كتَّاب إيلاف

الحسناء والمعرّي

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الجواهري: وعي على ذاكرتي (12)

يصل الهمس الموسوس الى اسماع ام نجاح فتضحك
- انت تمزحين معي يا ام علي.. هذه احدى نكاتك.
تصمت ام علي بوجوم لفترة
- كان من الواجب ان اخبرك كقريبة وصديقة، احسن من ان يصلك الخبر من غيري وربما بشماته
- تعنين انه وصل الى بغداد وانشغل عنا ليوم او يومين؟
- انه هنا منذ اسبوعين.. لقد استأجر بيتا قرب الجريدة.
تنصت ام نجاح هذه المرة بجدية وبوجه بدت عليه معالم القلق والارتباك.
- مهما تكن مزاجاته وظروفه لا يعقل ان لا يمر على البيت حين عودته من الشام ليطمأن على البيت والاطفال.. خبريني الحقيقة انت تخفين شيئا اهم.. تكلمي لقد اوقعتي قلبي وهد ّيتي حيلي.
تكتئب ام علي.. يتعرق وجها المفرط السمنة.. تلقي بعبائتها التي لا تزال تتهدل من على كتفيها.. تخرج منديلا مجعّدا من احد جيوب ثوبها الاسود، وقبل ان تمسح وجها المتعرق تخاطبني
- يرحم روح امك الطاهرة.. قدح ماء!
اتحرك عنهما ببطء شديد لاتـّسمع بقية ما يقال.
- قولي ما عندك!.. ام علي، لا تعذبيني اكثر!
تتنحنح المرأة السمينة المتربعة امام خالتي:
- انه في هذا البيت المؤجر مع زوجته السورية.
- ما هذا الخلط الذي تقولينه، انت تنقلين اكاذيب وتقوّلات اناس مغرضين يريدون الشماتة بابي فرات و بي انا.. حسد وغيرة، قاتلهم الله هم لا يتركونا بحالنا.. وانت ِ كيف تصغين وتنقلين هذه الاكاذيب... واستمرت خالتي بالدمدمة ثم اخذ صوتها يرتفع بغضب وكأنها ستقدم على ضرب المرأة
المفرطة الطيبة كسمنتها.
تصمت ام علي بسهوم مطأطأة رأسها للزوبعة التي كانت قد توقعتها.
حين تجابه ام نجاح الصمت الطويل المفزع ذاك، تسأل بصوت متكسّر بالعبرة المختنقة:
- كلامك اكيد؟!.. من مصدر موثوق؟!
- ليس هنالك اكثر ثقة من ابو علي وانت تعرفيه.. لقد طلبه ابو فرات واوصاه ان ينقل كمية من النقود وهدايا للاطفال جلبها لهم من سورية.. ابو علي ارتأى ان افاتحك انا بالامر وانقل الامانة المرسلة.
نكـّست ام نجاح رأسها وبدأت دموعها تسيل بصمت، اعقبتها شهقات مسموعة تحولت بسرعة الى نشيج بدء يتعالى بأطراد مع ازدياد انحناءة الجسد المختـّض.
البيت كئيب.. جميع من في البيت يتنقل دون صوت مسموع يتحركون في مهماتهم واحتياجاتهم كالظلال وما يجب قوله كان يدور همسا.
اراقب بقلب كسيرالمرأة التي عصـّبت راسها بمنديل تخفيفا للهم والصداع وهي تهيم دون قرار في ارجاء البيت تبحث عن زاوية جديدة لم تسـّح فيها دموعها بعد، مرة بصمت، ومرات بنشيج يتصاعد ليصل الى غرفة نومنا في الزاوية العليا من البيت المكشوف على دجلة والسماء.

مرت ايام واضحت كآ بة البيت شيئا ثقيلا أثـّر حتى على اهتماماتي الطفولية داخله، بل وحتى مع صحبة الزقاق خارجه، تلك التي كنت اراها قبل ذلك سعادة لا تضاهى، اصبحت مجرد ملاذ اهرب فيه من الجو الخانق الكئيب.
.. زوبعة البكاء وهستيريا الغضب تلتهب وتستمر لايام، بعد كل محاولة من الوالد لدخول البيت، اذ ان هذه المحاولات المعدودة كانت تجابه بمتاريس من الصراخ والنحيب وقذائف من الكلمات القاسية تجعل اجتياز ممر مدخل الدار الذي لا يتجاوز اربعة امتار شيئا خطرا إن لم يكن مستحيلا، مما يجبر الاب (الدخيل)على التراجع اسيفا غاضبا.
كانت محاولاتي اللحاق به شوقا لا تفلح، اما لاحتضانه لي فترة قصيرة في الزقاق، يجد فيها نفسه مضطرا بعدها وعلى عجل، ان يقنعني بالعودة قبل ان يصبح المشهد مثار فضول الجيران المتعاطفين قاطبة مع الجارة الطيبة (المنكوبة)، او انني كنت أمنع من قبل خالتي التي تحول ذراعيها الممسكة بي بشدة عن اللحاق به حين خروجه.

بدأت الامور تهدأ قليلا في البيت بعد نصائح الجارات المتقاطرات بانتظام.. بدأت الخطط تحاك لتخطي مرحلة هزيمة المعركة الاولى والانتقال الى العمل الجاد للهجوم واسترداد المواقع.
ضمن التمائم و الرقى والتعاويذ وانواع (العمل) المجرب لدى النخبة من المهجورات والطليقات السابقات، وزيارات مراقد الائمة والشيوخ) المعصومين( واصحاب) الطريقة (، كنت انا محورا رئيسيا وسلاحا في الخطة المرسومة. ففي الوقت الذي كان فيه فرات واميرة شقيقتي الكبرى يرونه خلسة وعيانا، كنت احرم من زيارته، لا في مكتبه في الجريدة - وبالطبع - ولا في البيت الجديد (الملعون) للجواهري، كان جاسم عريبي ساعي الجريدة بل وحتى مصطفى البلام يعودان خائبين حين يرسلهما الوالد ليرافقاني اليه لساعات، او للمبيت معه في عش غرامه الجديد وكنت اعلن بعد امثال ذلك المنع ثورتي وعصياني، وكانت حجج اقناعي: أن هذه المرأة الجديدة إن هي إلا غولة بشعة.. سعلاة شرسة قد تفترس الاطفال الصغار.
لم اصدق ذلك تماما ولم اكن استسلم لهذا (التحريم).. كنت اجابهه بالزعيق والبكاء، بل وحتى بالشتائم، وبالتهديد بالهرب من البيت و الالتحاق بالزوجة الدخيلة والبيت الجديد.
.. بدأت هدايا الخالة ام نجاح تزداد وتحولت معاملتها الى شكل ارق بكثير مما سبق واخذت المعاملة الجديدة تفعل فعلها في تهدئتي.
.. واتى اليوم السعيد (ويبدو انه كان ضمن خطط و نصائح الحلفاء، حائكي خطط الهجوم المضاد من الجيران والاقارب).. سمح لي بالذهاب، ولكن بعد اشكال عديدة من الاستمالة واخذ العهد علي ّ بالتعاطف مع الطرف المحب والحريص و " المظلوم " قي آن واحد، وذلك بالاستماع الى التوصيات قبل مغادرتي.
.. اخذت اوكـّد محبتي وتعاطفي بصوت ضاحك سعيد واشفعت تاكيدي ذاك بقبلات عديدة على وجه خالتي الدامع.

لا اتذكر من الذي اوصلني الى ذلك الزقاق في منطقة باب المعظم، والذي يواجه مدخل وزارة الدفاع.
كنت في حالة سيئة من الرهبة والاضطراب لدخولي بيت (السعلاة) المحرم، ولم يخفف من هلعي وغربتي من المكان الذي دخلته استقبال والدي المرحـّب المرح، ولا شوقي الشديد لرؤيته بعد انقطاع طويل.
بعث البيت الشرقي الكبير ذو الدورين الكآبة والعتمة الموحشة في اعماقي عند دخوله، رغم انفتاح باحته لصفحة السماء والنور.
.. أجيل النظر باستغراب في الغرف العديدة الفارغة، بابوابها الخشبية العاتمة.. بشبابيكها الطويلة العديدة المحزّمة بقضبان معدنية سوداء، والتي تطل جميعها في الدورين على ساحة الدار المربعة... أتوق في الحال الى النهر الوسيع والنخيل المتراءي على الضفتين والشرفة الرحبة المفتوحة عليهما، الى الزقاق المنحدرة جوانبه على الشاطيء الرملي، الى الكتل الحجرية القديمة السابحة في الماء، الى تقافزنا من فوقها الى عمق دجلة.
". ها قد وقعت في المصيدة!.. لا عبودي ولا برهم ولا عمر!.. راحت عليك لعبة (الكعاب) و (الدعبل)، ومقايضات الزنابير والنحل تلك التي كانت تتم في الزقاق عند الظهيرة بين رفقـتنا (شلة الزعران) كما تسميها الخالة. "
" اريد ان اعود الآن!!.. كيف والوالد يحتضنني بلا فكاك؟!.. كيف وقد اغلق الباب الضخم بالترباس خلفي.. "

- تعالي.. تعالي هنا.. فلاح اتانا
".. ورطة جديدة.. كيف ساواجه هذه التي تخيفني خالتي بها.. (السعلاة.. سارقة الرجال)؟!
"اثبت!.. تـشجـّع! انت في حماية ابيك! "
اسمع صوت اقدام تنزل السلم وتقترب
.. احاول استجماع شجاعتي(كرجل) لمواجهة الموقف
.. اشم رائحة عطر خفيف
.. يحتضني جسد لين ناعم برداء حريري تنتثر فيه حديقة من الاوراد الوردية والحمراء والصفراء.. العطر ينبعث بشكل اشد من حديقة الاوراد.
أهدءُ قليلا.
.. اهدءُ كثيرا.
بركبة مثنية واخرى نصف مثنية تقف امامي واضعة كفين رقيقين على كتفي ّ
.. ترفع وجهي المرتبك الخجل المتجه الى الارض
.. اراها تنظر الي بحنان مفرط قبل ان تضمني من جديد وتغمر وجهي بالقبلات
.. يعبق عطر البستان من جديد.
انظر بخجل وخوف الى وجه (السعلاة)
.. تتسع حدقتاي واجمد في مكاني من الدهشة.
تنطلق تنهيدة الرهبة التي انحسرت
.. الوجه الذي احد ّق فيه لا يثير الفزع.
احس بفرح غامر.. ها قد تجاوزت الخطر المخيف!
.. ارى ابتسامة ودودة يعقبها صوت ناعم:
- يادلـّي يا دلـّي شو محبوب هالعفريت الصْغير..
اتملـّى في الوجه الذي امامي بشجاعة.
.. الابتسامة لا تزال تنثر الفرحة في الوجه الجميل.
ابيض كالحليب.. يتهدل على جانبيه شعر اسود ناعم كالحرير.. خصل تتدلى بمرح فوق جبهة عالية.. عينان وسيعتان سوداوان.. خدان متوردان وفم برقوقي صغير
.. انها اجمل حتى من جارتنا سنية حسناء زقاقنا.
قبلت سنية قبل اسابيع.. وعدتها انني سأتزوجها بعد عشر سنوات حين الحق بها ونصبح انا وهي في عمر واحد.
.. اعيد النظر من جديد.
.. سحر السعالي لا يدوم طويلا.. سيختفي.. ستظهر على حقيقتها المخيفة بعد لحظات..
.. لاشيء يتبدل!!
.. تظل هي هي!!، اجمل من سـنية.
تسحبني ممسكة برفق بذراعي الى غرفتها في الدور العلوي
.. الغرفة واسعة جميلة الترتيب.. معطرة بعطر البستان الذي فاح من اوراد ثوبها
.. تخرج من ادراج طاولة زينتها العريضة ذات المرآة الواسعة اشياء ملفوفة باوراق ملونة.
.. تجلسني في حضنها وتفتح اللفائف.
.. لعب صغيرة وحلوى على شكل فاكهة مختلفة..
تقبلني من جديد.
.. نـُُفذت التوصية الاولى.. (معرفة السعلاة).

لم أر والدي ولا في أي يوم في بيتنا بمثل هذا المرح والانطلاق، فوجهه إما ضاحكا او مبتسما او على الاقل ينضح بالرضى.. مليء بالحيوية والنشاط.. يعبث كثيرا مداعبا او ممازحا الصبية التي لا تكبر جارتنا سنية - ابنة السابعة عشر - كثيرا.. يتبعها الى اماكن لم اكن اره يتواجد فيها في بيتنا.
.. لم يكن يتركها لوحدها إلا ما ندر.
بدى لي والدي في عمر ونضارة وعبث عمي جعفر.. اصغر اعمامي.
.. حديثه ومزاحه معي قد زادا ايضا عما في بيتنا.
.. اوشكت وحشتي ان تزول.
هي!! لم أرَ وجها بتلك الانطلاقة والسعادة والرضى في كل الوجوه التي كانت تحيط بي في بيتنا او حتى في غيره.
.. تم تنفيذ التوصية الثانية.. (مراقبة تصرف الاثنين).

حان وقت مغادرة والدي الى الجريدة عند العصر. نـزلتْ لتوصله الى باب البيت وبقيت انا في غرفتها في الدور العلوي.
كنت اراقبها من سياج الممر المشرف على باحة البيت وهي منهمكة اما برش ارضيتها، او ترتيب فرش التخوت الشرقية الانيق
.. دخلتْ الى المطبخ واختفت.. من اصوات القدور والصحون ادركت انها تعد طعام العشاء كي يكون جاهزا عند عودة الوالد.
.. ها قد حانت اللحظة المناسبة لاثبات ولائي.
اسرعت عائدا الى غرفتها ولم يطل بحثي، فامامي وعلى منضدة التواليت العريضة بمرآتها الكبيرة، تصطف مجموعة من قناني العطور، وقناني اصباغ، وعلب دهان، ومساحيق باشكال والوان مختلفة جميلة.
.. أفرغت قناني العطور برشها على اقرب مكان من المنضدة.. سكبت قناني الاصباغ والدهون وبعثرتها.. نثرت كل المساحيق الطحينية البيضاء والوردية فوق ارضية الغرفة.
ما ان اتممت (مهمة الازعاج) في التوصية الاخيرة حتى زال عني فوراً هوس اللحظة المجنونة.
.. القيت نظرة على المنضدة وارضية الغرفة الصاخبة بفوضى الالوان والروائح.
.. اخذني هلع لم احسه مع أية (مكسورة) سبق وان قمت بها.
.. لا استطيع الهرب!!.. لم يهدني تفكيري الى اي خلاص.
أتيت اجرجر قدميّ بخذلان الى سياج الممر.. وضعت ذراعي فوقه ووسـّدت رأسي..
تاه بصري المشتت في ساحة الدار الفارغة.
- شو بك حبيبي؟!.. ليش هيك الحلو زعلان؟!.. مستوحش حبيبي؟!.. تعا معي!.. تعا! بدي فرجيك شي كتير حلو!
سحبتني برفق من ذراعي بأتجاه غرفتها.. تبعتها كخرقة عالقة برأس مطأطأ.
.. اسقطت ذراعي فجأة عند الباب.
- شو هاي ده؟!.. شو لي صار؟!.. صرختْ بفزع وألم.
تحركتْ بخطى وجلة مخذولة.. وقفت عند حواشي المساحة المبعثرة من الغرفة منكـّسة الرأس. جلستْ على حافة السرير محنية بكامل جسدها تجاه الارض..
ساد سكون مرعب، اعقبه صوت نشيج.. الصوت المختنق بدأ يتعالى.. اخذ جسدها النحيف يختـّض مع نوبات البكاء المتصاعد.
.. احسست بألم يخنقني.. خجل لم يسبق ان شعرت به بعد اية (مكسورة) سابقة مهما كانت (شنيعة).. بدأتُ ببكاء صامت.. تحول الصمت الدامع الى نحيب فاق نحيبها.
.. غامت الغرفة وكل ما حواليّ بسيل من عيني ّ وانفي وفمي.
.. لم احس بالطريقة التي جرتني بها الى جانبها من حافة السرير.
.. اخذنا نبكي سوية.
مسحت عني دموعي برفق بكفيها، ثم بمنديلها الصغير.
- ليش هيك؟.. ليش عملت هيك حبيبي؟!
.. عاد الخزي يستثير بكائي من جديد.
- يالله اووم، ولا يهمك!.. ما اولنـَه ْ بيكفـّي!.. انشالله تؤبرني، بيكفـّي حبيبي!.. اووم! اووم بنلْم الحاجات اللي وعو من دياتك.. اوم حاجة بئا!!
احتضنتني بصمت فترة غير قصيرة.
.. بدأ عطر ورد البستان يفوح من جديد.
- وشو يعني؟! انا كمان كنت بكبْ حاجاتْ في البيتْ متما بزعل.. يا لله نلـْم ْ انا وياك الحاجات اللي نكبو.
حين عاد الوالد في الليل، كانت قد ازالت كل ذلك الخراب تقريبا، وعلى المائدة المزينة بصحون الاكلات اللبنانية اللذيذة كان حديثهما مرحا مثل ما كان في الظهيرة.
بقيتُ رغم اهتمامها بي في الحديث والطعام ارقب اللحظة التي ستخبره بها بـ (مكسورتي الشنيعة).
.. لا اعرف والى يومنا هذا هل اخبرته، ام لا!
.. تشارف الآن على ثمانينها.. تحية محبة للحورية الجميلة اينما تواجدت!! (فلاح الجواهري)


(قبل ان اخرج من بغداد كانت تتوالى انباء مهرجان الاحتفال بالذكرى الالفية لوفاة ابي العلاء المعري والتمهيدات لعقد المهرجان في سوريا، وكنت شخصيا اوالي نشر اخبار هذا المهرجان يوما بيوم من خلال جريدتي الرأي العام.
كذلك كانت الصحف والمجلات العراقية تنشر اخباره واسماء المشاركين فيه، ولم اكن من بينهم.
وكانت جريدة القبس بين ايدي الباعة فنادى الاديب المعروف سعيد الجزائري على احدهم ليأتي بها، ووجدت في محل بارز فيها خبرا عن انتدابي لاكون ممثلا للعراق في مهرجان ابي العلاء المعري.
.. ونحن في هذا الحديث دخل صاحب شركة النقل، واعلمني ان السفارة العراقية بدشق تطلبني على الهاتف، فذهبت معه فاذا بالسفير العراقي بدمشق يعلمني ان المسؤولين في بغداد طلبوا منه بالحاح شديد ان يحملني على المشاركة في المهرجان.. فقلت " الم يكن بوسع من ابلغوك ان يبلغوني قبل هذا وانا بينهم ببغداد وعلى اقرب مسافة منهم؟ ".
فاجاب " اقبل يدك! هذا الفخر يعود الي ّ في موافقتك، لانني المكلف ليس فقط بابلاغك وانما باقناعك "
وقد اخجلني الرجل في الواقع فقلت له " اكراما لعينيك ساحاول. ومبدئيا ساقبل التكليف ".
سهرت ليلتي الاولى حتى الصباح والحقتها باخرى، وكانت حصيلة الليلة الثالثة من هذه النهارات والليالي الثلاث، قصيدة (دالّية)، لا تقل عن السبعين بيتا.
كنت اراجعها وافحصها واتمعن بها فلا اجد المعري فيها، فغضبت عليها ومزقتها قطعا متناثرة.
.. صادفت صديقي الشاعر الاصيل (عمر ابو ريشة) و ذهبنا سوية الى مغنى (الطاحونة الحمراء) وهناك انطلق ليقول " اقتربت الايام... ماذا عندك؟ "
ضحكت وقلت " يا (ابا الخطاب) الليلة قبل البارحة تلقيت النبأ وانا هنا، وحاولت ليلتين ساهرتين فلم استطع شيئا مما اريد ". بعد الليلة الثالثة، كما قال الحكيم الاغريقي " وجدتها! ".. بيتا واحدا فقط:
قف ْ بالمعرة ِ وامسح ْ خد َها التـَرِبا واستوح ِ من طو ّق َ الدنيا بما وهبا

في اليوم التالي، سالني: ماذا بعد؟ قلت: ولا بيت! قال: " عصر اليوم سيكون موعدنا معا في وادي العرائش بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة صهري، فعسى ان تاتي السماء او ياتي الاله، او شيطانك انت بالذات، ليوحي لك بشيء! ".
ذهبنا سوية الى لبنان، الى بيته في زحله، وهو ما يشبه القصر الفخم، ثم توجهنا الى وادي العرائش الساحر، وهناك اقيم الحفل واقول (حفل)، لانه لم يكن عزاء. اذ جرت العادة عندهم حين يفقدون عزيزا الا يزيدوا الجو الحزين نحيبا ولطما للخدود وشقا للجيوب وانما يعقدون جلسة مسلية معزية في آ ن واحد، ومعها كؤوس عرق على موائد كريمة. وكان هذا من التقاليد الحضارية الجميلة، التي اعجبتني.
قال لي عمر: تعال وجرب شيئا جديدا!، سانتقل بك الى عش آخر... عش جميل، وطائر جميل.. جرب نصيبك واستوح منه ومنها.
فقبلت ذلك ممتننا، وصحبني الى ذلك العش، على ربوة خضراء في زحله وكان اصحابه من صغار المزارعين.
استقبلتنا بالباب، تلك الصورة الماثلة امام عيني حتى الآن: الفارعة، البديعة، الفاتنة.
لم يطل عمر الحديث معها باكثر من جملة واحدة: انني اضع بين يديك اعز من عندي.. واريد ان يستوحي عندكم وحيا والهاما.
جلست، وجاءت الفاتنة، الساقية، وكنت انا في مثل هذا الحلم الجميل، تائها، شاردا، لقد كان مزاجي وما يزال عجيبا، فالكائنات ومن فيها، وما فيها لاتهمني بقدر ما يهمني ان التقط بيتا ثانيا او ثالثا. والفتاة تتفرس بهذا الطائر الجديد، الغريب، العجيب.
ولم ألمس، بطرف من اناملي تلك السيدة الجميلة، ولم الثم الوجه الساحر الذي يقتحم عيني ونفسي وضميري، واكتفيت من الجلسة الملهمة باحتساء كأس من الشراب، وتمددت على الفرشة المهيأة لي.
في الغبش، انسللت واصحاب المنزل في سبات، واظن ان احاديثهم في الصباح دارت عن هذا المتطفل الطاريء الفريد من نوعه. ) (
الجواهري: ذكرياتي)

* * *

" الجواهري ضيف على عائلة (بيضون) اللبنانية - السورية العريقة.
.. تتقدم ابنة المضيف بأقداح المرطبات،.. صبية في الثامنة عشر من عمرها، رشيقة القوام، انيقة في ملبسها المتواضع.. الوجه صبوح رائق البياض متناسق التقاطيع.. العينان وسيعتان سوداوان، والشعر منسدل فاحم.
.. تتقدم بخفر وحياء تجاه ضيف العائلة الذي سبقته شهرته الى البيت، ذلك الرجل الفارع الطول الانيق الذي يتحدث بصخب ومرح غزلا وشعرا.
.. تلتقي عينا الشاعر بعيني غادة الجبل.. تسري هزة بارقة بين القطبين.
.. ظلّ َ الوجه الفاتن باشراقة ابتسامته الخجولة يؤرق ليل الشاعر.. يضنيه.. يوقد فيه انوار وعطورا ملائكية.. تبد ل الصور مواقعها آنا وآخر مع شياطين شعره.. ألهمس لم يتحول بعد الى كلمات شعرية.. فيلسوف المعرة لا يزال بعيدا.
.. لا سبيل الى الملائكة.. لا مدخل للشيا طين.. لا وسيلة للنوم.
.. في الغبش ينسل الشاعر واصحاب المنزل في سبات.
.. حديثهم في الصباح دار عن هذا الطائر الغرد الفريد. " (
متابع ُ حدث)

****

(خرجت، على نية الاتجاه الى دمشق، كان ذلك يوم السبت، ولم يبق على موعد افتتاح المهرجان إلا ما يزيد عن يومين او ثلاثة بقليل، فوجدت الناس قادمة غلى العكس، من دمشق الى زحله، قلت لنفسي: " لماذا انا ذاهب اليها ومن وادي العرائش نفسه؟! وفي هذا اليوم الموعود بخاصة؟! ".. ففضلت البقاء في زحله. ) (الجواهري: ذكرياتي)
* * *

" الجواهري قادم من زحله. يجلس سارحا في المقهى (العربي) الذي يتردد عليه كلما كان قي دمشق.. "
" تلك الصبية الرقيقة الخجولة.. ذلك الوجه الساحر.. يا لرنة موسيقى صوتها الساحر.. وجها خيال شاعر صوتها نغمة الشعر.. انت يا من تبحث عن الشعر.. انها الشعر صورة وصوتا. "
" انت لا تستطيع فكاكا من قدرك.. قدرك ليس في المعري وحده.. قدرك في (ملاك الشعر) الذي يطير بك الى اجوائه.. هذا هو يومك الخاص الموعود! "
" يترك الجواهري فجأة مكانه وصحبه في المقهى الدمشقي ويعود "
".. تفتح هي الباب. "
" - كنتُ متأكدة من انك لابد عائد. "
".. يتقدم الشاعر العاشق الى اهلها طالبا يدها. " (
متابع حدث)

* * *

(تصرمت الظهيرة الطويلة في صيف زحله ووادي العرائش، انتبذ ت زاوية، وعلى صورة اسطورية، وجهي الى الجبل، وظهري الى الناس، عسى ان يكون ذلك اكثر من اشارة الى من يراني بالتعطف علي وتركي وشأني. وانتصب امامي كأس عرق، لفائف تبغ، ونرجيلة معا ً.
.. ما ازال مؤمنا وموقنا ان الانسان كائن، مخلوق من هذا العالم، غير ان قضية الفن والفنان وامتزاج المرء بعوالم اخرى عن هذا الطريق فهي شيء آخر!
.. وانا على مثل هذا الحال من الضياع، كنت اسمع همسا آخر خارجا عن نفسي، فاسرعت بامساك القلم لضبط الحروف والكلمات لكي لا يفوتني شي ء، واذا بهذا الهمس يتحول الى ابيات ثلاثة:

اعدت النظر وانا اكاد لا اصدق هذا الهمس في الحروف التي امامي، فضربت الطاولة بجمع يدي وبدون توقف ركبت اول سيارة عائدة الى دمشق ليلا.. القضية انتهت وتوقف الهمس، وصمتت النفس عن حديثها، واصبحت القصيدة كلها في جيبي.

* * *
.. وبينما كنت القي القصيدة كانت يدي اليمنى تمتد عفو الخاطر، الى الكتف اليسرى للدكتور طه حسين الذي كان يجلس الى جانبي:

سـَل ِ المقاديرَ، هل لا زلت ِ سادرة ً أمْ انت ِ خجلى لما أرهقته ِ نـَصـَبا؟
وهل تعمّــَدت ِ أن أعطيت ِ سائـِبـة ً هذا الذي مِن عظيم ٍ مثلـَه ِ سُــلِبــا
هذا الضياء َ الذي يـَهدي لمكمنـِه لـِصـاً ويرشــد ُ افعى ً تنفـث ُ العـَطـَبا
(الجواهري: ذكرياتي)

* * *

قفْ بالمعرّة ِ وامسحْ خد ّها الترِبا
واْستوح ِ من طوّق َ الد نيا بما وَهبا
واستوح ِ منْ طـَبـّب َالدنيا بحكمتهِ
ومنْ على جُرحها من روحه سَكبا
على الحصير وكوزالماء ِيرفـد هُ
وذهنه ُ ورفــوف ٌ تحمِـلُ الكـُتبا
أقام َ بالضجة ِالكبرى واقــعـَدها
شيخ ٌ أطل ّ َ عليها مـُشفِقا ً حـَد ِبا
بكى لاوجاع ِماضيها وحاضرها
وشـَام َ مُسـتقبلا ً منها ومُـرتـَقـَبا
سـَل ِالمقاديرَ هل لا زلت ِسادرة ً
أمْ انت ِ خـَجلى لما أرهقته ِ نـَصَبـا
وهل تعمـّدت ِ أن اعطيت ِسـائبة ً
هذا الذي من عظيم ٍ مثله ِ سـُلـِبا
هذا الضياءَ الذي يَهدي لمكمـنه ِ
لـِصاً ويـُرشـِد افعى ً تنفثُ العـَطَبا
لثورةِ الفكرِ تأريـــخ ٌ يـحدّ ّثـنا
بأن َ ألف َ مسيح ٍ دونـَها صُـلـِـبا
آمنت ُبالله والنورِ الذي رَسَــمتْ
به ِالشرائع ُغـُرّا ًمـَنهـجا ً لَـَحِـبا
لكن َ بي جـَنـَفا ًعن وعي ِ فلسفة ٍ
تـَقضي بـأن َالبرايـا صـُنـفت ْرُتـَبا
وأن ّ َمن ْجكمة ٍأنْ يـَجتني الرُطبا
فرد ٌ بجـُهد ِ أ ُلوف ٍتـَعلك ُ الكـَرَبا

الجواهري 1944

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف