دستور الاسلام المستنير (20): الله والانسان (ب)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1- بوضع العقيدة المنظمة فى نطاقها، ورسم حدود للكهنة ورجال الدين، وبظهور الطبقة البرجوازية، بعيدا عن الاقطاعات (والبرجوازية نسبة الى الابراج ومفردها لفظة برج دستور الاسلام المستنير (20): الله والانسان (أ) العربية) التى كانت تقام فى طرق السفر الممتدة بين الاقطاعات، بدأ الانسان عهداً حديثاً تداعى الى فهم جديد للعقل.
فالعقل، كان فى المفهوم الآلى التقليدى، هو ما يسمى بالمخ او الكتلة الموجودة داخل رأس الفرد، تنحبس فيما تتلقاه من انطباعات الحواس الخمس، وتنسجن فيما تردده من افكار تقليدية متوارثه، والفاظ كالرواسم (اكليشيه Cleche) بلا مضامين، لكنه صار فى الفهم الجديد أشمل من هذا وأكمل، حيث يمتد الى كل السلوك البشرى بمظهريه الحركى والذهنى، والذى يكون ردود فعل لمؤثرات واضحة، أو تعبيرا عن معانٍ دقيقة تنطوى عليها الذات الانسانية، او تحقيقا للتكيف والتوازن الذى تنشده هذه الذات وتسعى اليه، او تفاعلا مع مجال كلى أوسع من النطاق المادى المحدود أو الظروف الواقعة المحسوسة.
وفقا للاسلوب التقليدى، كان مفهوم العقل مقصورا على أداء او مراقبة الوظائف المحددة للجسم أو التعامل الوتيرى (الروتينى) مع الاشخاص القريبين أو الاسباب المعروفة المباشرة، وفى فهم مقصور كهذا، كان العقل يُمنع من ادنى خروج على هذا النظام وذلك المجال، فلا يجوز له ان يتعقل الظواهر أو يتفكر فى الاحوال أو يتدبر ما يمكن أن يكون، بل وكان العقل مختوما عليه بشدة، مجموعًا عليه بقوة، لا يذهب أىٍَِ تصور الى احتمال تعرضه الى بصمات كونية أو طفرات حيوية. وانما يجرى الكلام من جانب على أنه مصون ومقدس، ويقع العمل من جانب آخر على منعه من أىٍَ نشاط، عدا التافه والمحدود من الانشطة الآلية المكانيكية.
فى المفهوم الحيوى الجديد والمضمون الكونى الحديث، فإن العقل انفجر كبركان ثائر، يفض معانى حيويه، ويطلق مفاهيم كونية، ويتهيأ لطفرات الاهية، فلا يقف عند حدود آلية، ولا يجهد إزاء أوضاع مكيانيكية، ومن ثم فقد بدأت دراسة الأنشطة العقلية تنفعل فى نطاقات لم يكن يجسر أحد من قبل على الدخول اليها، منها ما يسمى "علم ما وراء علم النفس Para Psycology، وهو علم يتضمن مفهوم اللقانة (Telepathy) والجلاء البصري (Clairvoyance)، والجلاء السمعي (Clairauduance) ومفاهيم الوحي والالهام والحدس والفراسة وما ماثل. ومن هذا المفهوم لم تعد العلل العقلية اقدارا لا تمحى، أو امراضا تسببها الأرواح والشياطين، وانما صارت هذه وتلك عللاً عادية، أو حالات تخضع للعلاج والمداواة، مثل ذلك مايُعرف بفقدان القدرة على فهم الجمل واستخدامها (Asynolia) والضعف العقلى الناتج عن بطء النمو (backwardness) وفقدان الإرادة (Abulia) وفتور الشحنة الانفعالية (Acatbexis) والجنون الدورى (Cyclothymia) وهلم جرا (عن كتابنا العقل فى الاسلام )
2- ومع الفتح العقلى، نشأت بحوث فى شتى المجالات، تقوض المادية وتشيّد الروحية، منها ما يهم فى هذا الصدد، علم الفلك (Astronomy) وعلم التنجيم (Astrology) وعلوم ما تحت المستوى الذري، وبالذات العلاقة الفكرية بينها وبين النواتج الانسانية. وهذه العلوم الثلاثة هى التى يمكن الاجتزاء بها - فى هذا الصدد - لاثبات أن الكون كل واحد، وأنه يقوم على أساس ما يمكن أن يسمى بالكلية (Holism) حيث يكون مؤثرا ومتأثرا بالكل، وهو ماعبرت عنه المقولة المصرية (الكل فى واحد). ذلك أن الفرد لا يستطيع فهم أو رؤية الشىء رؤية كاملة اذا اقترب منه والتصق به، ومن ثم يتعين أن يبتعد قليلا ليفهم كثيرا. ومن علوم الفلك وعلوم ما تحت الذرة، يخرج الانسان من نطاق المحسوسات تماما الى ابعد مدى يمكن منه أن يرى الصورة كاملة ويفهم الوضع الكونى على أصوله (بقدر ما يمكن).
والفلك - فى ابسط صورة - هو علم دراسة الأجرام السماوية. عرفته الحضارات القديمة بابل والهند والصين. وكان عند قدماء المصرين تطبيقيا، كعمل الخرائط النجومية ووضع الآت لرصد النجوم وتسميتها، ومن هذا الاتجاه أرسوا قواعد الفلك على أساس ثابت من النظام والحساب. فحددوا مسار الشمس ومدار القمر، ثم ربطوا فيضان النيل وبداية العام بظهور نجم الشعرى اليمانية. وبنوا على مجريات علم الفلك أمورهم فى الرى والزراعة والحصاد وغيرها. وقد رصدوا كسوف الشمس وخسوف القمر، وسجلو بعض أحداث السماء. وكانت فى معبد دندرة دائرة فلكية انتزعها الفرنسيون ونقلوها الى متحف اللوفر. ومنها رأى بعض العلماء أن هذه الدائرة لا يمكن ان ترسم بالدقة التى هى عليها، الا لمن كان على دراية بعلم الفلك، مدة عشرة آلاف سنة على الاقل، من رسمها.
والذى يستفاد حالا (حاليا) من علم الفلك أن للنجوم والكواكب إشعاعات (سماها البعض روحانيات) وأنها دائمة الصدور ومستمرة التفاعل مع كل نجم وكوكب وقمر وجرم، على مدى سريان أشعته وتفاعل روحانيته. ومثال ذلك أن انفجار النجوم الذى يسمى (Super Nova) مهما كان بعيدا لابد ان تنجم عنه اشعاعات كثيرة مثل اشعة جاما وأشعة X وغيرها من الاشعة التى تحمل موجات كهرومغناطيسة (Alectromagnatic) قد تظل قوية مؤثرة الى مدى بعيد مكانا ومترام زمانا. كما ان هناك أشعة كونية لم يكتشفها العالم بعد، وهى ذات تأثير كبير على الناس وربما على الأحداث كذلك. ففيها عناصر كونية مهمة للنشوء والارتقاء، ونتيجة لبعض هذه الاشعة تتزايد نسب الجنون وأمراض القلب وحوادث القتل وهلم جرا. وأبسط مثل فى ذلك أن المد والجزر الذى يحدث فىالبحار والمحيطات على سطح الأرض ينتج من دورات قمرية، كما انه من المعروف أن الجنون يسمى باللغة الانجليزية (Lune) نسبة الى القمر، أو بالاحرى نسبة الى أشعة منه أوحركات له.
3- فى صحف إدريس (أوزير) أن الله عندما أراد أن يخلق الانسان (ليخلُق به) أخذ من الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل، أفضل ما فى كل منها، وخلق منه ذات الانسان، ولما أدركت الاجرام أن الانسان جمع افضل ما فيها، خشيت ان يتجاوز حدوده، ويتأله، أو يسىء استخدام قواه وقدراته فى الشر والإجرام، لكن الله العليم بكل شىء قال للأجرام انه خلق نظاما فلكيا صارما، يحكم الانسان بقوة وعنف، يجعله يعيش فى دراما دائمة، ولا ينال الخلاص من هذه الدورة الصعبة الا من وصل الى الايمان الحق والمعرفة المقدسة او العلم اللدنى،على حد تعبير القرآنى، ذلك لان الايمان بغير المعرفة أعمى، والمعرفة (أو العلم) دون ايمان كسيحة، ومتى وصل الانسان الى الايمان المستقيم والمعرفة المقدسة فإنه سوف يحكم ملكاته باقتدار، ويضبط نوازعه باختيار، فيتجاوز دورة الفلك الصارمة،والتى تسيطر عليها سيدة (أو ربة) الأقدار، التى سماها المصريون القدماء (سخمت).
هذا دليل واف على صلة علم التنجيم بالأشخاص، وتأثير الايمان الصحيح والمعرفة المقدسة على الخلاص من التأثير السىء لدورة الفلك، فيصبح الانسان بذاته المستنيرة المستقيمة فوق الأقدار (أى الناموس) وليس تحتها.
علم التنجيم اذن علم يقوم على فكرة تأثير النجوم والكواكب فى شئون الانسان، وقد كان يعد فرعاً من علم الفلك، لكنه انفصل عنه، وبالذات بعد ظهور كوبرنيق.
ويحدَّد طالع الفرد في علم التنجيم بوضع خارطة للنجوم والكواكب (وقت ميلاده والادق وقت الحمل به إن كان ذلك ممكنا) تسمى (chart) ولها قراءات خاصة ومُختلفه وغير يقينية، تحدد طبيعته، ومدى استعداده للمرض، وتعرضه لبعض الحظوظ والكوارث.
وفى رقى هذا العلم فهم البشر أن الخلاص من دورته الكئيبة، ومن نحوسه التى تزيد كثيراً على سعوده، يكون بالايمان بالخالق والحصول على المعرفة الكونية (التى تختلف فيها الآراء)، فوق قانون القدر وليس تحته، ويصير بذلك أداة فى قدرة الله وفى يد الكون، ليخلق به الله ما يَسّره له، لكن بعض الجماعات أو الامم - نتيجة التفاصل والتباعد الذى حدث بينها وبين الكون، بين السماء والارض، بين الانسان والحياة- فصلت التنجيم عن الكل (الذى هو على نحو ما ذات الله)، ونظرت اليه فى ذاته، ورأوا فى النجوم والكواكب سادة أو أرباباً، لقيام التبادل بين لفظ السيد ولفظ الرب، ولإمكان التعبير باحدهما عن الآخر فى بعض اللغات ومنها العربية، فيقال رب العمل ورب الدار، كما يقال عن الله رب العالمين. لكن لفظ الرب تحول الى مفهوم الاله فى بعض اللغات التى يوجد فيها لفظ واحد للرب والاله، كما فى الانجليزيه لفظ (God) وفى التوراة ورد تعبير "اله الآلهة" كثيراً. ومتى نظر الناس الى الكواكب والنجوم على انها آلهة، وحسبوا منها عدد السنين والأيام، والمواسم والاعياد، والسعود والنحوس، والحظوظ والكوارث، متى حدث ذلك، اتجهوا الى هذه الكواكب والنجوم بالتقدير الذى تمازجه الرغبة والامل، وكالعادة - مع الجهل- يتحول التقدير الى تقديس ثم يصير التقديس عبادة. وساعد على ذلك ان بعض المترجمين، ان لم يكن اكثرهم، لم يميزوا فى الترجمة بين الرب أو السيد وهو في المصرية القديمة (neter) وفى الانجليزية (God) وبين الاله او الله. وقد كان المصريون القدماء يؤكدون ذاته فى الكتابة، اذ يرمزون لهذا الاله بسبعة عشر علما أو يكتبون الى جواره لفظ (Neter) الذى خلق كل شىء، ويكون الله بذلك غير الأرباب أو السادة.
وأكبر وأهم وأظهر بيان لنقلة الكواكب الى حيث تعتبرآلهة، هو ما حدث فى بلاد الأغريق ثم فى روما (قبل المسيحية) فقد كان المشترى وهو (Jupiter) يعد كبير الالهة، وكانت الزهره (venus) تعد الهة الحب، وعطارد (mercury ) آله الحساب والحكمة، والمريخ (mars) اله الحرب والقتال، وزحل (Saturn) اله النحوس والحواجز والأحكام الصارمة.
4- من بين كل النظريات الفزيائية تخيرت الدراسة نظرية "الكمّ المكانيكية " (Quantum Mechanical Theory) لتدلل بها على صلة الجزء بالكل، واوجه المشابهة بينهما.
ونظرية الكم الميكانيكية من اصعب النظريات استيعاًبا على العاملين فى مجال الفيزيقيا، دارسين أو مدرسين سواء بسواء، لكن الدراسة سوف تشيح عن المفاهيم النظرية الفزيائية، لتتجه الى النتيجة البسيطة التى يُعنى بها المثقف العادى.
فلقد كان الظن من قبل أن الذرة (Atom ) هى اصغر عناصر الكون المادى }والذرة غير الفتات morsel, crumb الذى قد يعبر عنه باسم الذرة، تعبيرا أدبيا لكنه ليس تعبيرا علميا{. ومن تعاظم الاجهزة المعملية، ودقتها، فانها أصبحت تقدّم مالا يراه الانسان، ولكنه يدركه من الآلة بعقله الذى تجاوز المادة وتعدى قيودها. فلقد انتهت البحوث الى ان الذرة تتحلل الى جزئيات (particles) هى بحسب موقف الناظر اليها، قد تكون موادا وقد تكون اشعة. وهى فى حركتها تتسم بالحرية والذاتية والشعورية والاختيارية، وتتصرف كما لو انها تتجاوب مع كل أكبر من مجالها، ولا تقف عند حدود هذا المجال. ومن لبِنَة الكون الأساسية يمكن استجلاء حقيقة الكون.
وكما ان العقل الحيوى يتجاوز النطاقات والمجالات المادية ليتصرف مع كل اكبر، وان لم تتحدد له، فان الجزئيات (وهى الصورة الحيوية للمادة) تتصرف على نفس النحو. فكانما الكون كله وحدة واحدة (خلافا لنظرية وحدة الكون أو الاتحاد بين الله والمخلوق، لأن هذه وتلك انما يقومان على أساس مادى، يفاصل بين المخلوق والخالق، فينبني على محض صيغ كلامية) هذا الكون وكل ذات فيه - على ما بدا من الجزئيات - يتمتع أصلا بالذاتية والحرية والشعورية والاختيارية. لكن الفرد فى حقيقته لا يعرف ذلك ولا يفهمه، لأنه يتصور الحرية مطلقة، والذاتية شرودا، والشعورية عدم عقلانية، والاختيارية إما أن تكون مطلقة واما ان تكون معدومة. والحقيقة انه لا توجد حرية او اختيارية مطلقة، لكنها لابد ان تكون محدودة مقيدة، وتتزايد الحدود وتتكاثر القيود كلما كان الشخص محصورا فى عقله المادى، محشورا فى حواسه وحدها.
وكلما زادت المعرفة المقدسة وكلما تعمق الايمان الواعى كلما ادرك الانسان وضعه فى الكون، وأنه محدد بالمسارات الأخرى مقيد بالاتجاهات الكونية، وانه هو والكون المادى - من جانب- يكون مجرد مواد، لكنه - من جانب آخر- يكون أشعة متدفقة، شأنه والكون شأن باقى الأشعة الكونية.
5- قال الشاعر ايو العلاء المعرى:
وتزعم انك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
وليس اصدق من هذا المعنى، ولا ادق منه، ولا اصح فى بيانه، من أى وصف آخر عن حقيقة الانسان والكون.
فالانسان جِرم (جسم كونى) صغير، لكنه يطوى فى ذاته صميم الكون وشرارته المقدسة، والتى هى (بلفظ الفلسفة: بالقوة) تحمل بذار الكون كله ونبات كل ما كان وكل مايكون وكل ما سوف يكون.
لكن المادة التى قد تقبض على الذات الانسانية وتكبت فيها دفعته الروحية، ثنائًية الطابع ازدواجية الواقع، لها جانبان او مظهران او طبيعتان، تتوزع بينهما حقيقة الانسان: سلباً وايجاباً، ذكراً وانثى، حياةً وموتاً، نوراً وظلاماً. ومن نتائج المعرفة المقدسة أن توطد فى الانسان اتجاها لتوحيد ذاته، وتعضد فيه انتماء الى الواحدية، التى لا يمكن ان يكون ايمان صحيح بغيرها، ولا يستطيع انسان ان يصل الى واحدية الاله مالم يصل الى واحديته هو. والاتجاه التوحيدى للذات الانسانية لابد ان يسير به بوعى واقتدار نحو التوحيد بين العقل والقلب، بين الايجاب والسلب، بين الروح ومظهرها الجثمانى، بين ما هو جوانى وما هو برانى، هذا مع التوازن والتوافق بين قوى الذكورة وقوى الانوثة.
بهذا تبدأ الانسانية الجديدة، فتتضامم في ذواتها، وتتضامم في أبعاضها، ويتماهى الواحد في الكل، ويتناهي الكل الى الواحد، حيث يكون كل انسان: روحه شرارة الحياة، وكيانه معبد المعرفة، وبذا تقوم الانسانية الجديدة على فهم واعٍ بأن الحياة جمع متكامل، ويكون فيها الكل فى واحد، والواحد فى الكل (all in one and one in all).