ثلاثة أيام بصحبة الحسناوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أفاضَ ذلك اليوم الرائع، الربيعيّ، بكشف محاسن " باريس " لناظري. مدينة النور هذه، شاءَ حسن حظي أن ألجها عبْرَ مدارج ريفها، الساحر؛ ثمة، أين تجلت البيوتات البسيطة بأبهى حللها من التعريشات والأوراد والأشجار، الوارفة؛ الحواري الضيقة، المتلاصقة الجدران والمفروشة أرضها بالحجارة البازلتية، السمراء؛ الأهالي بسحناتهم " الغاليّة "، المميّزة، المتبدي بعضهم على الشرفات الأنيقة ( الترّاس )، أو خلل حقولهم وكرومهم، الكريمة. ربما أنّ محمد الحسناوي، بدوره، قد عاين هذا الجمال جميعاً، وهوَ في طريقه من المطار إلى وسط العاصمة الفرنسية : في هذه الحالة، فلا بد أنه إستعادَ بعضاً من ذكريات مسقط رأسه؛ هناك، في " جسر الشغور "، المحروس بهامة " جبل الزاوية "، الأشمّ. في ذلك اليوم من أيار 2004، كان قد مضى ما يزيد عن العقدين من الأعوام، دونما أن يتاح لـ " أبي محمود " حظ رؤية موطنه، مجدداً. كان قد غادره، خفية ً، في مستهل ثمانينات القرن الماضي، تجنباً لحرب الإبادة التي شنها النظام البعثي، الحاقد، على التنظيمات الإسلامية وأنصارها ومؤيديها، والتي إمتدت لتطال التنظيمات الاخرى، من يسارية وقومية. شاءَ مقدور الرجل، وقد قارب السبعين من عمره، أن يرحل عن دنيانا، هناك في المنفى الأردني، دونما أن يُتاحَ حتى لجثمانه موراة الثرى في أرض الوطن. بيْدَ أنّ ذكرى المرحوم محمد الحسناوي، لن تفتأ تروّج رائحة تلك الأرض، العطرة، خصوصاً لمن كان قد سعد باللقاء به، وإن لأيام معدودات حسب؛ حال كاتب هذه السطور..
في بهو الفندق إلتقيتُ إذاً الأديب والشاعر محمد الحسناوي، وكان رفقة بعض الأشخاص. كنا من أوائل الواصلين، من مدعوي مؤتمر الحوار الوطني السوري. هنيهة اخرى، وإذا بنا ننصت لضحك مرح، يطل علينا خلل المدخل. كانوا ثلاثة من الضيوف أيضاً، وقد لاح لي أحدهم بخلقة مألوفة : إنه الصديق الشاعر إبراهيم يوسف، وكان بصحبة مشعل تمو، السياسي الكردي، والدكتور هيثم المناع، منظم المؤتمر. وكان لقاءٌ حميمٌ بيننا؛ لقاءُ المنفى المتظلم بالموطن المفتقد. إثر جولة قصيرة، قادتنا عبرَ أزقة حي " ملكوف "، الشعبيّ، نؤوب ثانية للنزل، لنجدَ أصدقاءَ جدداً، ممن وصلوا للتوّ. مساءٌ ربيعيّ، حار، خيّم على جلستنا في المنظرة السماوية، المتألقة ببحرة فاتنة، يتدفق سلسبيل مياهها من فم أسدٍ حجري؛ مساءٌ أبهيّ، أرخى علينا سدولاً لطيفة من نسيمه، المداعب خصل شعورنا وشعور عارشتيْ الياسمين والكرمة، المتهدلة على مجلسنا. ما لبثت أن رأيتني أنضمّ إلى طاولة صغيرة، تحلق حولها عدد من المدعوين؛ ثمة، كان يشعُ " الحسناوي "، بوجه الحسن، الصبوح السمح، وبكلماته المقتضبة، الخافتة. أتذكرُ أنّ حديثنا تناهى إلى أدب نجيب محفوظ، وأنني نهضت للدفاع عنه إزاء بعض الآراء المنتقدة إياه. ولن أسلوَ أبداً، من تلك الجلسة، ما بدا على تعابير وجه محمد الحسناوي، حينما سردتُ أمامه وصفَ " خان الخليلي "؛ وكيفَ إنثالت عبراتي في غمرة الروائح المعتقة، المنبعثة من ذلك المكان الأثريّ، حينما لاحت دمشقُ لمخيلتي وقتئذٍ؛ مدينتي المفتقدة، الحبيبة، بأسواقها العريقة، المشابهة لمثيلتها، القاهرية.
إبتدأ مؤتمرنا في اليوم التالي مباشرة. جاء المدعوون من أصقاع المعمورة، المختلفة؛ من المشرق وأوروبة وأمريكة وكندة؛ جاؤوا لكي يعبروا عن هواجسهم وآمالهم وتطلعاتهم ـ كمواطنين سوريين، بالدرجة الأولى. ما كان إتفاقاً، أن يعقد المؤتمر بعيد أحداث مدينة " القامشلي "، الكردية، والتي تطورت إلى إنتفاضة شاملة، وصلتْ شمال البلاد بعاصمتها. كانت كثافة الحضور الكرديّ، في تلك القاعة القريبة من نزلنا، قد اثارت حفيظة البعض، ممن ما فتيءَ على تجاهله لحقيقة كون سورية بلداً متعدد الثقافات والأديان والمذاهب. لهذا الداعي، جاء صوتُ محمد الحسناوي، ضرورياً هناك؛ بإتزانه وإعتداله ورزانته؛ الصوت الموحي بدماثة خلق صاحبه وأصالة فكره. وقد شاءت الصدفة، أيضاً، أن أكون جاراً للرجل في جلسات المؤتمر. وأعترف الآن، بأنني كنتُ مشاغبَ الجلسات، بلا إمتياز! على أنّ تعليقاتي ومداخلاتي، وحتى مشاداتي مع هذا وذاكَ، فقد اُخِذتْ غالباً على محمل هيّن، من لدن الآخرين. حينما كنت أشتط في المجادلة، كان جاري هذا، الهاديء، يشير لي بعينيه مهدئاً من إندفاعتي. وهوَ نفسه، من أبدى تأييداً لإقتراحي بمناقشة قضية لواء إسكندرون، السوري، على خلفية ما تردد وقتذاك عن إستعداد نظام الأسد للمساومة عليه لصالح تركية.
ثمة عدد من الصور في ألبومي، يظهر فيها فقيدنا الراحل. إحداها، يبدو فيها وهوَ يحوطني بيده، فيما اليد الاخرى تتنكب أحد الأصدقاء، من المشاركين في ذلك الإجتماع الباريسي. كان الكرد وقتذاك، من مندوبين وإعلاميين، يظهرون إحتفائهم بالأستاذ الأديب محمد الحسناوي، ويتبادلون معه حديث السياسة والذكريات؛ نعم، الذكريات : فإنه في سني شبابه، كان قد درّس الأدب العربيّ في " عفرين "؛ المنطقة الكردية، الجبلية، المحدقة بشمال مدينة " حلب ". الكثير من تلاميذه، الكرد، أضحوا الآن من نخبة المثقفين، حيث يتذكرونه في مواقفه الإنسانية، المشرّفة، والتي غالباً ما كان يدفع ثمنها الباهظ. صداقته لشعبنا، الصادقة، تجلتْ في العديد من مقالاته على الإنترنيت وصفحات الجرائد والمجلات. كان المرحوم الحسناوي، كما سبق وذكرنا في مستهل المقالة، من " جبل الزاوية "؛ موطن القائد الوطني، إبراهيم هنانو، ذي الأصل الكردي؛ القائد المحارب، الذي دوّخ الإستعمار الفرنسي، ومن أطلق أولى الرصاصات ضد وجوده في سورية. وإبراهيم هنانو، هوَ من كان قد تجرأ وطردَ تاج الدين الحسني، الرئيس السوري آنذاك، من المسجد الأموي بدمشق!.. فلا غروَ إذاً، أن يخرج من ذلك الجبل الأشمّ، رجالٌ جسورون ـ كمحمد الحسناوي، أديب " جسر الشغور " ـ ممن تصدوا للنظام البعثي وفرعونه، البائد، وأخلافه أيضاً!