كتَّاب إيلاف

الموسيقى العراقية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في ذكرى وفاة الشاعر الكبير والأديب الشهير السيد إبراهيم عوبديا، رحمه الله تعالى

من مقدمة لكتاب إبراهيم عوبديا، مع الغناء العراقي، مطربون ومطربات وأغان من التراث العراقي، أورشليم- القدس، رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، 2005.
بقلم البروفيسور شموئيل موريه، رئيس رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق في إسرائيل.

في الفاتح من شهر كانون الثاني (يناير) 2007 رحل عنا الشاعر الكبير إبراهيم عوبديا في مستشفى الكرمل في حيفا عن عمر يناهز الثانية والثمانين بعد أن نشر 15 كتابا منها 11 ديوانا شعريا جميعها نظمت باللغة العربية الفصحى، وديوان واحد باللهجة العراقية العامية الإسلامية وهو "أغنيات عراقية، من الغناء الشعبي الحديث في ضفاف الرافدين" (شفا عمرو، مطبعة الشرق، 1995)، من تأليفه ومن غناء المطربين صالح الشبلي وعزيز جلال وعبد داوود، ويعقوب العلالي وفلفل كرجي وفايزة رشدي وشادية الكرمل ودلل سالم وصبري خلف وصبري عاشور ويوسف دهان والسيدة نجاة ويوسف بغدادي وتلحين صالح الكويتي ويوسف يعقوب وابراهيم سلمان وصالح شبلي وابراهيم داوود والبير إلياس وبرهوم ونعيم رجوان ولطيف حلو وشفيق جباي وفلفل كرجي وساسون عبدو وابراهيم البصون وسليم النور وسيد روحي ممن هاجر من العراق وعمل في دار الاذاعة الاسرائيلية منذ الهجرة الى اسرائيل عام 1951. ولأهمية كتابه "مع الغناء العراقي" كتب ا. د. شموئيل (سامي) موريه هذه المقدمة لكتابه هذا ننشرها للقراء تخليدا لذكراه العطرة:

الموسيقى العراقية

عندما بلغ العرب أوج الحضارة الانسانية في القرون الوسطى اخذوا يترجمون علوم الشعوب المتحضر كاليونان والفرس والسريان والهند للوقوف عليها ومحاكاتها لإغناء حضارتهم واهتموا بصورة خاصة بالعلوم اليونانية كالمنطق والحساب والفلسفة والموسيقى وترجموا كل ما عثروا عليه من كتابات أرسطو الذي لقبوه بالمعلم الأول عملا بالحديث النبوي القائل: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجدها أخذها فهو أحقّ بها". وقد لخّص الفلاسفة العرب ومن بينهم "اخوان الصفا" هذه العلوم وتحدثوا عنها في رسائلهم بما فيها "الموسيقى" في الرسالة الخامسة من القسم الرياضي، وعرفوها بأنها "الغناء" وقالوا بأنه " فضيلة يتعذّر على المنطق اظهارها ولم يقدر على اخراج العبارة، فاخرجتها النفس لحنا موزونا"، فالغناء والموسيقى هما حاجة نفسية "للشعور بالفرح والسرور في الاعراس والولائم والدعوات وعند الحزن والغم وفي بيوت العبادات وفي الاعياد"، وقالوا بأن "الهيولي [كلمة يونانية بمعنى: المادة الأولى] في الصناعة الموسيقية كلها جواهر روحانية وهي نفوس المستمعين وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضا"، ثم اضافوا بأن اصحاب النواميس "استعملوا الموسيقى "في الهياكل وبيوت العبادات وعند القراءة في الصلوات وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء كما كان يفعل داود النبي عليه السلام عند قراءة المزامير وكما يفعل النصارى في كنائسهم والمسلمون في مساجدهم من طيب النغم ولحن القراءة فان كل ذلك لرقة القلوب ولخشوعها والانقياد لأوامر اللّه تعالى... فمن الألحان ما يعزي النفوس ويخفف ألم المصائب ويسلي عن الاشتياق ويسكن الحزن..." (ص 132-136)
وقد احسن مؤسس ومدير القسم العربي في دار الاذاعة الاسرائيلية الاستاذ شاؤل بار- حاييم عند تكريسه برنامجا أسبوعيا بعنوان "من الغناء العراقي" قدمه الاستاذ شفيق كباي والمرحوم نعيم توينه، غنى فيه المغنون والموسقييون العراقيون منذ هجرة أو تهجير العراقيين عام 1951 والى اليوم، وكان العراقيون يستمعون اليها بشغف بالغ لشفاء الحنين والغليل، وكان والداي رحمهما الله مثل باقي القادمين الجدد لا يفوّتون على انفسهم اية فرصة للاستماع اليها، ويرددون مع سليمة مراد: أنا الأقولن آه واتذكر أيامي". ولا يزال العراقيون اليهود يحبون رواية النكتة التالية التي تكشف عن مدي حينينهم الى العودة الى العراق في السنوات الأولى من قدومهم: "قال قادم جديد من العراق في احدى المقاهي العراقية قرب تل- أبيب لأحد أصحابه: "أبو حسقيل، سمعت أش قال راديو عمان، يقلك يسرائيل ما غاح أطّوّل أكثغ من سنتين- تلاثي"، فأجاب أبو حسقيل: "أبدالك أبو صيون، أش غاح يقضيها" (أسمعت ما قال راديو عمان؟ يقول بأن إسرائيل سوف لا تستطيع الصمود أكثر من سـنتين - ثلاثة، فأجابه أبو حسقيل قائلا: جعلت فداك يا أبا صيون، كيف سنستطيع الصبرعلى هذا الوضع كل هذه المدة الطويلة". ولكن الغناء العراقي من صوت أسرائيل خفف من الحنين وجعل هؤلاء المهاجرين اليوم من أخلص المواطنين في الدولة.
كان معظم قراء المقام في العراق من المسلمين وعلى رأسهم القبانـﭽـي والكندرﭼـي، وكان الأخير من بين المغنيين المحبوبين عند يهود العراق. وقد روى لي صديقي الدكتور حسقيل قوجمان مؤلف كتاب "الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق"، اثناء زيارتي له في بيته في لندن مع الصديق الراحل البروفيسور دافيد صيمح، بان الجوق العراقي الذي شارك في مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932 كان مؤلفاً من الموسيقيين اليهود برآسة يوسف ﭙَـتَوْ عازف السنطور وقارئ المقام العراقي المغني المسلم القبانـﭽـي. وبعد فوز الجوق العراقي بالجائزة الاولى اجرى مراسل الاهرام مقابلة فنية مع الموسيقار ﭙَـتَو وسأله المراسل : "الاستاذ بتّاو، إزّاي حال الفن في العراق؟" لم يكن الاستاذ ﭙَـتَو بحسن العربية الفصحى او لهجة المسلمين في بغداد. فأجابه باللهجة اليهودية العربية قائلاً: اش فن مال القبوغ (القبور) بالعراق. ليش اكو فن؟ نحنا عبارة يعزمونا اندق بالعغاصه (بالاعراس)، وتّالي لما يقدمون مزّة ويشغبون (يشربون) عغق (العرق) والشغب يطلع على غاسم (راسهم)، أتـقوم تلعب السككين (السكاكين) والخنيجغ (والخناجر)، ونحنا ناخذ دغبنا (دربنا) ونختل (ونختبئ) بالادبات (بالمراحيض)، والله وكيلك، هذا أول الفن وهذا تلينو بالعراق". لم يفهم مراسل الاهرام كلمة مما قال الموسيقار الشهير، فلما سأله عن معنى قوله . اجابه ﭙَـتَو قائلا: "مقدحكي وياك بالعربي! انتا متفتهم عربي؟" (انا اتكلم معك باللغة العربية، الا تفهم العربية؟) . هكذا كان يفهم العراقيون الفن وهكذا كانوا يتعاملون معه آنذاك، بعد أن كانت مكانة الموسقى والغناء من أسمى الفنون كما قال إخوان الصفا وأكدها ابن سينا.
اما عن مكانة الفنان او الموسيقار والمغني في العراق وغيرها من البلدان العربية، فقد كانت تعادل مكانة "القوّاد" كما نفهم من الفكاهة العراقية التالية: "سأل القاضي عن مهنة احد المتهمين، فأجابه بانه مغني، فقال القاضي لكاتب المحكمة: سجله "ﮔوّاد"، فاحتج المغني قائلاً: حضرة الحاكم آني من عائلة شريفة، واحنا اباً عن جد من المغنيين، فتوجه القاضي الى كاتب المحكمة قائلاً: "لعاد سجله ﮔوّاد ابن ﮔوّاد". وهكذا تدهورت مكانة الفنانين من مكانة الكاهن في المعابد والهياكل والمساجد الى مكانة هي في حضيض المجتمع العربي.
كثيرون هم المعجبون باغاني التراث الغنائي العراقي وكثيرون هم عشاق الغناء العراقي، بأغانيه الفولكلورية من ﭙـسته وأبوذية ومقام غنائي وموال بغدادي. وكان العراقيون وما زالوا يعتزون بالغناء التراثي الذي ألف شعره شعراء مجهولون ولحّن اغانيه مجهولون وغنّاه لاول مرة مجهولون!!
ربما كان من غناه هو الشاعر وهو الملحن وهو المغنى معاً ويؤكد لنا هذا ما قيل عن قارئي المقام الكبير الراحل الاستاذ محمد القبانـﭽـي فقد كان يؤلف الاغنية بشتَّى صورها ويلحنها بإبداع ويغنيها وأحياناً كان يبتكر المقام أيّ يكتشفه في السلالم الموسيقية والتي لم يسبقه إليه سابق، كمقام اللامي ومقام الحويزاوي- وعلى سبيل المثال نذكر له هذه الابوذية التي نظمها وهو موجود في المانيا اثناء تسجيله بعض اسطواناته في سنة 1926، وقد لحنّها من مقام اللامي. وهناك وَصلَهُ نعي والده المرحوم عبد الرزاق القبانـﭽـي:

علام الـدهر شـتـتـنا وطرنـا عـﮕـب ذاك الطرب بالهم وطرنا
الف يـا حيف ما ﮔـضيـنا وطرنا ليالي اللي مضت متعود ليه

ولست انسى ابيات الشعر التي غناها في المقام الحويزاوي الذي وضعه لقصيدة "يا راهب الدير"، (وقد وجدت هذه القصيدة مخطوطة بخط والدتي المرحومة بين مذكراتها الكثيرة التي كتبتها باللغات العربية والعبرية والفرنسية والانكليزية والفارسية وهي من القصائد التي اعجبتها وسجلتها) والابيات التي غناها من هذه القصيدة كانت كالآتي:

يـا راهب الـدير

لما أناخوا قبـيـل الصبح عيسهمو وحمَّلوها وسارت بالهوى الإبل
وارسلت من خلال السجف ناظرها ترنو الـيّ ودمع العين ينهمل
وودعـت بـبـنان عضده عـلم ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
يـا حادي العيس عرّج كي أودعهم يا حادي العيس في ترحالك الاجل
اني على العهد لم انـكث مودَّتهم يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
لما علمت بـأن القوم قـد رحلوا وراهب الديـر بالناقوس منشـغل
شبكت عشري على راسي وقلت له يا راهب الدير، هل مرَّت بك الابل
فحنّ لـي وشكى، وأنّ لي وبكى وقال لي يا فتى ضاقـت بـك الحيل
إن البدور اللواتي جئت تطلبها بالامس كانوا هـنا واليوم قد رحلوا
صحت محروم مهموم مهضوم خـايـب يــا ﮔـلبـي
وينهيها بـ: آه وآه ....، الخ
ما من عجب، لو اعتز المواطنون العراقيون في العراق بالغناء العراقي، فالحنين الى الوطن يصاحب المواطنين العراقيين الذين هاجروا من العراق او هُجِروا منها او هربوا بجلودهم خلال عشرات السنين، وربما يبلغ عددهم اليوم اربعة ملايين، عاشوا في المهاجر والمنافي مكرهين، كلاجئين، وتشردوا في جميع اقطار المعمورة، والعراق يحملونه في قلوبهم وفكرهم ويحملون ذكريات العراق الوطن وهمومه، ذكريات وطنهم الغالي في نفوسهم الأبية الجريحة بمدنه وقراه، بشوارعه ومقاهيه، بتقاليده وعاداته، والغناء العراقي ما زال يعود بهم الى خوالي الأيام. وكلما راودهم الحنين اليه هرعوا الى الاستماع والاستمتاع باغنية من اغاني التراث، ولكل عائلة من عوائل المغتربين، إضمامة كبيرة من الكاسيتات للاغاني المنقولة عن الاذاعات او من كاسيتات الفيديو المنقول بعضها عن الفضائيات. وقد طلب مني الكثير من الأخوة العراقيين ارسال مثل هذه التسجيلات اليهم في مهاجرهم. وهكذا يعلو صوت الشعب العراقي باغانيه التي تحمل الحسرة واللوعة ونار الشوق، لا في العراق وحده بل في لندن وباريس وكندا ونيويورك وكل اليهود العراقيين في مدن اسرائيل وغيرها من اقطار المعمورة. وكثيرا ما يحلو للعراقيين الاستماع الى اغنية حضيري ابو عزيز موجهين عتابهم لحكامه الذين شردوه وهو يردد "هلي يا ظلام هلي":
هلي أٌويْ هليخلهم يولون هلي
هلي اُويْ هليما ريد أنا هـلي
الـ ما جابوا ولفي إليخايبين يا ظلام
تـرى الفرﮔـة ﭼوتﮔـلـبي ﭼوي
وفي الأفراح والأعراس يترنمون مع ناظم الغزالي وهو يغني:
طالعة من بيت ابوها رايحة البيت الجيران
والعجيب أن يهود العراق ما زالوا يرددون اغنية صديقة الملاية :
يا صياد السمـج صيد لي بُنيّة \ عجب انت حضيري وانا بدوية
أو نسمعهم يرددون أغنية سليمة مراد: "نوبة مخمرة ونوبة مغشايةhellip;" وهم لم يشاهدوا في اسرائيل لا صياد سمك ولا يوجد قربهم بدوي، والخمار اصبح اليوم في عداد خبر كان. ولكنها الأغاني تنقلك الى اجواء الطفولة والشباب السحرية وتجعلك تعيش ذكرياتها الحلوة مرة اخرى. ولا ادري لماذا كان والدي يحب ترديد اغنية عراقية قديمة تحتج فيها الفتاة على تزويجها من شيخ هرم، وهو الرجل الشاب الوسيم المتزوج: "أوف يمّا حيل دﮔيني \ شايب ما اريده ابصبي زوجيني" ، وبالأبوذية: "لاصعد الجبل حمرين، للﮕا (لألقى) \ وادوّر على الولف سنتين ، ومالﮕاه (ولا ألقى) \ لو خضّر العود بالملح ورﮔا (ورقه) \ ذاك اليوم يحن الولف عليّا"، وهو في بغداد و"ولفه" بجانبه تحن عليه وترعاه. أما جدتي لوالدي فقد روت لي بأنهاكانت قد بكت مع من بكى في وداع مدحت باشا الوالي العثماني الذي أحبه المواطنون لعدالته، وقد كانت تحب انشاد الابيات التالية من العصر العثماني: "أحنا الملالي والكبب قاتلينا \ قدّموا صحن الحلاوة \ واسمعوا طقّ النوا". وأنا اسجلها اليوم للتاريخ وإن كنت لا اعلم من هم هؤلاء الملالي، ولماذا يطلبون صحن الحلاوة ولماذا يفتخرون بطقّ النوا؟ ولكنه سحر الأغاني القديمة وما تثيره في النفس من ذكريات.

ان الاغاني العراقية بمجموعاتها وبمواضيعها تعبر عن احاسيس واماني الشعب العراقي، وعن حبه أو سخطه وغيرته على الوطن وغضبه على الحكومة او نقده لبعض التقاليد والعادات، وفيها صور من الحياة الاجتـماعية العراقـية، وعن لواعج الحب التي اججتـها الحواجز التي تـفرق بـين الجـنسين في المجتـمع العراقي التقليدي. انها بكلماتها تعبر عن كل همومه العاطفية والسياسية والاجتماعية سواء بالكلمة المنظومة على أوزان الشعر العربي الفصيح كما نسمعه في بعض المقامات الغنائية او كانت منظومة شعراً عاميّاً باللهجة العراقية الشعبية كما نرى في المواويل المؤلفة كل واحد منها من سبعة اشطر، وموزونة على بحر البسيط، وكذلك ما تراه في بقية الوان الاغنية العراقية كالابوذية والنايل والعتابة والدبكة. وهكذا نجد ان الاغنية العراقية تتناول شتى شؤون حياة الانسان العراقي واهوائه. ففي الغناء الريفي شعر في الغزل والنسيب والغبن والحرمان والرثاء والدموع والحنين. وفي شعر المدينة نجد اضافة الى فنونه في الريف النقد المكشوف الجريء او الرمزي للحكومة او لوزرائها بل ونجد نقدا موجها حتى الى العرش. وعلى سبيل المثال نذكر ما قاله محمد القبانـجـي في السخط على الملك:
دار الملوك اظلمت عـﮔـب الـضيـا بسـروج
من قـلـَّة الخيـل شدوا على الـجـلاب سروج
وفي نقده اللاذع لرجال الحكومة العراقية غنَّى:
وكم عند الحكومة من رجال تراهم سادةً وهم العبيدُ
عـبـيد للاجانب هم، ولكن على ابناء جلدتهم أسودُ
وهو صدى لقول الشاعرة غزالة الخارجية تشكو زوجها للحجاج: "أسد عليّ وفي الحروب نعامة". ولكنه كان يغني البيت الثاني في الحفلات الخاصة بعيدا عن اسماع المخبرين:
كلاب للاجانب هم، ولكن على ابناء جلدتهم اسودُ
وقد صدر المنع من الرقابة بالاستماع الى بعض اغانيه واعتقل الاستاذ القبانـجـي عدة مرات كانت بدايتها حين غنَّى ينقد تحرير المرأة والحضارة الحديثة:
لبنية بنت البيت ﮔـصت شعرها على موده تمشي دلوع عافت سترها
ومثل هذا المنع جري مع المطرب الريفي حضيري ابو عزيز، فقد منعت له عدة اغان من التسويق او من اذاعتها في الراديو لتعرضها للحكومة ولموظفيها ولتفشي الرشوة في دوائرها، مثل:
1 . يا بو الـبـشت بيش ابلشت.
2. عمي يا بو التموين مشِّ العريضة.
3. شيريد مني المختار.
اما المونولوجست والناقد الأجتماعي والسياسي الشهير عزيز علي الذي كان اذا غنى مونلومجا جديدا باتت بغداد ساهرة تسمعه، ثم تسمع في صباح اليوم التالي الكثير ممن حفظها وهو يرددها في سيره في طريقه الى العمل لأنها "على جرح الـﮔلب" وتكاد تلحق بقول المتنبي: "اذا قلت شعرا اصبح الدهر منشدا"، وما أكثر المونولوجات التي ألّـفها في النقد الاجتماعي، كمونولوج "القبول": مالي راحه ببيتي بلوى بلتني مراتي، ومونولوجه، "دكتور":
يا ناس مصيبه امصيبتنا نحـجـي تـفضحـنا مصيـبـتـنا
نسكت تـﮔـتلنا علّتنابس وين انولي وجهتنا
ومونولوجه :
شوباش شوباش - كلفتنا المدنيه بلاش الخ
وليس مثيرا للعجب عندي أنه بعد مرور اكثر من خمسة وخمسين عاماً على هجرة اليهود من مواطني العراق سابقاً، والاغنية العراقية لا تزال حيَّة في نفوسهم. فيهود الأندلس الذين طردوا منها مع إخوانهم المسلمين عام 1498 من إسبانيا، ما زالوا يغنون أغانيهم بلغة اللادينو الاسبانية التي تكلموا وغنوا بها في عصور الاندلس الزاهرة ايام فاح الطيب من زهور غصنها الرطيب، وأشادوا حضارة هي أساس الحضارة الغربية الحديثة.
لذلك لا أرى عجباً ان نسمع اليوم مغنيّن من اصل عراقي ولدوا في اسرائيل وخارج العراق وهم الجيل الثاني والثالث من المهاجرين اليها والذين لم تتكحل عيونهم برؤية العراق، وان نجدهم يحترفون الغناء العراقي بلهجاته البغدادية والريفية والبدوية، بل نجد بينهم عازف الربابة ايضا. هذا وما زلنا نجد من بين المواطنين اليهود ممن هُجّروا عن العراق من يكتب الاغنية العراقية ومن يلحنها حسب انغام المقامات العراقية المألوفة التي ما زالت تغنى من راديو صوت إسرائيل ومن محطات التلفزيون فيها وفي الحفلات الغنائية التي يحييها العراقيون في قاعات الاعراس وفي الحفلات وفي مركز تراث يهود العراق في أور- يهودا ويغني فيها المغنون، آنذاك نجد القاعة تغصّ بروادها ممن ولدوا في العراق كباراً كانوا ام صغاراً وبرفقتهم احياناً اولادهم. وقد قام بعض المغنين والملحنين اليهود المتدينين باقتباس الألحان العربية ومن بينها الألحان العراقية في أغانيهم الدينية باللغة العبرية في الكنس والاحتفالات الدينية ومن محطات الراديو والتلفزيونات المحلية. ونجد المغني في هذه الأغاني والتسابيح الدينية يردد كلمة "يا إيلي" باللغة العبرية، أي "يا إلهي"، بدلا من "يا ليلي" العربية. اما الحفلات التي يقيمها هؤلاء في بيوتهم فإن الحاضرين المحتفين يحبون الإستماع الى اغان من الفولكلور العراقي بالإضافة الى أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش، فيطرب الحاضرون ويعلو التصفيق. فإذا كان هذا ما يحدث بين افراد الجالية اليهودية من مواطني العراق سابقاً في اسرائيل، فما يحدث للمهاجرين العراقيين في اوروبا او دول امريكا وفي غيرهما، فحدث ولا حرج. واليوم نشاهد في إسرائيل، بعد أن صارت تؤمن بالتعددية الثقافية وعدم جدوى صهر الشعب اليهودي في بودقة ثقافة شرق أوربية، مدارس لتعليم العزف والغناء العربي وتطعيم الغناء العبري به، وتقيم المتاحف والمؤسسات الثقافية المختلفة المعارض لآلات العزف الشرقية والدورات التعليمة المختلفة يدرس فيها ليس أبناء المهاجرين من البلدان العربية فقط بل ومن مواليد البلاد من أصل أوربي أيضا، ويقف على رأس هؤلاء المطربون والمطربات والموسقيون من أصل عراقي من أمثال أبيعيزر - أبو العز ويئير دلال العازف الشهير على العود بمرافقة مغنين من عرب إسرائيل.
حدثني عام 2002 الصديق عزرا دينس (دنوس) وهو من أصل يهودي عراقي نزيل لوس أنجلس اثناء زيارتي له مع الصديق فكتور عوزير المولع بالغناء العراقي، انه اشترك في حرب الأيام الستة في صحراء سيناء وكان يحمل معه الكثير من علب الكوكاكولا وعصير البرتقال والمعلبات التي كان المحاربون في أشد الحاجة اليها، وبلغ في سيره موقعا فيه بعض الأسرى المصريين، فقدم لهم بعض العلب، ولكن بعض الجنود من أصل عراقي اعترض قائلا: "لماذا تعطي علبنا لهؤلاء الذين قتلونا واغتصبونا في الفرهود (مذبحة يهود بغداد عام 1941)؟ فأجابهم دينس قائلا: "هؤلاء مصريون وعندهم أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش، ولا شأن لهم بالفرهود!"، وعند ذلك وافق باقي الجماعة على توزيع العلب على الأسرى المصريين أيضا. وما ان أكلوا وشربوا حتى أخذ الجنود اليهود بالغناء مع الأسرى المصريين الأغاني المصرية المحببة لديهم. ثم حاول بعض العراقيين الغناء مع المصريين الأغنية العراقية التي غنتها أم كلثوم أثناء زيارتها للعراق وهي "قلبك صخر جلمود ما حن عليّا". ولما غنى أحد الأسرى المصريين في ذلك الموقع قصيدة أحمد شوقي الخالدة التي غناها المطرب عبد الوهاب في حضرة الملك فيصل الأول في بلاطه:
"يا شراعا وراء دجلة يسري \ بدموعي تجنبتك العوادي"،
جرت دموع الجنود اليهود من أصل عراقي مع دموع الجنود المصريين، وتناسوا الحرب وويلاتها". وهذا خير مثال على تأثير الغناء على الإنسان، فهو يؤاخي بين الجنود المتحاربين ويجعل من الأعداء أصدقاء.
رحم الله الصديق الوفي الأستاذ الشاعر إبراهيم عوبديا، لقد كان محبا للعراق وأهل العراق وأغاني العراق ولهجتيها الإسلامية والبدوية وخلدهما في كتبه ودواوينه وتاريخ حياة المغنين والمطربين العراقيين للأجيال القادمة. وكنت آمل أن يتفرغ إلى تدوين ونشر الأغاني التي نظمها وغناها يهود العراق بعد هجرتهم إلى إسرائيل احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيّئة آنذاك وعلى تهجيرهم بمثل هذه السرعة قبل أن تتهيّأ إسرائيل لاستقبالهم بصورة لائقة.
توفي المرحوم وفي نفسه شوق إلى زيارة العراق ومرتع طفولته في البصرة ومقيل شبابه في بغداد ولكن "تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن". فوداعا يا شاعر العراق أيام زمان، حين كان الزمان زمان والناس ناس!
يـا حادي العيس عرّج كي أودعهم يا حادي العيس في ترحالك الأجل!!!


أورشليم- القدس، كانون الثاني 2007
أ. د. شموئيل موريه
رئيس رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف