الشيخان وحوار الطرشان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
-1-
لا أدرى لماذا يحشر رجال الدين انفسهم بين آن وآخر في مشاكل سياسية واقتصادية معقدة، كالصراع القائم الآن بين سُنَّة عرب العراق وشيعته.
لقد اعتقد معظم الناس، بأن الصراع الدموي الدائر في العراق الآن بين السُنَّة والشيعة هو صراع مذهبي، وليس صراعاً سياسياً واقتصادياً، تغذيه الدول المحيطة بالعراق. فبداية الصراع منذ معركة صفين، قبل 14 قرناً ، لم يكن صراعاً مذهبياً بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب. لم يكن صراعاً على كيفية تفسير القرآن الكريم، أو كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية. كان الصراع وبدأ منذ ذلك الوقت، صراعاً سياسياً بين الدولة والمسجد، بين الحكم الديني والحكم المدني. بين خلفاء يريدون الاستمرار بالحكم الراشدي، وبين خلفاء يقولون لا خبر جاء ولا وحي نزل، ويُطْبِقون القرآن الكريم بين أيديهم، ويقولون للقرآن: "هذا آخر عهدنا بك "، كما قال عبد الملك بن مروان عندما جاءه خبر الخلافة. وكان الصراع بين آئمة يتقون الله وبين خلفاء يقولون على منبر صلاة الجمعة: "والله لو قيل لي أحدكم اتق الله، لضربت عنقه" كما قال عبد الملك بن مروان.
-2-
والصراع الدائر اليوم بين السُنَّة والشيعة هو الصراع نفسه الذي دار بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان مع اختلاف الزمان والمكان ولب المشكلة. هو صراع سياسي بين فئة من العرب الشيعة تريد تطبيق نظام الملالي في إيران ليس بكله ولكن بجزئه؛ بمعنى أن يظل الجنوب العراقي تابعاَ سياسياً لإيران ومرهوناً بسياسيتها كتابعية اسرائيل لأمريكا مثلاً . وأن يكون الجنوب العراقي حليفاً استراتيجياً وسياسياً لإيران كما هو حزب الله لسوريا وإيران مثلاً. في حين أن السُنَّة العرب يخشون من هذا التحالف، ويرفضونه لا خوفاً من إيران ولكن خوفاً على أنفسهم وحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية كذلك.
فالخلاف بين عرب السُنَّة وعرب الشيعة في العراق ليس الخلاف بين مذهبين دينيين. فكلا السُنَّة والشيعة يعلمان بأن زمن حكم المذاهب الدينية قد ولى. وأن الصراع اليوم هو صراع سياسي اقتصادي، وليس صراعاً مذهبياً دينياً. لقد كان الصراع المذهبي الديني هو المسيطر في القرون الأولى للميلاد، وفي القرون الأولى للهجرة كذلك. ولكن مع تغير الأمم والثقافات والمعادلات السياسية، تغيرت طبيعة الصراع. فالصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي لم يكن صراعاً سياسياً بقدر ما كان صراعاً اقتصادياً سياسياً بين الرأسمالية والاشتراكية، وليس بين كاثوليك الغرب وارثوذكس الشرق. وكان كلاهما من ديانة واحدة، كما هم السُنَّة والشيعة الآن.
-3-
ولكن يأبى الشيخ القرضاوي وجملة من الشيوخ معه، إلا أن يحوّلوا الصراع بين السُنَّة والشيعة في العراق إلى صراع ديني مذهبي، لكي يكونوا طرفاً في هذا الصراع، ولكي يبعدوا السياسيين عن هذا الصراع، وتكون كلمتهم في هذا الصراع هي العليا. ولذا سبق ووجه الشيخ القرضاوي الذي أصبح الآن "ضرورة العراق" وحل محل "ضرورة العراق" السابق صدام حسين، أن ناشد الزعماء الكُرد في كُردستان لحقن دماء المسلمين من سنة وشيعة في جنوب ووسط العراق. واليوم يحرك القرضاوي "الضرورة" آلته الإعلامية الضخمة، المتمثلة بقناة الجزيرة، لكي تقيم حواراً مباشراً وعلى الهواء بينه وبينه الملا رفسنجاني لانهاء الصراع القائم بين السُنَّة والشيعة، هكذا و(بشحطة) قلم. فيُعقد الحوار بين الاثنين، ولا نخرج بنتيجة من هذا الحوار، الذي كان أشبه بحوار الطرشان. فلا الشيخ القرضاوي يفهم ما يقوله رفسنجاني، ولا رفسنجاني يفهم ما يقوله القرضاوي. وما كان حوار الطرشان هذا إلا أن يكون كذلك، بين ثعلب السياسة الإيرانية المعمعم والمخفي بقشرة دينية رفيعة كرفسنجاني، وهو في حقيقته رجل اقتصادي ومال ومقاول ، وأكبر تجار الفستق في العالم، وأثرى شخص في إيران، ويحتل المرتبة الـ 46 في قائمة أثرياء العالم، وبين الشيخ القرضاوي أغنى شيوخ الإسلام السُنّي المعاصرين في العالم، والقاضي الشرعي لأكثر من عشرين شركة كبرى في العالم العربي.
-4-
دار حوار الطرشان بين الشيخين بخصوص الحالة العراقية. وتساءل الشيخ القرضاوي عن أسباب عدم إصدار المراجع الشيعية في إيران فتوى واضحة وصريحة تحرّم القتل الطائفي، وتوجب مقاومة الاحتلال قائلا: "لو صدرت فتوى واضحة بتحريم فرق الموت من مرجعيات إيران لانتهت المشكلة. وتساءل الشيخ القرضاوي لماذا لا تصدر فتوى توجب المقاومة بوضوح؟
لاحظوا أن القرضاوي يقرر ، بأن فتوى دينية ايرانية سحرية ، كافية لانهاء الصراع السياسي الاقتصادي بين السنة والشيعة العرب في العراق؟
منتهى الغباء والجهل بحقيقة الصراع.
طبعاً، فقد أدرك رفسنجاني بخبثه السياسي، وبمكره التجاري، الهدف من وراء هذا السؤال وهذا التحريض. وكالعادة، جاء تعليقه مغلفاً بلهجة رجل الدولة قائلاً: "أوصي الدكتور القرضاوي أن يقرأ الأخبار وتوصيات المسئولين الإيرانيين ، وعندها سيعلم أن الأمر تغير بالنسبة لإيران. فكم من مرجعيات أدانت ورفضت ما يحدث.
واستمر الحوار حول سلوكيات السُنَّة والشيعة الدينية، ولم يستطع الشيخان الامساك بالسبب الحقيقي للصراع السياسي القائم الآن في العراق بين عرب السُنَّة والشيعة ، ذلك أن الشيخ القرضاوي أثار الجدل من ناحية دينية صرفة بينما نظر اليها رفسنجاني من ناحية دينية /سياسية. ولم يفطن الشيخان إلى أن الصراع العربي السني الشيعي في العراق ، هو صراع سياسي اقتصادي واختلاف على تقاسم الثروة الوطنية والسلطة السياسية ، وليس اختلافاً على ما فعلته السيدة عائشة وغيرها من الصحابة قبل 14 قرناً ، كما يظن الشيخ القرضاوي بالذات، الذي ألبس الحوار ثوباً دينياً ومذهبياً بحتاً ، ومن هنا فشل الحوار، ولم نخرج بنتيجة واحدة، وكان الحوار استعراضاً اعلامياً أكثر منه أي شيء آخر.
-5-
لقد طالب القرضاوي باستعمال الفتاوى الدينية كعلاج سحري لهذا العنف، وليس العقل والواقعية السياسية وتقاسم السلطة والثروة. فطلب من رفسنجاي اصدار عدة فتاوى دينية سحرية لعلاج هذه المشكلة منها اصدار فتوى تحرم الاقتتال وتحلل مقاومة الاحتلال، وكأن فتوى مثل هذه يمكن أن توقف الاقتتال دون اعطاء السُنَّة الحقوق السياسية والاقتصادية لتي يطالبون بها على شكل شراكة في الثروة الوطنية والسلطة السياسية. ورغم حوار الطرشان هذا ، فقد قام كل من فهمي هويدي وسليم العوا وهما من مريدي الشيخ القرضاوي و(داعقي) سحائب البخور حول فتاويه، بالتعليق الايجابي على هذا الحوار. وقال هويدي ، أن الشيخ القرضاوي اتبع أسلوب المصارحة والمكاشفة المنطلق من العالم الغيور على أمته، الذي يسعى لمسِّ موضع الجراح. أما العوا فقد قال: " يُعدُّ هذا الحوار باكورة الخطوات البناءة التي توصل إليها وفد "اتحاد العلماء" خلال مباحثاته مع المسئولين الإيرانيين في أثناء زيارته لطهران قبل نحو أسبوعين، من أجل إطفاء نار الفتنة، ورد الجمهور السُنّي والشيعي إلى أصل الأخوة الإسلامية".
إنه كلام في الهواء، من بعض دراويش التكايا الصوفية السياسية.
السلام عليكم.