كتَّاب إيلاف

مشاهداتي في تركيا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

تعتبر تركيا في مخزوننا الثقافي وموروثنا الإجتماعي كجزائريين وكعرب جزءا لا يتجزأ من الأسرة الإسلامية الكبيرة و عضوا مركزيا في الجسد الإسلامي الممتّد من طنجة و إلى جاكرتا، و ما زال الجزائريون يورثّون أبناءهم قصص خير الدين و بابا عروج البحّارة الأتراك الذين وفدوا إلى الشواطئ الجزائرية لحماية الساحل المغاربي من الإعتداءات الإسبانية و البرتغالية التي بلغت الذروة في فترة من فترات التاريخ، و قد تمكنّ الأتراك من حماية بلاد المغرب العربي و فرض وصايتهم السياسية عليها على إمتداد عهد الخلافة العثمانية الذي أفضى إنكسارها إلى إحتلال فرنسا للجزائر في تموز- يوليو سنة 1830... وعلى الرغم من أنّ الإستعمار الفرنسي بذل كل ما في وسعه لإعادة إنتاج الهوية الجزائرية وفق مقاييسه الحضارية و إعادة صياغة المدن وحركة البناء، إلاّ أنّ الآثار العربية و الإسلامية والتركية بقيت ماثلة للعيان مدللّة على عمق التزاوج بين الجزائر وعروبتها و إسلامها، وما زال الجزائريون وعندما يصفون أحياءهم ومدنهم بل وشوارعهم وأزقتهم يقولون هذا حيّ شيدّه الأتراك في إشارة إلى منطقة القصبة الشهيرة في قلب العاصمة الجزائرية، و هذا مسجد أقامه الأتراك في إشارة إلى جامع كتشاوة في الجزائر العاصمة و ما إلى ذلك.
وفي مناهج التاريخ التي درسناها في معاهد الجزائر فإنّ لتركيا حضور كبير في هذه المناهج كونها أصبحت جزءا من التاريخ الجزائري بل العربي بل الإسلامي... وهذه العلاقة الثقافية والروحية كانت دائما تدفعني لزيارة تركيا لمعاينة راهنها السياسي كما الثقافي كما الإجتماعي عن كثب...
ولأنّي مسكون بالترحال دوما من وطن إلى وطن، ومن مدينة إلى أخرى فقد قررت أن أزور تركيا من فرنسا وعبر القطار السريع الذي أقلع بنا من مطار الشمال في فرنسا و أخذ يشقّ جبال سويسرا و إيطاليا و هضاب يوغوسلافيا السابقة ووصولا إلى تركيا المضطربة بين الأصالة و المعاصرة، و بين الشرق و الغرب، وبدا لي واضحا وضوح الشمس من خلال حركة الشارع و العمران ونقاشات الصحافة و المنتديات الثقافية ولغة الخطاب السياسي أنّ تركيا لم تحسم بعد أمر هويتها بل و إنتمائها الحضاري.. فمصطفى كمال أتاتورك أو أبو الأتراك حاضر بتماثيله و صوره في كل ساحة و في كل زقاق وفي كل فرع و هو يشارك الأتراك تفاصيل حياتهم...

تركيا التي زرتها كانت منشطرة على نفسها إلى قسمين، نخب مثقفة عَلمانية و سياسية ترى أنّ العلمانية هي الحل الجذري لكل مشكلات تركيا و تكريسها في الواقع التركي يقتضي إقحام تركيا في المعادلة الأوروبية و تنفيذ شروط الإتحّاد الأوروبي، و شارع تركي ضارب وعميق يطالب بإبقاء تركيا في دائرتها الإسلامية وعدم حرفها عن مسارها التاريخي و عدم إخراجها من جسدها إلى جسد جديد.
و لم تنجح الكمالية التي أصبحت شعارا ونهجا ومسلكية للمؤسسة العسكرية من خلق أجيال علمانية بالكامل، فكما تصدعّت اللينينية والماركسية في الإتحاد السوفياتي السابق فقد تصدعّت الكمالية في تركيا و لولا قوة المؤسسة العسكرية و سيطرتها على تفاصيل الحياة السياسية في تركيا لماتت الكمالية بشكل مطلق وكامل...
والمفارقة العجيبة أنّ هذه الثنائية التي تميّز المشهد السياسي التركي حاضرة في العمران التركي الموزّع هو الآخر على نمطين، نمط عمراني يذكرك بعهد تركيا الإسلامي، حيث ما زالت الآستانة أو دار السلام في إسطمنبول تحتفظ بكبريات المساجد التي شيدّت بإتقان هندسي إسلامي بالغ، و مازالت هذه المساجد تحول بين تركيا وبين غرقها بالكامل في المعادلة الغربية، وفي مقابل هذا النمط العمراني الإسلامي هناك أنماط بنائية على الطريقة الغربية الخالصة وتحديدا في العاصمة أنقرة و في محيطها، هذه العاصمة التي أرادات الكمالية السياسية أن تجعل منها مدينة تغريبية بموازين الثقافة الغربية التي سعى مصطفى كمال أتاتورك لتكريسها في الواقع التركي..
و الواقع أنّ الكمالية التي كانت ولا زالت تعتبر مشروعا سياسيا وثقافيا مضادا لكل ما هو إسلامي في تركيا قد أخفقت في كل شيئ ، فهي لم تتمكن من تحقيق الإزدهار والتقدم الإقتصادي في تركيا، بل إنّ بعض الحركية الإقتصادية في راهن تركيا تعزى إلى شباب المشروع الإسلامي الأربكاني في تركيا، فجيل حزب العدالة والتنمية التركي الممسك بالسلطة التنفيذية في تركيا هو الذي حقق لتركيا بعض الإنجازات الإقتصادية و هو جيل لم يترب على الثقافة الكمالية بقدر ما تربى على الثقافة القرآنية و وزوجات كبار مسؤولي هذا الحزب وهم مسؤولون رسميون في الحكومة التركية ترتدين الحجاب الذي حظره مصطفى كمال قبل أزيد من عشر عقود، وحدها اللغة التركية تأثرّت بالتغيير الكمالي، و أصبحت تكتب على الطريقة اللاتينية.
من جهة أخرى فإنّ الكمالية التي تفرض بقوة العسكريتاريا والتي تزاوجت مع العسكريتاريا التركية هي حبيسة مدينة أنقرة و بعض المدن، و كلما توغلّ المرء في القرى والأرياف يكتشف مدى إلتصاق القرويين و الريفيين الأتراك بإسلامهم و هم يعرفون الرموز الإسلامية أكثر مما يعرفون مصطفى كمال أتاتورك... ونقاش الثنائية الثقافية يسيطر بوضوح على مدارج الجامعات و في المنتديات العامة و الطبقة السياسية التي وكما يبدو لم تصل إلى مستوى الإجماع بشأن الهوية و الإنتماء، وما زالت هناك أصوات كردية تطالب الحكومة المركزية بإعطاء الحقوق الثقافية أقلا لأكراد تركيا الذين قرروا في وقت سابق حمل السلاح مع عبد اللّه أوجلان لتحقيق هذا المطلب....
و بدورهم الرسميون الأتراك لم يحسموا أمورهم في موضوع علاقات دولتهم الإستراتيجية فهم يطالبون بإستمرار أوروبا بأن تقبلهم ضمن الأسرة الأوروبية و في نفس الوقت يطالبون العرب بقبول تركيا كعضو فاعل في المنظومة العربية، و أشد ما نخشاه قال أحد السياسيين الأتراك أن لا نصبح أوروبيين و أن لا نصبح مسلمين فنضيع بين هذا وذاك، وحسب هذا السياسي التركي فإنّ أوروبا تطالبنا بأن نتعرى كليّة ونتطهر بالماء الأوروبي ثمّ نرتدي زيّا يخيطه لنا الأوروبيون، و العرب يطالبوننا أن نتبنى قضاياهم ونتخلى عن علاقاتنا الوطيدة بأمريكا و إسرائيل، لكن أين المصلحة التركية في هذا وذاك يقول هذا السياسي الأوروبي..
فالعسكر الممسك بتفاصيل اللعبة السياسية في تركيا أصبح براغماتيا إلى حدّ ما فهم أتاحوا للإسلاميين المعتدلين بالوصول إلى السلطة لتحسين علاقات تركيا بالعالم العربي والإستفادة إلى النخاع من هذه العلاقات، وفي نفس الوقت يحافظون على علاقات إستراتيجية بين تركيا والغرب، بل بين تركيا و المؤسسة العسكرية الجماعية في الغرب - الناتو -، فتركيا التي لم
تقبل بعد سياسيا في النادي الأوروبي هي عضو في حلف الناتو، وتقدم تسهيلات كبيرة للسياسة العسكرية الغربية و الأمريكية على وجه التحديد في المنطقة.. ورغم هذه العضوية في حلف الناتو فإنّ الرسميين الأتراك بما في ذلك المؤسسة العسكرية قلقون إلى أبعد الحدود من التطورات الحاصلة في العراق، ومصدر قلقهم الأبرز هو تنامي الدور الكردي في المعادلة السياسية العراقية الراهنة والمحاولات الحثيثة لضمّ كركوك إلى المناطق الكردية و التطهير العرقي الحاصل فيها ونوايا الأكراد بالإنفصال في العراق، ويرى سياسيون أتراك أن حدوث ذلك يشكل خطرا كبيرا و مركزيا على الأمن القومي التركي المبتلى بالنزعة الكردية، كما أنّ حدوث ذلك سجبر تركيا على التدخل في الشأن العراقي وبدون أخذ الضوء الأخضر من أحد وهو الأمر الذي قد يزعج حلفاء تركيا من غربيين و عرب على حدّ سواء...

هذه المخاوف وغيرها تصادفها في الشارع التركي المثقل بالأعباء الإقتصادية ومغامرة البحث عن لقمة العيش في ظلّ إرتفاع مذهل لنسبة البطالة، وبعض الأتراك يتصورون أنّ دخول تركيا إلى النادي الأوروبي سيجلب الخيرات لتركيا، فيما يرى آخرون أنّ تركيا لن تستفيد كثيرا من دخولها إلى النادي الأوروبي، بل على العكس أوروبا هي التي ستستفيد وسوف تكسب سوقا جديدة واعدة...
غادرت تركيا وأنا قلق على راهنها كما مستقبلها في محيط جيوسياسي حرج وفي لحظات سياسية حرجة و في خضمّ أسئلة حرجة أيضا!!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف