كتَّاب إيلاف

تسميم أوجلان...تسميم السلام

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

كان آخر ماتفتق عنه العقل الكولونيالي التركي المتحكم في حياة ومصير سبعين مليون تركي وكردي، هو تسميم الزعيم الكردي الأسير عبدالله اوجلان، ودس مركبات سامة في طعامه، بغية قتله ببطئ...

عملية دس السم لأوجلان( وهو الأسير في حجرة انفرادية في معتقل جزيرة إيمرالي المعزول وسط بحر مرمرة منذ ثمانية اعوام)، هي في واقع الحال علامة قوية على قلة حيلة العسكر ورئيسهم "القبضاي" يشاربويوكانيت. كان لابد من "إنتصار" ما وسط ركام كل هذه الهزائم التي منيت بها المؤسسة العسكرية التركية. أولم يقل بويوكانيت قبل مدة، وهو يجر أذيال الخيبة من واشنطن، بأن "تركيا تعيش في مهانة كبيرة، لم تشهدها طيلة حياتها"؟. المهانة في عرف قائد فرق الموت الخاصة، هي مايلي: أولاً: عدم قدرة الجيش التركي على مهاجمة قواعد الثوار الكرد في حزب العمال الكردستاني. ثانياً: تحطيم الحكومة الكردية في جنوب كردستان، وإحتلال آبار نفط كركوك. هي المهانة التي تبعثها سياسة واشنطن الإستراتيجية في المنطقة، والعصا الغليظة التي ترفعها في وجه بويوكانيت وإنكشارييه المتعطشين لسفك دماء الكرد.

حتى الإعتراض على قرار الحكومة التركية "الخائبة" بالحوار مع حكومة جنوب كردستان، عملاً بنصيحة واشنطن، لم ينجح فيه الجيش. ثمة من أفهم قادته بأن القضية أعقد من الزعيق والرفض و"البربرة" بالتهديد امام صفوف الضباط المتخرجين من الكليات الحربية، كما يفعل بويوكانيت وصحبه كل موسم. لذلك كان قرار تسميم أوجلان ومحاولة التخلص منه، هو "الإنتصار السيكولوجي" الأخير، بعد كم الهزائم و"الإهانات" التي لاتحتمل تلك.

أوجلان ومنذ أكثر من أربعة عشر عاماً، يحاول تقديم حلول معقولة و"بالحسنى" للقضية الكردية في شمال كردستان. بادرّ بمسؤولية عالية، ولخمس مرات لإعلان وقف أحادي الجانب لإطلاق النار. جاء الإعلان الأول بطلب من الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني، والذي توسط بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، بدعوة وطلب مباشر من الرئيس التركي الراحل توركوت أوزال. ولكن الجيش تدخل وأفشل هذه المبادرة، واضعاً حداً لمساعي الطالباني، و...لحياة أوزال كذلك...!.

وكان قرار وقف إطلاق النار الأخير في شهر تشرين الأول الماضي بطلب من أوجلان وضوء أخضر من بعض الأطراف الأقليمية والدولية، بينها واشنطن نفسها. كل هذا والجيش يرفض السلام ويصر على القتال وشن المزيد من العمليات العسكرية. ومن ثم جاءت المؤامرة الدولية التي طالت أوجلان عام1999 حيث نجحت ضغوط تركية لإخراجه من سوريا، ومن ثم تم رصد تحركاته حتى اختطافه في العاصمة الكينية نيروبي بمعية المخابرات الأميركية والإسرائيلية. وهنا أجرى أوجلان تكتيكاً واضحاً في ممارسته السياسة مع الدولة التركية الرافضة لوجود وحقوق الكرد. الرجل أفهم الساسة الترك بأن اللعبة كانت تستهدف إشعال حرب أهلية طويلة بين الشعبين التركي والكردي، وإنه بدعوته الكرد للهدوء أفشل هذه اللعبة الدولية. كما دعى مقاتلي حزبه للخروج من داخل الأراضي التركية، وعدم مهاجمة قوات الجيش التركي، إلا في حالة الدفاع عن النفس. وكانت تلك خطوة ذكية وقراراً إستراتيجياً مهماً، حمى آلاف المقاتلين الكرد من التصفية على يد الجيش التركي، ومكنهّم من تأسيس قواعد آمنة في المناطق الحدودية الواقعة في المثلث الحدودي التركي ـ الإيراني ـ العراقي. وبذلك أعادت قوات حماية الشعب( الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني) تنظيم صفوفها وفتح قواعد جديدة وإستقطاب الآلاف من الشبان الكرد وفتح مراكز التدريب والتأهيل، هذا فضلاً عن دعم ورفد المجموعات المقاتلة في داخل تركيا نفسها. تمكنّ أوجلان بهذه الخطوة من حماية ثورة حزب العمال الكردستاني من نكسة كبيرة كانت ستحيق بها فيما لو بقي المقاتلون في الجبال داخل مناطق كردستان الشمالية. ولعل إعتراف الجنرال يشاربويوكانيت بأن حزب العمال الكردستاني أعاد ترتيب صفوفه ورجع قوياً كما كان في عام 1993 خير دليل على ذلك.

كل ذلك لم يثن الزعيم الكردي عن التشبث بالسلام كخيار إستراتيجي لحل القضية الكردية. لقد عرف أوجلان ان السلام هو طريق الحل الأخير، وان القمع وخيار الحسم العسكري لن ينفعا في حل القضية أبداً. لذلك أعلن عن مشروع (الكونفيدرالية الديمقراطية لكردستان)، وهو المشروع الذي يقر بالحدود الحالية لتركيا، مع ضمان تمتع الكرد بحقوق إدارية واسعة ضمن "منظومات كونفيدرالية" مستقلة عن المركز. ولعل هذا الموقف يشبه لحد بعيد موقف (الجبهة الشعبية لتحرير السودان)، والتي كافحت النظام السوداني الأصولي طويلاً، وبعد أن اتضح عبثية الصراع المسلح من قبل الجانبين، ارتضت الجبهة بالمشاركة في الحكم في المركز، والتعهد بحماية وحدة أرض السودان، بل وغدى رئيس الجبهة نائباً للرئيس السوداني ايضاً..

وتأتي دعوة الرئيس التركي الأسبق الجنرال كنعان ايفرين الأخيرة في اقامة فيدراليات في البلاد، كإطار لحل جميع المشاكل، كصدى واضح لدعوات أوجلان المتكررة لحل القضية الكردية ضمن الدولة الوطنيّة التي تعترف بحقوق مواطنيها وتقر بخصوصيتهم القومية المميزة. وكان منظر البرلمانيين الأتراك مثيراً للضحك وهم يتبادلون الأتهامات قبل فترة و خلال جلسة علنية نقلها التلفزيون التركي حول وقوع كل طرف ينادي بالحل الديمقراطي والحوار تحت تأثير أفكار أوجلان...

كما ان الروائي الكردي الكبير يشار كمال ابدى في مؤتمر عقده المثقفون الكرد والترك تحت شعار (تركيا تبحث عن سلامها) قبل شهرين تأييده لمشاريع السلام التي تقدم بها الزعيم الكردي، ونٌقل عن كمال بأن على الترك أن يعودوا لمشاريع الحل التي ساقها زعيمهم مصطفى كمال "اتاتورك" نفسه بشأن الكرد وكردستان، قبل أن ينقلب على الكرد ويبطش بهم لاحقاً. وكررّ كمال إتهام أوجلان للدولة الرسمية بحرق الوثائق التي تكشف عن إعتراف أتاتورك الواضح بحقوق الكرد في اقليم كردستان. كما يؤيد كل من البرلمانية السابقة ليلى زانا ورفاقها سليم ساداك وخطيب دجلة واورهان دوغان مشاريع الحل التي يتقدم بها أوجلان وحزب العمال الكردستاني، والأطر التي يقترحونها لحل القضية الكردية في كردستان الشمالية.


تركيا ستخسر كثيراً اذما غاب أوجلان عن المسرح السياسي فيها. فهو صمام الأمان. وهو الذي يمنع إنحدار البلاد إلى حرب أهلية طاحنة ستعيد تركيا إلى نقطة البداية ومرحلة "ما قبل الإستقلال" تلك. يجب الا تتخيل تركيا بأنها لو قتلت أوجلان فسوف تقضي على الكرد. هذه خرافة كبيرة، فالواقع الكردي في تركيا متأزم، وهناك آلاف الشبان الكرد متعاطفون مع العمال الكردستاني، وهم يعتبرون أوجلان زعيمهم الأوحد، وأي مكروه يصيبه يجب أن يترجموه وبالاً على البلاد بأسرها.

على تركيا أن تطور نفسها. على حكومة (حزب العدالة والتنمية) ان تبادر إلى لجم العسكر عن التدخل في السياسة. عليها حماية أوجلان وتهيئة الرأي العام للحوار معه لحل القضية الكردية، ومن ثم إطلاق سراحه واعلان المصالحة الوطنية. الحكومة منتخبة من الشعب وتتمتع بأغلبية برلمانية مريحة. ليس من المستحيل فعل ذلك. لكن الكارثة حقاً فيما لو حدث شيء لأوجلان، الشخص الذي يعتبره ملايين الكرد قائدهم ورمزهم الكبير. لتعلم الحكومة ان اي مكروه يصيب هذا الرجل فسوف لن يبقى للكرد سوى الجبال، والتي سوف يشنون منها حربهم الضروس الأخيرة، لتنحدر للمدن التركية، وتشعل النار في كل شيء.

وهي هنا "حرب المائة عام" التي حذر منها أوجلان طويلاً....

tariqhemo@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف