هل هي حقًّا محاكمة للتّراث الفلسطيني؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وصلني بالإيميل بيان للتّوقيع عليه. والبيان موجّه إلى رئيس السلطة الفلسطينية وأعضاء المجلس التّشريعي استنكارًا لحظر وسحب كتاب الأستاذين شريف كناعنة وإبراهيم مهوي بعنوان "قول يا طير" الّذي يعرض ويبحث في حكايات من التّراث الشّعبي الفلسطيني. وقد جاء الحظر بقرار من وزارة التّربية الفلسطينيّة، وبذريعة "وجود ألفاظ تخدش الحياء"، كما ذُكر. لقد حمل البيان العنوان "من أجل وقف الاعتداء على التّراث". كما ذكرت الصحف أنّ المثقّفين في رام الله يعدّون "لمسيرات واعتصامات في الايام المقبلة احتجاجًا على قرار سحب الكتاب وإتلافه".
ربّما سيسارع إلى التّوقيع على البيان كلّ من هبّ ودبّ، ممّن يحشرون أنفسهم صباح مساء في صفوف الثقافة، لكي يريحوا ضمائرهم الّتي استترت طويلاً حين كان ثمّ حاجة إلى الكلام. جميل جدًّا أن يسارع المثقّفون إلى الاحتجاج وإلى الإعداد لمسيرات واعتصامات. لكنّنا لم نسمع باحتجاجات ومسيرات هؤلاء "المثقّفين" عندما سحبت سلطة عرفات الفاسدة بعض مؤلّفات إدوارد سعيد من المكتبات، لا لسبب سوى أنّه كان من أشدّ منتقدي الفساد السّلطوي الفلسطيني.
***
أمّا أنا فلن أوقّع على البيان، لما أنا ذاكره لكم في هذا التّبيان القصير. ودعوني أوّلاً أعرض عليكم بعضًا ممّا ورد في البيان من تلفيق مُختبئ في لغة التّزويق الكلامي. إذ يذكر البيان، بين ما يذكره، أنّ: "الكتاب الذي تعرضت نسخه للحرق هو كتاب أكاديمي علمي يُعدّ من أمهات كُتب التراث الشعبي...وقد دفعت أهم دور النشر العالمية التابعة لجامعة بيركلي لإصداره وتوزيعه...ويُستخدم الكتاب لتدريس مساقات على مستوى الماجستير والدكتوراة في جامعة هارفارد العريقة". فإذا كان الكتاب، أيّها السّادة الكرام، كتابًا أكاديميًّا علميًّا يُستخدَم لتدريس مساقات على مستوى الماجستير والدّكتوراة، كما تذكرون في البيان، فهذا يعني أنّه لا يصلح للتّدريس في المدارس الابتدائيّة، إذ أنّ مستويات التّدريس الجامعي كما هو معلوم تختلف عن مستويات التّدريس في المرحلة الابتدائيّة. أمّا احتياج محرّري البيان إلى شحنه بشهادة أميركيّة للتّدليل على أهميّة الكتاب، فإنّما يدلّ على عقدة النّقص الّتي يُعاني منها محرّرو هذا البيان مقابل كلّ ما هو غربيّ أو أميركي، وهذا ليس من شأننا، إنّما هو من شأن ذوي الاختصاص النّفسي.
***
ثمّ يتساءل البيان على لسان محرّريه الّذين يرغبون بلا شكّ في أن يكونوا في عداد المثقّفين: "من الذي يمتلك حق محاكمة هذا الارث الإنساني؟ من يجرؤ على إخضاع التراث للتنقية أو التنظيف"؟ وحول هذه التّساؤلات في البيان، لا يسعنا سوى القول بأنّني أرى أنّ النّظرة إلى التّراث يجب أن تكون على العكس تمامًا ممّا يذهب إليه هؤلاء. فمن واجب كلّ من يمتلك ذرّة من عقل أن يسائل وأن يحاكم كلّ ما يحمله لنا التّراث من حكايات ومن روايات منقولة. فإذا لم نقم نحن بمحاكمة هذا التّراث وتنقيته وتنظيفه، فمعنى ذلك أنّنا نحن الّذين سنظلّ محكومين له، مكبّلين بأغلاله إلى يوم يبعثون. فيا أيّها السّادة الكرام! لا يوجد موضوعيّة في الحياة البشريّة، بل على العكس من ذلك، إنّ حياتنا على هذه الأرض هي حياة ذاتيّة، ومن هنا فإنّ تصوّرنا لما يجري من حولنا لا يمكن أن يكون خارج حدود هذه الذّاتيّة. لا أحد يريد إلغاء أو شطب التّراث، ولكن من جهة أخرى، من واجبنا مساءلة هذا التّراث ومحاكمته مساءلةً ومحاكمةً عصريّتين ومنفتحتين لا مراء فيهما.
***
ثمّ يمضي البيان فيقول: "وزارة التربية والتعليم أخذت على عاتقها محاكمة التراث والحضارة بمسوّغ خدش الحياء الذي يبعث على رثاء المستوى الثقافي لمؤسسة تربوية عريقة". أمّا كيف تحوّلت وزارة تربية فلسطينيّة وليدة وجديدة إلى مؤسّسة عريقة، فهذا علمه عند محرّري البيان، إذ أنّنا نفهم معنى العراقة بصورة أخرى. كما يجب أن يكون معلومًا لدى محرّري البيان، إنّه من حقّ وزارة التّربية، بل من واجبها النّظر في مناهج التّعليم الرّسميّة لهذه الأجيال النّاشئة. بل نقول أبعد من ذلك، إنّ مسؤوليّة وضع مناهج التّعليم يجب أن تكون ملقاة على عاتقها من خلال تشكيل طاقم مهنيّ أكاديمي وتربوي لا يخضع لنزوات الأحزاب السّياسيّة على اختلاف مشاربها، أيًّا كانت هذه المشارب. كما أنّ هذه المناهج يجب أن تكون عرضة للنّقد والمساءلة على المستوى الشّعبي.
***
وللأمانة الأخلاقيّة أقول إنّني لم أطّلع بعدُ على الكتاب حتّى الآن، ولكنّني أستطيع أن أجزم أنّه لا يمكن أن يكون محتويًا على تعابير "تخدش الحياء"، أو محتويًا على بذاءات جنسيّة مثلما أشيع في الصّحافة، إذ ليست هذه طبيعة الحكايات الشّعبيّة في ثقافات الشّعوب. فقد ترعرعنا جميعنا على هذه الحكايات وشببنا عليها. وإذا كان ثمّ إيحاءات جنسيّة في الحكايات، فهذه هي وسيلة شعبيّة تُستخدم في ثقافات الشّعوب بعامّة هي أشبه بما يُطلق عليه علماء التّربية المعاصرون "التّربية الجنسيّة" في مناهج التّعليم المعاصرة.
***
أمّا وقد تطرّقنا إلى "البذاءات الجنسيّة"، أو التّعابير الّتي "تخدش الحياء"، مثلما ذكر البيان وذكرت الأخبار، فلا بأس من فتح باب النّقاش على مصراعيه مع هؤلاء الإسلامويّين الجدد الّذين وضعوا أنفسهم رقباء على الأخلاق. فإذا كنّا نتحدّث عن مصطلح "الحياء"، فماذا بشأن البذاءات العنصريّة العروبيّة والإسلامويّة ضدّ من يُطلقون عليهم مصطلح "الكفّار"، أو "المغضوب عليهم والضّالّين"، إلى آخر ما يملونه من ثقافة الكراهية للآخر على الأجيال العربيّة الشّابّة؟ وماذا بشأن "الحياء" في نصوص وفي تربية عنصريّة من هذا النّوع؟ أم أنّه، فيما يخصّ هذه الأمور، لا "حياء" لمن تنادي؟
أتريدون مثالاً آخر على البذاءات العنصريّة التّراثيّة الّتي ترعرعنا عليها جميعنا في المدارس؟ لا بأس. ما من شكّ في أنّ جميع العربان يتغنّون بـ "لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصا مَعَهُ - إنّ العَبيدَ لأَنْجاسٌ مَناكيدُ"، كما نضحت به قريحة شاعرنا، ورمز عروبتنا البليدة. أليس في هذا القول ما يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى المجازر بحقّ بني البشر في دارفور، لا لشيء سوى لأنّ بشرة هؤلاء المساكين من أهل دارفور هي أغمق لونًا من بشرة العربان؟
لذلك، يجب التّصريح وعلى مسمع من الجميع، بأنّ من واجب كلّ من يمتلك ذرّة من عقل أن يسائل وأن يُحاكم كلّ هذا التّراث المنقول إلينا. فالتّراث جميعه مخلوقٌ، وهو من صنع بني البشر. ولذلك، يجب أن تتمّ مساءلة كلّ النّصوص دون استثناء.
والعقل وليّ التّوفيق.