طرحه في هذا المجال هو: لماذا انحرفت نظرة بعض المسلمين إلى المرأة واتجهت اتجاها غير إنساني لا يليق بإنسانيتها وكرامتها؟
إن تغييب عناصر مهمة عن الرؤى المتعلقة بالمرأة كالظرف التاريخي والسياق الخاص الذي أنشأ بعض الأحكام والمقولات الدينية الحافة بموضوع المرأة، وتجاهل الاختلاف الكبير بين العبادات والتكاليف الشرعية مما ورد فيها أحكاما قطعية الثبوت، والتكاليف التي لم ترد فيها أحكام قطعية مما يتعلق بالسلوك والمعاملات والمظهر العام واعتبارها مسائل اعتقادية يقينية لا مسائل خلافية كعدم تغطية الوجه، فتستباح كرامة المرأة وتنتهك إنسانيتها بمبرر ارتكابها معصية وإخلالها بركن ديني! كل هذا قاد إلى تلك الرؤى المشوهة لإقرار صيغ نهائية غير قابلة للنقاش تحظى بقبول المريدين والأتباع ورضا الإيديولوجيا المتطرفة التي يعتنقونها.
المرأة ضحية الثقافة المنغلقة ولا خلاص لها إلا بإعادة رسم جديد للبنية الثقافية للمجتمع بأسره، صحيح أن ذلك صعب في المدى القصير ؛ لأن البنى الذهنية تتصف بالثبات لكنها قد تتحول عندما تتوفر الظروف التي تساعد على التغيير وتستدعيه تبعا لتغير المحددات الإيديولوجية والثقافية المهيمنة على المجتمع، وفرض الأمر الواقع الذي تستدعيه المستجدات، فلقد ظل بعض المتشددين في دولة خليجية يرفضون دخول المرأة مجلس الأمة، وتعالت احتجاجاتهم وانتابتهم حالة من الهستريا عندما دخلت أول وزيرة لأداء القسم الدستوري، لقد كانت تلك ردة الفعل الأولية التي سرعان ما هدأت عندما فرض الواقع نفسه.