كتَّاب إيلاف

نظرات علي عالم اليوم

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تقدم "العولمة"- Globalization نفسها منذ الوهلة الأولى كمصطلح مليء بالإيحاءات والاسقاطات، ولعل تضخم وتضارب الاجتهادات حول "العولمة"، لا يكشف عن فهم عميق لآلياتها وأبعادها فضلاً عن دلالتها، أو حتى عدم الفهم لمضامينها "إذ أن الأشياء التي نتحدث عنها كثيرًا - حسب ديدرو - عادة ما تكون معرفتنا بها أقل"، وإنما يكشف بالأحرى عن تكرار نفس الأفكار في معظم هذه المحاولات، التي تخلط بين العولمة وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، وتطابق بينها وبين غيرها من الظواهر المختلفة في الوقت نفسه، وهو ما يستلزم ضبط المفاهيم والتصورات منذ البداية.
وينشأ الالتباس عندما نفهم "العولمة" كمذهب سياسي أو نظرية اقتصادية أو عقيدة فلسفيـة، على غرار ما تفهم مثلاً "الليبرالية" أو "الماركسية"، في حين أن المسألة تتعلق بجملة إجراءات وعمليات حضارية أو تاريخية، هي ثمرة الثورة العلمية والتكنولوجية. وأيضًا حين نخلط بين "العولمة" التي هي نزعة "عالمية" من نوع جديد، وبين عالمية العصر الصناعي أو العصر الزراعي، ذلك لأن العولمة عنوان يندرج تحته تحولات هائلة يتغير معها العالم ببنيته ومشهده، بأدواته ومؤسساته، بمفاهيمه وقيمه، فضلاً عن إيقاعه وزمنه.
صحيح أن التاريخ الإنساني يزخر بالأفكار المتعلقة بـ "تنميط" العالم ككل أو توحيده، على الأقل خلال الألفي سنة الماضية، كذلك الأفكار ذات العلاقة بالعام والخاص التي شكلت جوهر الحضارات الكبرى، بل إن تعبيرًا مثل "الرابطة المحلية الكونية" أو الرابطة الكونية المحلية" أطلق منذ القرن الثاني قبل الميلاد، على لسان "بوليبيوس" - Polybius - في كتابه "التاريخ العالمي" إذ يقول في معرض إشارته لقيام الإمبراطورية الرومانية: "في السابق كانت الأشياء التي لا تقع في العالم لا يربطها ببعضها شيء .. لكنه منذ ذلك الحين، أضحت كل الأشياء موحدة في حزمة مشتركة" .. وذهب المؤرخ الإنجليزي المعاصر "إريك هوبسباوم" - Hobsbowm -، إلى أبعد من ذلك حين قال "حتى وقت قريب نسبيًا كان هناك اعتقاد واقعي بأن الإنسانية تتحول بسرعة، من الناحية الفيزيقية، إلى مجتمع واحد".
بيد أن هذه الأفكار المتعلقة بـ "تنميط" العالم ككل أو توحيده لا تعبر عن "العولمة" بدقة .. أول محاولة تجريبية للإحاطة بفكرة "العولمة" قام بها "بول فاليري" في كتابه "نظرات على عالم اليوم" عام 1931، رغم أن كلمة "العولمة" نفسها لم تظهر فيه، ربما لأن الوقت كان جد مبكر، ومع ذلك فقد أحصى "فاليري" خمس سمات أساسية لظاهرة العولمة تميزها عن كل الأفكار السابقة. يقول: "في وقتنا الراهن، أصبحت كل الأراضي الصالحة للسكنى معروفة ومستكشفة، ومسجلة، ومقسمة، فيما بين الأمم. لقد انتهى عصر الأقاليم المجهولة، والأماكن التي لا تخص أحدًا، ومن ثم انتهى عصر التوسع الحر (hellip;hellip;) لقد بدأ زمن العالم المنجز, ويتواصل الجرد العام للموارد وإحصاء اليد العاملة، وتطوير أجهزة الاتصال. فهل هناك ما هو أشد بروزًا وأهمية من هذا الجرد، هذا التوزيع، هذا الترابط فيما بين أطراف الكرة الأرضية؟ إن آثار ذلك هائلة بالفعل. والنتيجة المنطقية لهذا الواقع الرهيب هو قيام تضامن جديد تمامًا، مفرط وفوري، بين المناطق والأحداث (hellip;) إن العادات والطموحات ومشاعر الود التي انعقدت أواصرها خلال التاريخ السابق لا تكف أبدًا عن التواجد. ولكن نقلها عن نحو غير رشيد إلى وسط يختلف هيكله تمامًا، يفقدها مغزاها وتصبح فيه أسبابًا لجهود غير مجدية ولأخطاء".
على ذلك يمكننا أن نورد أبرز التعريفات للعولمة، والتي تدور حول فكرة دمج "العالم في نسق واحد يشمل كل المجالات، ويجمع أطراف الكرة الأرضية في مجتمع عالمي واحد، فالعولمة هي "كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو من دون قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع واحد" (مالكوم واترز). وهي "اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش" (رونالد روبرتسون). وهي "مرحلة من مراحل بروز وتطور الحداثة، تتكثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي" (انتوني جيدنز). وهي "ترتبط شرطيًا بكل المستجدات خصوصًا المستجدات الاقتصادية التي تدفع في اتجاه تراجع حاد في الحدود الجغرافية والثقافية والاجتماعية القائمة حاليًا" (كينشي أوهماي).
كل هذه التعريفات وغيرها، تكاد أن تُكون المقومات الأساسية لتعريف واحد جامع للعولمة، لكنها تظل جزءًا من الحكاية وليس كلها. فقد طرح تعبير "العولمة"-Globalization - في التداول السياسي من قبل مفكرين أمريكان في السبعينبات من القرن العشرين، وبالتحديد كتاب (ماكلوهان) وكينثين فيور حول "الحرب والسلام في القرية الكونية"، وكتاب "بريجنسكي" بعنوان "بين عصرين: دور أمريكا في العصر الإلكتروني". وتبلور هذا المصطلح بسرعة، بالتزامن مع تقدم وسائل الاتصال والأقمار الصناعية، وجاءت شبكات الإنترنت بوساطة الكمبيوتر لتضيف مبررًا آخر لتعزيز فكرة "العولمة"، ولعل هذا ما دفع "روبرتسون" في كتابه "العولمة" إلى التأكيد على أنها تطور نوعي جديد في التاريخ الإنساني بعد أن أصبح العالم أكثر ترابطًا وانكماشًا في الوقت نفسه". و "جون بابيت" الذي رأى أن القوى التكنولوجية والتكتلات الاقتصادية الجديدة ستلعب الدور الحاسم في تشكيل البشرية خلال القرن الحادي والعشرين، وهو ما أشار إليه بالتفصيل "ألفين توفلر" في ثلاثيته الشهيرة" "الموجة الثالثة"، "صدمة المستقبل"، "تحولات القوة" والتي أسهمت في تحديد سمات هذه المرحلة الراهنة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف