كتَّاب إيلاف

ليبتعد سعدي يوسف عن مسلمات التكفيريين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إلى الشاعر سعدي يوسف...

دعوة لإعادة قراءة المشهد العراقي موضوعياً بعيداً عن مسلمات التكفيريين

حزين انا من اجل الشاعر العراقي المبدع سعدي يوسف، احد رموزنا الشعرية الكبيرة التي نعتز بها، لأنه راح في الآونة الأخيرة ينحدر ـ وللأسف ـ الى هاوية سحيقة لا قرار لها، ربما بدأت بملاحظات عرضية وهامشية هنا وهناك، فسرناها نحن أصدقاؤه في العراق، من باب حسن النية، على إنها تمثل وجهة نظر خلافية نحترمها ولا نريد ان نحرمه منها: فحق الاختلاف من الحقوق الديمقراطية التي يعين علينا احترامها والقبول بها مستبعدين تأويلات البعض من أن وجهات النظر هذه ذات جوهر طائفي ، الإ انه، بمرور الوقت، وللأسف، مرة اخرى، راح يوغل في الإساءة لشعبه العراقي الجريح وللثقافة العراقية، وأولا وقبل كل شيء لتأريخه الشخصي والإبداعي، وربما يمثل ما نشره مؤخراً على بعض مواقع الإنترنيت بتاريخ 24 / 2 / 2007 تحت عنوان " الثقافة الوطنية بالمزاد: مائة ألف دولار فقط " ذروة هذا الهبوط المحزن، اذْ تضمنت كلمات الزميل الشاعر سعدي يوسف ( أصر على مخاطبته بلغة الاحترام التي يستحقها خلافاً لطريقة مخاطبته لي )الكثير من الأحكام الظالمة بحق شعبنا وتأريخنا ورموزنا الثقافية والسياسية يصعب الآن الرد عليها بشكل كامل، ويمكن إجمال ملاحظاتي الشخصية في محورين أساسيين:
المحور الاول: محور موضوعي خارجي عام يتعلق بتوصيفه للمرحلة التاريخية الراهنة ورموزها وأهدافها.
المحور الثاني: محور ذاتي وشخصي يتعلق بالتهم الظالمة التي كالها لي شخصياً ولزميلي الصديق الناقد ياسين النصير.
اما بالنسبة للمحور الأول فهو يكشف عن الاضطراب الكامل الذي يسود أفكار زميلنا الشاعر سعدي يوسف في قراءة المشهد العراقي، سياسياً، وثقافياً، بعد سقوط النظام الدكتاتوري الصدامي ودخول قوات الاحتلال الأمريكي الى العراق، وهو موضوع شائك وملتبس ويتطلب حواراً هادئاً ومطولاً، ربما لا تتسع له المساحة الحالية المتاحة للرد، لكن ما يؤسف له ان تلتقي الكثير الأحكام والتقييمات التي ينطلق منها زميلنا مع مواقف غلاة التكفيريين والإرهابيين، وأيتام النظام الدكتاتوري والمنتفعين من رشى الطاغية المقبور وكوبوناته النفطية من رموز الإعلام والسياسة في العالم العربي الذين كرسوا كل طاقاتهم لتلميع صورة جلاد لم يشهد له التاريخ مثيلاً.
أعترف مقدما ان المشهد العراقي معقد وملتبس وقابل لتأويلات متناقضة ومتعارضة الى حدٍ كبير، لكن القراءة الموضوعية، النزيهة، قادرة بالتأكيد على الوصول الى الحقيقة.
يدرك جميع المتابعين للشأن العراقي ان الشعب العراقي عانى الكثير تحت ظل النظام الفاشي الصدامي، وحاول هذا الشعب الشجاع ان يتخلص من هيمنة هذا الكابوس الطويل من خلال سلسلة من النشاطات الجماهيرية واشكال المقاومة المسلحة وحتى اعتماد بعض الأساليب الانقلابية الفردية، الا ان النظام الدكتاتوري نجح في ان يحصن نفسه ضد مثل هذه المحاولات الشعبية من خلال خلق سلسلة لا تنتهي من اجهزة القمع والمخابرات والأمن التي كانت تمارس قمعاً ساحقاً ضد أي تحرك جماهيري. وهنا بدأ المشروع الأمريكي لإسقاط نظام صدام حسين بالظهور العلني وهو مشروع قوبل بالرفض من قبل غالبية القوى الديمقراطية والإسلامية التي رفضت الحرب اساساً والتدخل العسكري الأمريكي أداة، الا ان ذلك لم يوقف مخططي السياسة الأمريكية الذين استثمروا حالة الإحباط لدى العراقيين، لاقناع فصائل سياسية معينة للقبول بفكرة التدخل الأمريكي لإسقاط النظام الصدامي، وحصل ما حصل عندما إجتاحت قوى الاحتلال الأجنبي التراب العراقي واسقطت النظام الدكتاتوري وهنا نشأت لحظة تاريخية إشكالية ومعقدة في قراءة الموقف السياسي الجديد وتحديد رؤية متكاملة منه فقد استقبل الشعب العراقي بغالبية قواه السياسية الوطنية ومكوناته الأثنية سقوط النظام الدكتاتورية بالفرح وعلق آمالاً عريضة على اعادة بناء العراق في ظروف ما بعد الدكتاتورية، الا ان هذا الفرح لم يدم طويلاً وتجمد على الوجوه والشفاه عندما عفرت احذية المحتلين التراب الوطني، وفي المقابل بدأت بعض القوى التي خسرت إمتيازاتها الطبقية والسياسية والمالية بالدفاع المستميت عن هياكل النظام الدكتاتوري المقبور رافعة زوراً شعار " المقاومة " المقدس الذي يمثل هنا كلمة الحق التي أريد بها باطلا، وهي - في الواقع - انما كانت تستميت في الدفاع عن نظام القمع الارهابي وإمتيازاتها الخرافية التي كانت تتمتع بها في ظل النظام المقبور، واستثمرت بعض القوى السياسية الرجعية والحركات السلفية والأصولية وفي مقدمتها منظمة " القاعدة " هذا الظرف الجديد لترتدي الرداء المفترى عليه رداء " المقاومة " لتحقيق اهداف واجندات سياسية رجعية معادية للحياة والثقافة والانسان.
ترى ما الذي ينبغي على المثقف العراقي ان يفعله، واين يضع قدميه في هذا المشهد الملتبس، هل ينخرط في صفوف المدافعين عن نظام دكتاتوري بشع تحت لافتة " المقاومة " المفترى عليها ليجد نفسه في خاتمة المطاف يقف جنباً الى جنب مع جلاديه من جلاوزة النظام الفاشي وطباليه الأيديولوجيين وحملة الأجندات السود من التكفيريين والسلفيين، أم يختار موقف المحايد المتفرج على احداث الوطن ؟ أم يبحث عن خيار صعب وشائك يتمثل في البحث عن سبيل وطني للخلاص من محنة الاحتلال خارج أطر شعارات " المقاومة " الزائفة وكان هذا الخيار الثالث هو الذي إختاره المثقف العراقي، وهو الخيار ذاته الذي إختارته بعض القوى الوطنية العراقية المعروفة والتي سبق لها وان رفضت شعار الحرب اولاً والتدخل العسكري الأمريكي ثانياً.
ما زلت اكرر القول بان المشهد السياسي معقد وشائك ويتعذر فهمه من الخارج بسهولة، اذْ ان دخول المثقف العراقي الى جانب القوى الوطنية العراقية الرافضة للحرب والاحتلال في العملية السياسية يمكن ان يدفع بالبعض الى اتهامه بقبول الاحتلال، بل والعمالة له، وهو امر ينطبق تماماً على المقايسات الشكلية السطحية النابعة من المنطق الشكلي الأرسطي، وهكذا رفع الظلاميون والتكفيريون شعار " مادام العراق تحت الاحتلال فان كل شيء داخل العراق باطل يفتقد الى الشريعة، لأن كل ما بني على باطل هو باطل".
لكن الحياة الحديثة تنطوي على تناقضات وآفاق واحتمالات غير مرئية ذلك ان عزوف المثقفين العراقيين والقوى الوطنية العراقية المعارضة اصلاً للحروب والاحتلال عن المشاركة في العملية السياسية سوف يتيح الفرصة للسياسة الأمريكية لفرض إملاءاتها السياسية وإعادة ترتيب المشهد العراقي على وفق مصالحها الخاصة، بالاستناد الى بعض القوى السياسية "الرخوة " أو الموالية، بهذه الدرجة او تلك، للسياسة الأمريكية قبل الاحتلال وبعده، فضلاً عن محاولة خلق قوى سياسية جديدة تحت لافتات ليبرالية وديمقراطية يمكن ان تخدم بصورة أو بأخرى أهداف السياسة الأمريكية في العراق والمنطقة.
ولذا كان قرار المشاركة في العملية السياسية من قبل المثقفين العراقيين والقوى المعارضة أصلاً للحرب والاحتلال قراراً صعباً ومؤلماً، لكنه كان الخيار الوطني الوحيد الذي يتطلع الى انقاذ البلد واعادة بنائه بعيداً عن سلطة الدكتاتورية وهيمنة الاحتلال الأجنبي، وهكذا بدأت القوى الوطنية العراقية ومعها غالبية المثقفين العراقيين برسم الخطوط العريضة لخطاب سياسي وطني عراقي يزاحم المشروع السياسي والعسكري ويزيحه تدريجياً عن مواقعه التي احرزها من خلال الحرب والاحتلال، وبمرور الزمن راحت رقعة القرار السياسي الوطني العراقي تتعزز وتصطدم بالاملاءات الأمريكية الغامضة الأهداف، فبدلاً من حكومة مؤقتة نصبها السفير بريمر، استطاع العراقيون من خلال صناديق الاقتراع من الاتيان بحكومة وطنية تمتلك الشرعية الدستورية، وفي خلال ذلك كسب الموقف العراقي الوطني مساحات جديدة، اذ حصل العراق من الامم المتحدة على قرار رسمي بإنهاء الاحتلال واعتبار القوات المحتلة قوات " متعددة الجنسية " تعمل بطلب من الحكومة العراقية التي يحق لها انهاء وجودها في الوقت الذي تراه مناسباً وبالذات بعد ان تستكمل القوات المسلحة العراقية جاهزيتها لاستلام الملف الأمني.
قد يقال هنا ان هذه مجرد مناورات أمريكية القصد منها المماطلة وتوريط القوى السياسية الوطنية العراقية في خدمة المشروع الامريكي، وانها في خاتمة المطاف لن تترك مواقعها للعراقيين، هل هذا محتمل ؟ نعم هذا محتمل، ولكن الأمور يجب ان لا تترك للعفوية ولما هو محتمل، فالمناورة واردة وينبغي العمل على تفويت الفرصة على السياسة الامريكية لإفشال الخط السياسي العراقي المستقل الذي يتطلع الى تحقيق السيادة الوطنية وبناء عراق ديمقراطي تعددي، لذا يمكن القول ان هنالك صراعاً عميقاً راح يتضح يوما بعد يوم، بين الخط السياسي الأمريكي والخط السياسي العراقي المدعوم بحركة شعبية واسعة، قد يقال هنا ايضاً ان توازن القوى السياسي الحالي في المشهد العراقي لا يوحي بامكانية قيام عراق ديمقراطي تعددي، بسبب قوة الحركات والتيارات السياسية الدينية والقومية والطائفية التي يمكن ان تحول العراق الى مختبر جديد لأنظمة شمولية أو أوتوقراطية او كانتونات على النمط الطالباني أو الايراني .
وهذا الامر محتمل تماماً، فالساحة العراقية مفتوحة ـ كما يقال ـ على جميع الخيارات، لكن على المثقف العراقي ان يدفع بالاتجاهات السلبمة ويعمقها داخل المشهد العراقي مستنداً في ذلك الى ارث ثقافي ديمقراطي وقيم انسانية تشبعت بها الثقافة العراقية، وهو يقف الان في لحظة حرجة وخطرة، لكنه لا يمتلك خياراً آخر في المرحلة الراهنة، ذلك انه يؤمن بقدرة الجماهير الشعبية العراقية التي اكتوت بنار الدكتاتوريات والفاشيات والانظمة الشمولية، ونزعات التطرف الديني والعنف الطائفي والقومي والمذهبي على تلمس طريقها نحو ديمقراطية حقيقية تضع العراق على طريق التقدم الاجتماعي والسيادة الوطنية الكاملة.
ترى هل من خيار آخر يمكن للمثقف العراقي ان يختاره في مثل هذا المعترك المتشابك الخنادق ؟ لا اظن ذلك، الا اذا شاء رفع الشعار المظلوم شعار "المقاومة" الذي أصبح المظلة التي يحتمي بها كل القتلة والجزارين ومصاصي الدماء والمفخخين من اعداء الشعب العراقي.
قد يقال هنا انه بامكان المثقف العراقي ان يشرع بتأسيس حركة " مقاومة " مسلحة " جديدة "مبرأة " من بصمات الارهابيين والتكفيريين وايتام النظام الدكتاتوري وعرابيه، ويمكن القول ببساطة ان مثل هذا الخيار غير واقعي لأنه سيجعل هذا المثقف واقفا في خندق واحد مع جلاديه وقاتليه المتوحشين.
ان الموقف الحقيقي العراقي اليوم يتمثل في دعم المشروع الوطني العراقي المستقل لازاحة المشروع الأمريكي، وهو ينطوي بصورة واضحة على رفض ويمكن القول " مقاومة " لكل الأهداف الأمريكية المشبوهة التي تحاول ان تكرس لبقاء الاحتلال لفترة طويلة، الا انها " مقاومة " ثقافية وفكرية وسياسية قبل كل شيء، ولكن هل يمكن ان ينتقل المثقف العراقي، والى جانبه غالبية القوى الوطنية الى موقف " المقاومة " المسلحة المستقلة عن " مقاومة" الإرهابيين والتكفيريين، عندما تصطدم الارادة العراقية المستقلة بإصرار قوى الاحتلال على البقاء وفرض الاملاءات السياسية، نظريا هذا ممكن، ومتروك أمره للتداعيات السياسية وارادة القوى السياسية والشعبية ونضالها ويقظتها.
لكن هذا المثقف يعتقد ان بامكانه لاعتبارات كثيرة ان يكسب المعركة ضد الاحتلال سياسياً وثقافيا، فهناك الكثير من الاعتبارات التي تساعد القرار العراقي المستقل على الانتصار، منها المعارضة الدولية الواسعة للاحتلال الأمريكي، وانتصار الديمقراطيين المطالبين بانهاء الاحتلال إضافة الى عوامل محلية وعربية واقليمية تقف الى جانب ترجيح الخطاب الوطني العراقي.
من كل ما تقدم يمكن القول اننا امام خطاب وطني عراقي راح يتبلور يوماً بعد يوماً، تشترك فيه قوى سياسية وطنية عريضة، تعلمت بدورها من اخطاء الماضي واخطائها، ويدعمه المثقف العراقي وهو بحاجة الى دعم وفهم وتقييم بعيداً عن المسلمات الشكلية او السطحية والتبسطية.
من هنا يمكن اعادة النظر في الكثير من المسلمات التي انطلق منها الزميل الشاعر سعدي يوسف، والتي اساء فيها قراءة المشهد العراقي ومنها اتهامه غير المنصف لكل المساهمين بالعملية السياسية بالعمالة للاحتلال وهو لا يختلف في شيء عن " تكفير " الشعب العراقي بكامله لانه " قبل " بالاحتلال الامريكي للعراق.
شخصياً قد اختلف كثيراً مع هذا السياسي او ذاك وقد اعترض على هذا الحزب او ذاك، لكن من واجبي ان أحترم هذا التنوع الذي افرزته صناديق الاقتراع، وان اعمل ضمن الآليات الديمقراطية لتصحيح كل الأوضاع الشاذة داخل الحركة الوطنية العراقية واساساً التخلص من هذا التضخم في الحس الطائفي الذي صعدت على موجته المؤقتة بعض القوى والتيارات السياسية والدينية السنية والشيعية، العربية والكردية على حد سواء والذي يتهم البعض من الاصدقاء الزميل سعدي يوسف بركوبه ايضاً.
نحن في العراق نواجه اوضاعاً صعبة ومعقدة ولنقل اننا نلعب " لعبة " سياسية خطرة قد نخسر فيها كل شي ولكننا لن نفقد ابداً جذوة الامل والايمان بما هو كامن في قوى شعبنا الوطنية.
وما نتمناه من الجميع وبشكل خاص من المثقفين والاعلاميين العرب والكثير من الاعلاميين والسياسيين في العالم ان يعيدوا قراءة المشهد العراقي بعينين مفتوحتين وان يقفوا الى جانب تطلعات الشعب العراقي الذي يواجه كل يوم حمامات الدم التي يخطط لها غلاة التكفيريين في أقبية " القاعدة " واجهزة مخابرات النظام المقبور الذين خسروا امبراطورياتهم وامتيازاتهم المادية والسلطوية التي كانوا يتمتعون بها على حساب جوع الشعب العراقي وعذاباته.
اما المحور الثاني فهو محور ذاتي وشخصي يتعلق بالتهم الظالمة التي كالها لي شخصيا ولزميلي الناقد ياسين النصير وأجدني محرجاً في الانجرار الى الدخول في تفاصيل هذا المحور، لأني شخصياً انسان بسيط ومتواضع ولا أحب الادعاء واستجداء الألقاب المزيفة، ولم اعلن مثلما فعل الاستاذ سعدي يوسف مؤخراً بأني الشيوعي الأول ولا " الشيوعي الأخير " واني البطل الذي قاوم الدكتاتورية بكذا وكذا.. الخ وأجد نفسي محرجاً في الدفاع عن وطنية ونقاوة صديقي البصري الرائع ياسين النصير الذي كان يفترض في الزميل سعدي يوسف ان لا تخونه فراسته في تقييمه له، فهو أكثر وضوحاً وبساطة " طفولية " مني وانأ " الماكر " الذي استخدم كل " دهاءه" وهدوءه للسير داخل حقول الألغام التي كان يزرعها النظام الدكتاتوري في كل مكان في طريق المثقفين العراقيين.
مرة أخرى أقول ان الأستاذ الشاعر سعدي يوسف يقع في خطأ جسيم ـ كرره حاليا في قراءته غير المنزهة للمشهد السياسي العراقي الراهن ـ وهو خطأ يشاركه فيه عدد غير قليل من المثقفين والسياسيين داخل العراق وخارجه مفاده ان جميع المثقفين العراقيين في ظل دكتاتورية صدام حسين كانوا بصورة او بأخرى صنائع وأدوات بيد السياسة الفاشية للنظام المقبور، وانه كان يستحيل على المثقف العراقي آنذاك ان يحافظ على نقائه وبراءته واستقلاله، لذا كان يعتبر كل الشعراء آنذاك مجرد طبالين في جوقة الدكتاتورية وكل الكتاب والنقاد والفنانين مجرد مدافعين ومزوقين للصورة البشعة لنظام المقابر الجماعية والتصفيات العرقية ومصادرة الحريات الفكرية، ولذا فمن الطبيعي، في ضوء مقايسة كهذه ان يصبح فاضل ثامر وياسين النصير وربما غالبية الأدباء والمثقفين العراقيين ممن " امضوا حياتهم التافهة - كما يقول الزميل سعدي يوسف ـ في خدمة نظام قدم لهم اكثر مما يستحقون، لقد كانوا مسلحين بمسدسات الحماية الشخصية لعدي صدام حسين ".
مثل هذا الحكم الظالم انتهى منذ زمن طويل وبالذات بعد سقوط النظام الدكتاتوري عندما اعيد تقييم المشهد الثقافي في زمن الدكتاتورية ومواقف المثقفين العراقيين منه آنذاك، ويمكن القول بأنه كانت هناك ثلاثة مواقف متباينة للمثقفين العراقيين: الموقف الاول يتمثل في وقوف شريحة من المثقفين الى جانب السياسة الأيدلوجية للنظام الفاشي وتضم الكوادر الحزبية للنظام وقياداته الثقافية المعروفة يضاف اليها عدد من المتطوعين والهواة الذين كانت تبهرهم مظاهر القوة والشعارات الزائفة او يغشي ابصارهم لمعان الذهب، وقد انخرط معظم هؤلاء في جوقة الطبالين والزمارين وصانعي المكياج لنظام دكتاتوري شرس.
اما الشريحة الثانية فقد كانت تضم مثقفين وادباء وفنانين كانوا يجدون انفسهم بين رحى الخوف من بطش النظام وسندان الفقر والحاجة والعوز، لذا ارتضوا ضعفاً وخوفا الاشتراك الجزئي ـ المنافق ـ في جوقة الطبالين، والعدد الأكبر من هؤلاء الأدباء انقذوا انفسهم وارواحهم عندما هربوا من العراق بحثاً عن مكان آمن يتنفسون فيه شيئا من اوكسجين الحرية الذي راح ينفد داخل العراق حيث استعادوا اصواتهم وفضحوا بشجاعة بشاعة الكابوس الصدامي، ويجب ان نعترف ان بعض هؤلاء راحو يعمدون الى كتابة انماط كتابية شعرية وسردية ونقدية فيها الكثير من التعقيد والتخريب والتمويه والرمزية للتخلص من املاءات النظام الدكتاتوري وتقارير عسسه.
اما الشريحة الثالثة من المثقفين فقد ضمت مجموعة غير قليلة من الأدباء والفنانين الذين حافظوا على شرف الكلمة والموقف ورفضوا تكريس ابداعهم للدفاع عن النظام الدكتاتوري ورموزه، هناك بالتاكيد من آثر الصمت نهائياً والانغمار نهائيا في فضاءات حياته بعيدة عن اضواء الأدب والثقافة او ظل يكتب لنفسه واصدقائه منتظراً يوم الفرج على سبيل المثال الدكتور مهدي المخزومي والشاعر ألفريد سمعان والشاعر محمود البريكان وغيرهم، لكن قسماً آخر ظل يعمل داخل الوسط الثقافي ـ وهو خيار صعب للغاية ـ مختاراً طرقا للتعبير والكتابة بعيداً عن إغراءات المؤسسة الثقافية للحزب الحاكم، وافضل انموذج يمثل هذه الشريحة في الوسط الأدبي الدكتور علي جواد الطاهر وفهد الأسدي ومحمد خضير و محمودعبد الوهاب ومهدي عيسى الصقر، الذين ظلوا حاضرين في المشهد الثقافي لكنهم لم يتملقوا للنظام المقبور لا من بعيد ولا من قريب.
وقد يبدو وضع هذه الشريحة مثيراً للبس: اذ كيف يتسنى لناقد او قاص او شاعر يقف على منصات الثقافة الرسمية في مهرجان المربد او مؤتمرات اتحاد الكتاب العرب في بغداد ان يحافظ على براءته " ونقائه "، بالتأكيد كان مثل هذا الأديب عرضة للإغراءات والتهديدات بين آونة واخرى، لكن تظل امكانيات المناورة ممكنة مثل الانسحاب المؤقت من المشهد في مراحل معينة.
وشخصياً اعد ان غالبية المثقفين العراقيين ينتمون الى هذه الشريحة الاخيرة، وان كان البعض منهم قد اضطر خوفاً ورهبة او طمعا في مكسب او منصب، للرضوخ لبعض املاءات المؤسسة الثقافية للنظام الفاشي المقبور.
ولذا فانا أبرىء غالبية الأدباء والمثقفين العراقيين من التهم الظالمة التي تلصق بهم جزافاً، واليوم يقف المثقف العراقي على ارض صلبة وهو يناضل مع ابناء شعبه بوصفه مثقفاً عضويا - بتعبير غرامشي ـ وهو ينظر باحتقار الى تاريخ القمع الذي تعرضت له الثقافة العراقية تحت سلطة الدكتاتورية، ويتطلع الى دور فاعل في الحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية بعيداً عن سياسات التهميش والإقصاء والقمع التي كان يعامل بها من قبل غالبية الدكتاتوريات العراقية المتعاقبة.
واجد نفسي اشعر بالحرج مرة اخرى وانا مضطر للدفاع عن نفسي وعن زميلي الناقد ياسين النصير ضد تهمة ساذجة يبدو ان أحد الحاقدين قد استغفل فيها الشاعر سعدي يوسف ومررها عليه ـ وعذره ـ انه ظل بعيداً عن المشهد العراقي طيلة عقود عدة، فكان يتلقى ما يصل الى إسماعه دون ان يتأكد من صدقه او زيفه، ومفاد هذه الفرية المضحكة، انني كنت ـ والقول للشاعر سعدي يوسف حرفياً " مع ياسين النصير، مستشاراً لعدي صدام حسين في انقلابه على الاتحاد الشرعي آنذاك وفي خدمة عدي."
سامحك الله ايها الشاعر الرائي: اين فراستك وحسك الوطني: لماذا ترتضي هكذا وبعشوائية ان تشكك بوطنية الناس وإخلاصهم وتطلق جزافاً مثل هذه التهم العارية عن الصحة ياإلهي كيف سيكتب تأريخنا اذن بعد قرن او قرنين، مازلنا احياء ومازال الشهود احياء وبامكانك ان تكتشف بسهولة " حتى من شهود الزور " ان فاضل ثامر وياسين النصير لم يكونا في يوم من الأيام " مستشارين لعدي صدام حسين " في انقلابه على الاتحاد الشرعي آنذاك " دونك الذين شاركوا في العملية ـ لدوافع مختلفة ـ ليؤكدوا لك أننا لم نحظ " بمثل هذا " الشرف " الذي تتحدث عنه ابداً.
مرة اخرى انا حزين من اجل شاعر احبه وهو الان في موقف يستحق الرثاء، موقف لا يمكن ان يحسد عليه ابداً، ماذا يمكن ان تفعل يا صديقي الشاعر المبدع لو أقمت عليك دعوى قضائية امام القضائين العراقي والبريطاني، أطالب فيها بتعويض عما لحق بي من إساءات معنوية شخصية بوصفي ناقداً و بمركزي كرئيس للإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، عليك اولاً ـ للتخلص من سلطة القانون ـ ان تثبت بالوقائع والأدلة والشهود على صحة ما تقول والا فان القانون لا يرحم، والأرض واسعة أمامك، راسل من تشاء واستشر ونقب وابحث وبرهن على اقوالك والإ فان القانون لن يرحمك ولن تكفيك مدخراتك لسداد اجور المحاماة دعك عن دفع التعويض المالي الذي قد يكون بمئات الآلاف من الدولارات.
لا أريد ان ادافع عن نفسي ولا ازعم بأني بطل من هذا الزمان، انا ببساطة مواطن عراقي دفع ثمن مواقفه في الدفاع عن شعبه وتعرض مثل آلاف غيره الى الاعتقال والسجن، فاذا ما كان الزميل سعدي يوسف قد اعتقل بعد انقلاب 8 شباط الأسود بضعة اشهر فقد أمضيت انا في سجون نقرة السلمان والحلة والكوت وبغداد سنوات عدة، واسهمت داخل هذه السجون، في التأسيس لثقافة ديمقراطية بديلة يمكن ان يحدثك عنها أحد اصدقائنا ممن عاشوا في سجن نقرة السلمان مثل الكاتب والصحفي الأستاذ جاسم المطير وهو ايضاً بصري مثلك، وقد تسأل العشرات غيره ايضاً، وعندما خرجت من السجن، عانيت ـ مثل غيري ـ من الفصل والبطالة، لكني واصلت بطريقتي الخاصة في العمل ـ ولا أقول النضال ـ في الجبهة الثقافية وبوعي ذاتي صرف عندما كتبت في يومياتي آنذاك عام 1964 " نقطة رأس السطر".
انتهت مرحلة العمل السياسي والحزبي بالنسبة لي وبدأت مرحلة العمل الثقافي، وهكذا كرست نفسي للفعل الثقافي الجاد ناقدا وكاتبا وناشطا ثقافيا، ومرة اخرى لن اقول باني كنت بطلا من ذلك الزمان بل كنت مثقفا يحترم كلمته وموقفه وتاريخه ولذا كنت دائما اقدم لنفسي ولأصدقائي النموذج في النزاهة والموضوعية في التعامل مع حياتنا الثقافية، وكنت دونما ادعاءات ارفض كافة مظاهر القهر والاستلاب والمصادرة التي يتعرض لها المثقف العراقي تحت ظل الحكم الدكتاتوري آنذاك، وكنت افعل ذلك بدوافع شخصية وغير حزبية، ويعرف اصدقائي ـ وربما حتى اعدائي وخصومي - حقيقة مواقفي آنذاك، وأتحدى زميلي الشاعر سعدي يوسف ان يثبت العكس.
ثمة العشرات من المواقف التي كنت أدين فيها النظام الدكتاتوري واعري فيها آيديولوجية النظام الشمولية الفاشية ونجحت آنذاك في اقناع عدد غير قليل من الأدباء والمثقفين بالتخلي عن دعم الدكتاتوريةـ وما زالوا احياء ـ وكنت افضح امام اصدقائنا الأدباء العرب طبيعة ذلك النظام الدكتاتوري ولا اعتقد ان احدا داخل المشهد الثقافي العراقي آنذاك قد حسبني ـ كما فعل وللأسف زميلي الشاعر سعدي يوسف جزءا من " بطانة " صدام حسين او عدي صدام حسين.
يكفيني شرفا اني وقفت يوما في حديقة اتحاد الأدباء وقلت بين مجموعة من اصدقائي ـ وبعضهم كان محسوباً آنذاك من انصار النظام امقبور معلقا على جريمة اجتياح صدام حسين للكويت وانا ارفع كأساً فارغة:
" لو كنت امتلك شجاعة سقراط لملأت هذه الكأس بالسم وانتحرت إحتجاجاً على غزو صدام حسين للكويت ".
ونقل احد الحاضرين ـ ربما بحسن نية - ذلك الى العاملين في القسم الثقافي لاحدى الصحف الرسمية لكن مسؤول القسم الثقافي ـ وكان شاهداً على المشهد ـ تدارك الأمر وامتنع " الناقل " ـ سامحه الله ـ بالتكتم على الأمر لأن ذلك سيلحق بهم جميعاً الضرر وسيلاحقون قانونيا بتهمة " التستر وعدم الإبلاغ " وهو موقف لا يخلو من شجاعة وحس بالمسؤولية من طرف ذلك الصديق ولولا شعوري بان ادراج اسماء الزملاء قد يسبب بعض الاحراج لهم لفعلت ذلك الان.
الوقائع كثيرة، اما صديقي ياسين النصير، فقد كان والحق يقال اكثر شجاعة مني واكثر صراحة في مواجهة الدكتاتورية آنذاك ففي احدى المرات لم يتحمل مظاهر الزينة التي علقها انصار النظام في نادي الاتحاد فعمد الى تمزيقها مما تسبب في توقيفه عدة اشهر وهي حادثة معروفة اضافة الى مواقف جريئة ومباشرة ضد الدكتاتورية ورموزها، ومعروف جيدا في الوسط الأدبي والثقافي ماذا كان يمثل ثنائي " فاضل ثامر / ياسين النصير " باختصار كان رمزا للمقاومة الثقافية الصامتة والهادئة والماكرة ايضا ضد نظام التعسف والقمع والإضطهاد الصدامي، لا اريد ان ازايد على وطنية الشاعر سعدي يوسف واقول مع المتقولين بان الزميل قد عاش معظم سنوات حياته بعيداً عن سلطة القمع الصدامي داخل العراق، وانه لم يعرف معنى المعاناة والخوف والإعتقال والقمع وانه امضى سنوات هادئة يتنقل فيها من بلدٍ الى آخر، بل أؤمن بانه شاعر مبدع ومناضل كان يمارس دوراً كبيراً في المنفى بوصفه شاعراً وناشطاً ثقافيا في الدفاع عن الشعب العراقي وثقافته، لكنه قد جانب الصواب في تلمس الحقيقة فسمح لنفسه بأن يطلق سلسلة من الأحكام الظالمة وبحق زملاء له في الثقافة من خلال اتهامهم اولاً بانهم كانوا في خدمة عدي صدام حسين سابقا وانهم اليوم يستظلون ـ كما يقول تحت راية " الحكومة العميلة " او كما يقول: انتم ادباء الحكومة ! انتم ادباء الاستعمار والإحتلال ! انتم خونة الثقافة الوطنية !" وهم ايضاً " الأوباش " الذين قدموا درع الجواهري لرئيس الوزراء العراقي المنتخب شرعياً.
في الختام لا اقول الإ: سامحك الله وعافاك وبصرك بالحقيقة التي غابت عنك لأنك انقطعت عن الجذور التي تربطك بالارض التي ولدت فيها وبالذات بصرتك الرائعة التي اتمنى ان تعود اليها لتعرف منها ومن رموزها ومن اصدقائك بالذات حقيقة ما يجري في العراق بعيداً عن التأويلات والمسلمات المضللة التي يسوقها الإعلام المحترف ضد شعب العراق وتأريخه وثقافته ومسيرته نحو بناء دولة ديمقراطية كاملة السيادة تنفض عن نفسها وللأبد كل مظهر من مظاهر الاحتلال والدكتاتورية والإرهاب.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف