الوطن والمواطنة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"الوطن" كيان جغرافي مشمول بمفهوم "المواطنة" المستقر لدى كيان بشري، ومن أنسب التعريفات لمفهوم "المواطنة" أنه "انتماء متوهم" لمجموعة من البشر، و"متوهم" هنا ليست مشتقة من الوهم، وإنما بمعنى الإحساس الداخلي الناتج عن ممارسات عملية حياتية، بالانتماء إلى كيان بشري كبير، يمتلك كياناً جغرافياً معيناً هو "الوطن".
بهذا يختلف مفهوم "المواطنين" عن مفهوم "السكان"، الذي يعني عدداً من الأفراد أو المجموعات البشرية تقطن بقعة جغرافية معينة، سواء بصفة مؤقتة أو دائمة، دون أن يجمعهم جميعاً علاقات حياتية (مباشرة أو غير مباشرة) ومصالح مشتركة، تكون من القوة بحيث يتولد لديهم "توهم" بانتماء جمعي، يربطهم جميعاً بالكيان الجغرافي، بحيث يعلو هذا الانتماء ويتميز على أي انتماءات أخرى لأفراد أو مجموعات المواطنين، سواء كانت انتماءات عرقية أو ثقافية أو دينية.
إذا تتبعنا مسيرة الحضارة الإنسانية، سنجد أن الإنسان بدأ فرداً ينتمي لذاته، ثم انتمى لأسرته ثم لقبيلته، واستمر انتماء الإنسان على أساس عرقي طوال مراحل الترحال والبداوة، فلم يرتبط الناس بكيان جغرافي محدد إلا حين دخلت البشرية طور الزراعة، الذي استدعى الارتباط بالأرض، لتبدأ الاعتبارات العملية والمصلحية تفرض وجودها على الأفراد من خلال علاقتهم بين بعضهم البعض، عبر الكيان الجغرافي بمعالمه وثرواته، وتتغلب في تشكيل وعيهم على أي انتماءات أخرى، بالطبع لم يظهر الجدل بين الانتماءات المتعددة في البداية، لأن أحجام التجمعات البشرية الزراعية الأولى كانت ضئيلة، ولنا أن نتصور أن القرى الصغيرة البدائية قد توحدت فيها الانتماءات على الأرض والعرق والثقافة والدين، وظل الحال على ما هو عليه ما بقي التوسع في الكيانات الحضارية مرتهناً بالزيادة العددية الذاتية للسكان عبر التناسل، لكن مع تطور الحضارة وتطور وسائل الاتصالات والمواصلات، ومع تعدد الاحتياجات البشرية وتعقد علاقاتها، حدث تقارب ثم ارتباطات بين جماعات عديدة في محيط جغرافي أكبر، كان لابد ويحتوي عدداً من الانتماءات المتباينة، والمختلفة نوعياً عن الانتماء الجغرافي، بل ودخل الانتماء الجغرافي الأكبر ذاته في منافسة أو تناقض مع انتماءات جغرافية محلية صغرى.
"المواطنة" إذن ليس شعوراً (أو توهماً) فطرياً في الإنسان، بل هو وليد جدل حضاري مع ما سبقه من انتماءات، فهو الحلقة الأخيرة حتى الآن (قبل الانتماء الإنساني الذي تكرسه العولمة) من تطور الانتماءات، فالانتماء الفطري الخالص للبشر هو الانتماء للذات، الذي نستطيع حتى الآن أن نرصد بعض حالاته المتضخمة أو المرضية، حتى في أرقى المجتمعات حضارياً، وهناك مثل شعبي مصري يقول: "إن جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك"، وهذه حكمة من لم يبارح مرحلة الانتماء للذات، إلى مرحلة الانتماء للأسرة، ناهيك عن باقي المراحل الحضارية، فالجدل بين الانتماءات المتعددة، مرتبة زمانياً (شخصياً أو تاريخياً) من الأقدم إلى الأحدث، تختلف نتائجه من فرد إلى فرد، ومن شعب إلى آخر، ويعتمد على الطبيعة والمرونة الشخصية للإنسان، وعلى طبيعة العلاقات المادية والثقافية التي يحيا في ظلها الفرد، ويتم بناء عليها التفاعل الجدلي.
فتجمعات البدو الرحل المتواجدة داخل حدود كيانات سياسية وطنية، ليس من المتوقع أن ينمو لديهم "توهم الانتماء الوطني"، لأنهم في تعاملاتهم الحياتية مكتفون ذاتياً، وغير متشابكين جدياً مع سائر مقومات الوطن، وتقتصر العلاقات مع باقي الجسد الوطني على بعض التبادلات البسيطة مثل الشراء والبيع، دون ارتباط مصلحي عضوي حقيقي، بل ونستطيع أن نقول نفس الشيء وإن بدرجة أقل على الأحياء العشوائية داخل بعض عواصم الأوطان ذاتها، فهذه الأحياء المنسية والمحرومة من الخدمات باختلاف أنواعها، لا يتوقع من قاطنيها أن ينمو لديهم شعور المواطنة بنفس درجة نموه لدي سكان الأحياء المركزية الفعالة، من الواضح أن الجدل التفاعلي بين الانتماءات لا يسفر عن انتصار لانتماء محدد، مع انتفاء أو انعدام لباقي الانتماءات مختلفة النوعية، لكن ما يحدث هو عملية ترتيب لشدة وبالتالي أولوية تلك الانتماءات، في توقيت وظروف محددة، ويبقى ذلك الترتيب مرشحاً للحراك والتغيير، إذا ما تغيرت الظروف مع الزمن.
ففي بداية القرن العشرين كنا نسمع في مصر إبان ثورة 1919 صيحة واحدة تكاد تطغى على كل ما عداها، هي "الدين لله والوطن للجميع"، لكننا الآن وبعد مرور قرابة قرن على ذلك التاريخ نسمع في أرجاء ذات الوطن المصري صيحات أخرى في الاتجاه المضاد، مثل: "إسلامية . إسلامية" و"عودي يا مصر إسلامية" و"الإسلام هو الحل"، وخلف هذه الصيحات تيار فكري يتجذر في القاعدة الشعبية يوماً فيوماً، بأيديولوجية تعلن بوضوح عداءها واستهجانها للانتماء الوطني، وتبشر بانتماء ديني إسلامي، يشمل أنحاء الكوكب الأرضي، فمسيرة البشرية لم تسر يوماً في اتجاه واحد، من مراحل نعتبرها دنيا، إلى مراحل أرقى، فقوة الدفع الحضارية ليست مثالية وصماء وغائية، إنما هي حصيلة تفاعلات مادية وثقافية، تختلف نتائجها باختلاف المكونات الداخلة فيها كماً وكيفاً، ففي الوقت التي تصدح فيه أغاني الانتماء للوطن في وسائل إعلام وخطب القادة السياسيين، يكون التأثير الحقيقي تحت السطح وفوقه، لجماعة الإخوان المحظورة وهي تقدم الخدمات الصحية والتعليمية والاقتصادية للتجمعات العشوائية، ومعها غسيل المخ لتذويب الانتماء الوطني الذي تراكم -عبر عصور طويلة طول التاريخ- لدى الإنسان المصري، لصالح انتماء ديني محمل على ثقافة صحراوية بدوية، لا تعرف الانتماء للأرض، بل فقط للثروة المنقولة والقبيلة، حيث تأخذ القبيلة في هذه الأيديولوجية طابع القبيلة الدينية.
معنى هذا أننا لا نستطيع ببساطة أن نطلق توصيف "وطن" و"مواطنين" على أي كيان مكون من حيز جغرافي وسكان، ويقع تحت حكم نظام سياسي معترف به دولياً، فبعض تلك الكيانات مكون من عديد من القبائل، وبعضها صنعها الاستعمار من قبيل تنظيم فوضي بقاع متخلفة حضارياً من العالم، وقد روعي في التنظيم مجرد إمكانية السيطرة الديموغرافية، بغض النظر عن تجانس تلك الكيانات، بمعنى توفر مقومات مفهومي "الوطن" و"المواطنين" بها، علاوة بالطبع على الكيانات السياسية التي تكونت بالغزو والقهر، وأوضح مثال لها جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
وإذا كنا معنيين ليس بالحديث عن المثالي والمفروض، وإنما بالبحث فيما هو واقعي وقائم، سعياً لمقاربة علمية كفيلة بتحقيق أفضل النتائج، من منظور الحداثة والتحديث، فإن علينا أن ندرس واقع المنطقة محل اهتمامنا، وهي منطقة الشرق الأوسط، أو ما يسمى بالعالم العربي، فالعديد من الكيانات السياسية (الدول) في هذه المنطقة تعاني مما اصطلحنا على تسميته بالاضطرابات أو الفتن الطائفية، ما يعتبر بناء على مقاربتنا هذه حالة عدم نضج أو تراجع لمقومات "الوطن" و"المواطنة"، وإذا كنا ممن يعتبر مفهوم "الوطن" هو المرحلة الأكثر رقياً في مسيرة الحضارة حتى الآن، فإن هذا يدفعنا للتوجه نحو دعم الكيانات الوطنية بالمنطقة (مع الاعتذار لمن ينادون بالوحدة العربية، بين كيانات تتهاوى داخلياً)، ومساعدتها على استكمال نضج، أو وقف تدهور مقومات "الوطن" و"المواطنة"، لكن -فيما نرى- دون أن يتحول هذا التوجه إلى دوجما، نتعبد فيها لصنم "وحدة الوطن"، بالمخالفة مع حقائق الواقع، التي قد تستعصي على التطويع اللازم لحدوث جدل إيجابي، بين المكونات الانتمائية الفرعية، وما ينشأ عنها من تولد "انتماء متوهم" لدى "السكان"، ينقلهم إلى تعريف "مواطنين".
فذات الاعتقاد في رقي مفهوم "الانتماء الوطني" حضارياً على سائر صنوف الانتماءات الأخرى، يدفعنا إلى السعي للحصول على كيانات وطنية حقيقية، ويتأتى ذلك أولاً بالسعي لتدعيم وتطوير "وطنية" الكيانات السياسية القائمة، ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، أما في حالة تعارض تلك الأولوية مع حقائق الأوضاع على الأرض، بمعنى أن الانتماءات التي تتنازع هذا الوطن غير قابلة للاندماج، في حين أن كل من تلك الكيانات يمتلك مقومات الوطن المستقل، سواء المقومات المادية أو الثقافية، فإننا في هذه الحالة، وانطلاقاً من ذات ثقتنا في الوطنية والمواطنة، يتحتم علينا القبول بتقسيم هذا الوطن الافتراضي، غير المكتمل المقومات، إلى أكثر من وطن حقيقي، وأمامنا هنا مثال جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، الذي لم يفلح عنف وقهر المرحلة السوفيتية في تحقيق الاندماج بين مكوناته، وكان الحل السعيد هو استقلال كل شعب يمتلك "توهم انتماء" لكيان قادر على الحياة المستقلة اعتماداً على إمكانياته المادية والثقافية المستقلة.
أمامنا أيضاً مثال السودان، الذي مزقته الحروب الطائفية لعدة عقود، والذي تأسس بالأساس بفعل تخيط الاستعمار الإنجليزي، دون مراعاة لمدى انطباق مقومات الوطن الواحد على التجمعات بداخله، فلقد استقر الفرقاء الموقعون على اتفاق نيفاشا بإعطاء أنفسهم مهلة مدتها ست سنوات، يسعون خلالها لاستكمال مقومات الوطن الواحد، بعدها يمكن لهم أن يلجأوا إلى حل قيام أكثر من وطن على رقعة السودان، إذا تحتم ذلك.
تختلف علاقة "السكان" بالحيز الجغرافي الذي "يسكنونه"، عن علاقة "المواطنين" بالوطن الذي "يمتلكونه"، فعلاقة "السكان" بمكان سكناهم أشبه بالكعكة التي يقتسمها الحضور، لينال كل فرد نصيباً مساوياً لحجم الكعكة مقسوماً على عدد الحاضرين، أو شركة مساهمة يمتلك كل فرد فيها سهماً واحداً، وفي هذه الحالة يكون لدائرة انتماء خاصة بأغلبية عددية نصيباً أكبر من أصول ورأسمال الشركة، ولها بالتالي أن تقرر مصير الشركة، بغض النظر عن رأي الأقلية، مع حفظ حق الأقلية في نصيبها المحدد، وإن لم يرق الأقلية ذلك يمكن لها أن تتخلى عن نصيبها في الشركة نظير مقابل مناسب، لكن الأمر على الإطلاق ليس كذلك في مفهوم "الوطن" و"المواطنة"، فانتماء المواطن للوطن يعني أيضاً انتماء الوطن للمواطن، فالمواطن لا يمتلك جزءاً من الوطن، يتوقف على عدد السكان، ولكنه يمتلك الوطن كله كاملاً، وحين أقول مثلاً أن مصر وطني أو بلدي، فإنني لا أعني فقط المحيط الذي يمتد فيه نشاطي كفرد، لكنه يعني امتلاكي لمليون كيلو متر مربع، هي كل مساحة مصر، بوديانها وجبالها وأنهارها وبحارها، ويترتب على هذا أن لا حق لأغلبية مهما بلغ عددها، أن تتجه بالوطن إلى ما يعصف أو يضر بمصالح ووجود الأقلية، أو بملكيتها لكل الوطن، مهما صغر حجم تلك الأقلية، فالوطن وحدة واحدة لا تقبل القسمة أو التجزئة.
فإذا كانت الديموقراطية تعني سياسياً حكم الأغلبية، فإن هذا في مجال الوطن مشروط بعدم المساس بحقوق الأقلية، حيث معيار الحقوق هنا هو المساواة التامة في تقرير مصير الوطن، بغض النظر عن الكثرة العددية لهذا الطرف أو ذاك، حيث تقتصر فلسفة الارتكان إلى رأي الأغلبية إلى أن أصوب الآراء هو ما يتبناه أكبر عدد من الناس، أما إذا كان المجال هو صراع انتماءات داخل الوطن، فإن الأمر في هذه الحالة ليس أمر ترجيح آراء من حيث الخطأ والصواب، وإنما هو أمر تقرير مصير الآخر رغماً عن إرادته، وهذا ليس أكثر من ممارسة القهر والاغتصاب، بحيث يؤدي الإصرار على السير على هذا النهج إلى تداعي مقومات الوطن، فيصير كياناً مهلهلاً، لا تستفيد منه أقلية ولا أغلبية، خاصة في حالة صراع الانتماءات غير القابلة للفصل ديموغرافية ومادياً، لأنها بالأساس مكونات وطن واحد، تعمل بعض الأيادي والأيديولوجيات على هدمه على رؤوس أهله.
kamghobrial@yahoo.com