كتَّاب إيلاف

صنمية الصورة في الفضائيات العربية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"لاشك أن عصرنا يفضل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود...وماهو مقدس بالنسبة إليه ليس سوى الوهم أما ماهو مدنس فهو الحقيقة." فيورباخ

التطرق إلى مسألة الصورة في الحياة اليومية هو موضوع مثير ومشوق مثل إثارة وتشويق الصور المرسلة من قبل الفضائيات المرئية، والإثارة ليست فقط جسدية بل فكرية والتشويق ليس فقط عاطفيا بل وأيضا روحيا، فنحن نعلم أنه خلال عشر سنوات الأخيرة شهد المشهد الإعلامي العربي ثورة كبيرة في مستوى عدد القنوات التلفزية الخاصة وكمية البرامج الترفيهية والتثقيفية المعروضة فيها وكذلك تنامى حجم الاستثمار المدفوع عليها وهذا كله كان على حساب القنوات الإعلامية الرسمية وأدى إلى كسر الاحتكار المضروب على حرية التعبير من طرف الأنظمة السياسية مما أشاع جو من السهولة في نقل المعلومة واليسر في التواصل بين كافة أرجاء الوطن العربي على نحو غير مسبوق بحيث صارت الحقيقة أمرا يصعب إخفائه على أحد وصار الحدث التاريخي الراهن معروضا على طاولة الشاشات للتحليل والتشريح، وفي كل هذا لعبت الصورة دورا مركزيا، فهي العين الثالثة القادرة على الالتقاط والتصوير من قلب الأحداث والنقل على الهواء ومباشرة ولكن ورغم كل هذا المنظر الجميل يبرز إشكال حول مهمة الفضائيات العربية ومصدر تمويلها ومن يتحكم فيها ويكتشف الفكر الحاذق التباسا حول حقيقة الصورة التي ترسلها إلى العالم وتبثها للمشاهدين وسبب الالتباس هو مضمون المادة المعروضة والأهداف المضمرة والغايات المخفية من هذه الصور، فهل جعلت كما أريد لها المشرفين عليها والمبرمجين أم أنها حققت غايات غير منتظرة وأثرت في أفعال الناس بطريقة غير متوقعة وغير محتسبة؟ ولكن بادئ ذو بدء ماهي الرسالة الخاصة بالفضائيات العربية؟ أو لنقل هل كانت لها رسالة محددة عندما وقع إنشاؤها أم أنها نشأت لسد الفراغ وتحقيق الحاجة دون تنظير وتأطير؟ ثم أليست الصور التي تعرضها على النظارة هي بمثابة رؤى للتواجد في العالم ؟ ألا يتراوح وجود هذه الصور نفسها بين التقليد والتجديد وبين الاستنساخ والمحاكاة من جهة والابتكار والإنشاء من جهة أخرى؟ كيف ينبغي أن ينظر إلى الصورة؟ هل هي فرصة للانتشاء بالجمال والتمتع بالحياة والإحساس بالسعادة أم أنها تصدير للموت وتكريس للعجز والانحطاط وتصدير للأوهام والسموم؟ هل نذمها أم نمدحها ؟ ماهي تأثيراتها على الحياة اليومية؟ وكيف نحد من مخاطرها إن كانت لها تأثيرات سلبية وكنا لا نقدر على الاستغناء عنها؟
ينبغي تفادي النظر إلى الصور بعيون باهتة محملقة متقبلة والعمل على التسلح بالنظارة النقدية التي تتمثل مهمتها في الفرز والتقويم والتشخيص حتى يتسنى لنا التمييز بين الأباطيل والحقائق وبين العلمي والإيديولوجي وبين الذاتي والموضوعي

1- سطوة الصورة :
"إن الرقمية هي المبدأ الميتافيزيقي الآن..." (بودريار)

الإنسان مخلوق الطبيعة الثائر وهي في تقدم مستمر وهذا التقدم شمل المجال الذي من خلاله يظهر للآخر ويتواصل معه وهذا المجال هو مجال الأدوات والسبل التي يستعملها لإدراك الكون والتعبير عن هذا الإدراك ورغم أنه خلق هلوعا جزوعا وأبدى انزعاجه وحيرته أمام غموض الطبيعة ولا تناهي الكوسموس وعبر عن ذلك حكماء الإغريق بقولهم:"إن الوجود غير موجود وان وجد لا يمكننا إدراكه وان أدركناه لا يمكننا التعبير عنه" إلا أنه تجاوز هذه الحيرة و فك عقدة الارتياب بتبني بعض الرؤى العفوية للعالم مثل الأسطورة والسحر والدين التي أعطته تمثل موحد للكون جعله ينتصر للثقافي المكتسب ضد الطبيعي الموروث وليبدأ رحلة الحضارة ويكتب مسيرة التنوير يتعرف عبرها عن كل ما يحيط به أولا وعن كل ما يوجد في قرارة نفسه ثانيا. ولم يتميز الانتقال إلى الحداثة باستبدال صورة العالم القديمة بصورة حديثة فقط بل بتحويل العالم نفسه إلى صورة منظمة ناتجة عن القدرة التمثيلية الخاصة بالذات.
اللافت للنظر أن هذه القصة الحضارية عرفت ثلاث فصول كبرى:الأولى هي فصل القراءة وعرفت بالبداوة والمشاعة حيث كان إنسان يعتمد على الملفوظ الحي المباشر وكانت اللغة هنا قريبة من الحركات الطبيعة وأصوات الحيوانات ووقع الاعتماد على الذاكرة والخيال التكراري وقوة الحفظ ، والفصل الثاني سمي بمرحلة التدوين وهي مرحلة الانتقال من القراءة إلى الكتابة حيث اكتشفت آلة الطباعة وصارت الأفكار تحفظ في برديات ومصاحف وكتب، أما الفصل الثالث سمي بمرحلة المشاهدة وهنا ظهرت التلفزة والسينما والقنوات الفضائية التي تضخ كم هائل من الرموز والصور والمشاهد وتفجرت الثورة الرقمية باختراع الأنترنت بحيث صار العالم قرية صغيرة يمكن الاطلاع على ما يحدث فيها في بضع دقائق وصار بالإمكان التحكم والتوقع والتعرف على ما وقع في الماضي البعيد دون مشقة تذكر.
ما نلاحظه أن ارتقاء الإنسان كان من القول الشفوي إلى النص المكتوب ومن النص المكتوب إلى الصورة المرئية وبالتالي تم التحول من استعمال الفم واللسان والأذن إلى استعمال اليد والذهن وإلى التركيز على العين والخيال وصار الإنسان في كل هذا مجرد ذات تقتصر مهمتها على البرمجة والملاحظة والقياس. في هذا السياق"يقسم دوبريه تاريخ النظرة في الغرب إلى ثلاث مراحل ترتبط كل مرحلة منها باختراع محدد:الأولى بالكتابة، الثانية بالطباعة، والأخيرة بالتقنيات السمعية البصرية، وهو يسمى هذه المراحل تباعا:
1- مرحلة اللوجوسفير أو الخطاب أو الأصنام أو المنتجات الخاصة بعالم الرسم والصورة وتمتد من اختراع الكتابة حتى ظهور الطباعة.
2- مرحلة الجرافوسفير أو الكتابة:ويربطها الكاتب بمرحلة الفن منذ نشأة الطباعة حتى ظهور التلفزيون الملون الذي يراه أكثر دلالة من الصورة الفوتوغرافية والسينما.
3- مرحلة الفيديوسفير أو عصر المرئيات أو عصر الشاشة الذي نعيش فيه الآن." [1]
يلزم عن ذلك أن الصورة هي رسالة بين باث ومتقبل وهذه الرسالة ذات مضمون وهذا المضمون يمكن أن يكون مشفرا وينبغي على القارئ أن يحل ألغازه وإما أن يكون واضحا ومنقولا من الواقع وما على المشاهد إلا استهلاكه وتقبله والاستئناس به والتعامل معه كأمر عادي وإذا كانت الصورة المشفرة لا تثير إشكال فأن الصورة المستنسخة من الواقع يمكن أن تؤدي إلى الإهلاك خاصة حينما يتعلق الأمر بصور الحروب والدماء أو الصور المائعة والماجنة التي تتصادم مع الحياء وهي كلها صور عنيفة تمارس عنف رمزي كبير على النظارة. لذلك يمكن أن نميز بين الصورة المحسوسة المرئية والمسموعة والصورة المتخيلة والصورة المتذكرة والصورة المتوهة والصورة المتفكرة وهذه العناصر هي مكونات عالم الرؤية لأن الصور أصبحت هي وسيلتنا في معرفة العالم ولأن كل أنواع الاتصال أصبحت تحدث عن طريق الصور، فماذا نتج عن ظهور الفضائيات واستخدامها المبرمج لسلاح الصور في التأثير على المشاهدين؟

2- دور الفضائيات:
"إن كثيرا مما تقدمه القنوات الفضائية العربية الغنائية أشبه بالمحاكاة السطحية لقنوات عالمية...يعتمد على الإبهار البصري على رغم فجاجة الكلمات وسطحيتها." [2]
إن الدور المتنامي للفضائيات في الساحة العربية هو في الحقيقة جاء ليلبي أفق انتظار يخص المجتمعات الفتية وبالخصوص الطبقات الناشئة الكثيرة العدد خاصة في ظل الانفجار الديمغرافي المشهود وتراجع دور المؤسسة التربوية وتفشي الأمية وتغييب النخب المثقفة من الحراك الاجتماعي وقد أصبح بالنسبة لأي عربي أن يطلع ويتفرج وينمي معارفه ويشاهد مقالات الصحف وآخر الأخبار الثقافية وما تعرضه دور المسرح والسينما بمجرد أن يشتري لاقط هوائي وأن يضغط على زر من الأزرار التابعة لتلفزته فيتجول في العالم بأسره ويقابل العديد من المفكرين دون أن يبذل أي جهد ودون أن يلاقيهم في الواقع، ثم إن هذه الفضائيات تتدخل في أدق تفاصيل حياته وتحدد له أكله وملبسه وشكل بيته ولون سيارته ونوع شريك حياته وتكون سبب بهجته ومسرته ونجاحه وسبب فشله وبؤسه.
انه لأمر محير فعلا أن نحكم على أي قناة فضائية بمثل هذا المعيار المزدوج وأن نظل في حالة من الاندهاش والذهول أمام هذا الكم الهائل من الصور والرموز التي يتم ضخها وإرسالها يوميا دون أن يكون لنا الوقت الكافي لفرزها وانتقائها ومن ثمة الحكم عليها، إن أشد أنواع الفكر تصميما ليبقى حصيرا فمابلك بالفكر الضعيف لدى عامة الناس المتأثر المنبهر على الدوام، ألا ترى أنه يساق إلى حيث لا يدري ؟ وألا تؤثر فيه هذه الصور كما لم يؤثر فيه أي أحد من قبل؟
لاشك أن فريق أول يرى في الفضائيات العربية مصدر انتشار النزعة الإيمانية نظرا لتكاثر البرامج الدينية فيها وظهور نمط من الدعاة والوعاظ الجدد الذين تخلوا عن العمامة وعن اللغة العربية الفصحى وعوضوها بالبدلة واللهجة الدارجة وأن فريق ثان يرى أن القنوات الغنائية وتلفزات الواقع هي سبب موجة التفسخ الأخلاقي وتكاثر موجة التقليد للغرب بسبب مسابقات ستار أكاديمي التي تحث على الاختلاط وتشجع على الموضة والاستهلاك والاعتناء بجمال الجسد والطبخ والرياضة.
فكيف تكون الصورة هي هذا الرقم السري الذي إما أن يؤدي إلى الإيمان والالتزام أو يؤدي إلى المجون والتفسخ؟ وهل من المشروع أن نتحدث عن صنمية الصورة بوصفها صورة سلفية؟

تنقسم الفضائيات إلى ثلاث أنماط:
* فضائيات تركز على إرضاء القلب وطمأنة الوجدان وهي الفضائيات الدينية وهي كثيرة ومعظم تمويلها متأتي من الأنظمة التقليدية التي تحصر الثقافة في إعادة إنتاج الرموز الروحية المتوارثة (إقرأ/الكوثر).
* فضائيات تركز على تهييج الغرائز وإثارة المشاعر وهي الفضائيات الغنائية وهي كثيرة ومعظم تمويلها متأتي من القطاع الخاص ومن الأنظمة التحديثية التي تتبني سياسة خارجية هادئة و تحصر الثقافة في مهادنة الدول الكبرى وإعادة إنتاج ثقافتها الغربية المهيمنة(روتانا/دريم).
* فضائيات تركز على تنمية الوعي وتهذيب الذوق وهي الفضائيات النقدية وهي قليلة العدد إن لم نقل نادرة وقد يقتصر بثها في بعض الأحيان لمدة قصيرة وهي من تمويل خاص وبمجهودات فردية وتحاول كسر المحظور وتجاوز الموجود بتعرية الواقع وكشف أوضاعه المأساوية وبناء المنشود(الجزيرة/المنار).

3 - في مخاطر الصورة:
"إن الصور هي قاتلة للواقع"' بودريار
صارت الصورة المرئية التي تضع الحواس خلف العين هي لغة التواصل بين الذوات وحلت محل لغة العلامات والرموز وصار العقل التلفزي-التكنولوجي (كما يسميه دريدا) هو الوسيط الضروري الذي من خلاله يقيم المرء علاقاته مع نفسه ومع الآخر ومع العالم وحل محل العقل النظري والعقل العملي وملكة الذوق، كما صار المشهد المبرمج سلفا هو الذي يحدد نمط حياة الناس وتوجهاتهم واهتماماتهم وخثر كل إمكانية وعي وسطح كل مبادرة وشل كل إرادة وعطل كل حرية اختيار.
لقد تحدث البعض عن صنمية الصورة لكونها تمارس لعبة الإغواء والعنف والترهيب والترغيب ولأنها اخترقت الحياة الإنسانية بشكل لا يمكن إيقافه، فجعلت عالم السلع والأزياء والعلامات والملتيميديا يتحكم في عالم الثقافة والاقتصاد والسياسة.أليست الصورة هي البضاعة والتسويق والاستهلاك والمجتمع ذو البعد الواحد والتنميط المهيمن على كل شيء في المجتمع؟ ألم ينتج الإنسان هذه الأشياء وهاهو خاضع الآن لسلطتها وأصبح هو نفسه شيئا أو شبيها بالسلع والعلامات والصور التي أنتجها؟
لقد أوقعت الصورة الإنسان في الاغتراب عندما أصبح مجرد آلة راغبة تسيطر الدعاية والومضات الاشهارية على إدراكه وتفكيره وسلوكه ولقد كرست الصورة الوعي الزائف بالزمن وحولت البشر إلى سيملاكر ومسوخ ومستهلكي أوهام وقصرت اللذة على المتع البصرية الخاصة بالعيون حيث سيطرت قيم السوق والابتذال على المشهد أين يقع استبدال العالم الواقعي بعالم افتراضي غير واقعي.
إن الصورة المتأتية من الفضائيات تتلاعب بالعقول وتقتل الأحاسيس الصادقة وتميع الثقافة وتجعل كل شيء معروض للبيع والاستهلاك وتجفف كل منابع التلقائية والعفوية وتحرم المرء من الإبداع وتخدره وتفصله عن العالم الحقيقي بحيث لم يعد يعرف الواقع إلا من خلال صورة شبحية باهتة تبقيه في حالة تنويم وتسقطه في النظرة المخدوعة وتوهمه أن حاسة الإبصار هي الحاسة الأولى وأن الملكات الأخرى لم يعد لها محل من الإعراب. كما تمارس الصورة هيمنة على المتلقي المنبهر وتمثل سلطة على المشاهد المستهلك السلبي لأن العلاقات الاجتماعية تتم من خلال الصور وصلة الحشد بنفسه تمر عبر نمط الإنتاج والعرض والطلب بالنسبة للسلع والماركات والعلامات التي يتبادلها ويهيم بها ويجد فيها سعادته. أليست الصورة هي النظرة المراقبة المتحكمة؟ وأليست هي السلسلة المقيدة التي تنوم العقل وتقيد السلوك؟ وألا تمتلك النظرة المحدقة قوة مؤثرة في صورة الذات الخاصة بنفسها؟
ما يلفت النظر أن مجتمعنا المعاصر ليس مجتمع المشهد والاستعراض والاستهلاك بل مجتمع المراقبة والضبط والتوجيه ، فلقد حولت فكرة العين المطلقة والنظرة المحدقة الحياة إلى جحيم والجسد إلى جثة وأدخلت الأرواح في توابيت معدة للدفن. لقد برزت الرؤية اليوم محاطة بنزعات ضارة ومؤذية وتسلطية وان أكبر فاشية تمارس على الذات هي فاشية نظرة العين التي تنزل بها كل أنواع العقاب وتحطها إلى مرتبة الموضوع وان الصورة المعروضة للعموم من حيث قابليتها للمشاهدة من الجميع هي التي تتحمل مسؤولية ذلك. إن الناس ليسوا متساوين إلا في تفرجهم على أنفسهم في نفس البرامج ونفس صور الموت والبؤس والخراب التي ترسلها الفضائيات وإنهم قد يجدون في هذه المساواة الفارغة فرصة للعزاء والتعويض يبررون بها تفريطهم في المساواة الحقيقية. علاوة على أن الصورة تغذي لدى الإنسان مشاعر عدوانية وتثير فيه انفعالات نرجسية تقوده إلى الانتفاخ الذاتي والإصابة بمرض جنون العظمة خاصة حينما يتباعد المرء عن صورته الحقيقية ويحيل ذاته إلى أنا متخيل متوهم ينتقيه من صور النجوم والأبطال المعروضة في المرئيات، بحيث تجعله الصورة يتوقف عن الاعتقاد في هذا العالم بل ويعتبر الأحداث التي تقع له مثل الحب والموت وكأنها أشياء لا تعنيه. لكن عندما تجسد الصورة استعراضا بالغا للقوة ومشهدا مثيرا من العري والرعب فإن الذي يحدث داخل العالم هو فقدان الأشياء شيئيتها والذوات هويتها و تصل سيطرة الرموز على الأضواء إلى حد التلاعب بقيم الحياة والموت وان الوجود الإنساني هو وحده الذي يضيع، فكيف نعيد للصورة قدرتها على الكشف والتوضيح؟ كيف نعطيها تلك القوة على وضع الحقيقة في دائرة الضوء لتجعل المشاهد يرى المطلق مجسما في المرئي نفسه؟نا متخيل متوهمأنا متخيل مث

4 - في الانتفاع بالصورة
"إن التفكير مستحيل دون صور" أرسطو
من البين أن التفكير الفلسفي لن يدافع عن حق الفضائيات في المواطنة الإعلامية ولن يتحدث عن أهلية الصور في أن تكون موضوع مشاهدة ، فهذا الأمر قد تم واستقر ولا مرد له طالما أن معركة تحريم الصور في حضارة إقرأ قد حسمت لفائدة دعاة التنوير وطالما أن هناك جماليات إسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة قد ازدهرت وطالما أن التحريم الفقهي للتصوير قد أدى إلى تأسيس الفن التشكيلي المجرد قبل سبعة قرون من الغرب باعتراف المستشرق ألكسندر دي بابولو نفسه، فالله ذاته قد خلقنا على أحسن صورة، بيد أن مهمة التفلسف تكمن في فهم واستيعاب ما تمثله الفضائيات عامة والصورة خاصة من دور ملتبس ومفارق في الحياة الإنسانية وما لها من تأثير مزدوج يجعلها في موضع الذم والمدح في الآن نفسه.
إن مشكل الصورة الأول هو مشكل العلاقة بين المادة والذاكرة على ما بين برجسن في كتابه الفكر والمتحرك عندما لم ير في فن السينما سوى وهم لفكر غير قادر على الارتباط بجوهر الحركة وعندما عرف الصورة السينماتوغرافية على أنها لقطات غير متحركة يتم تحريكها بشكل صناعي وعندما أدرك أنها مجرد فراغ معتم أو شاشة سوداء قادرة على التقاط أي بث قادم من عالم مضيء بذاته. أما المشكل الثاني الذي تثيره الصورة المرسلة من قبل الفضائيات فهو مشكل العلاقة بين الزمن والفكر وقد أثاره دولوز فيلسوف الاختلاف عندما أوضح في كتابيه "الصورة-الحركة" و"الصورة-الزمن" عن وجود عالم مرئي قائم الذات وبين أن الصور كائنة بذاتها وتؤثر في بعضها البعض. على هذا النحو ليست الصور لأحد ولا هي موجهة لأحد بل إنها قادرة على الإتيان بشيء جديد متميز ومتفرد في أي لحظة من لحظات العرض لأن الحركة فيها حركة حقيقية، "فالصورة في حالة حركة أي صورة قادرة على التحرك الذاتي، أي أنها صورة-حركة". كما أن الفضائيات العربية مثلا تخلق صورا غير مباشرة للزمن وأن الحاضر هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن تتحقق فيه هذه الصور ولكنها تفشل في الوصول إلى ذلك لأن الحاضر ما فتئ يحضر وهو الآن الذي ما انفك يعبر من الماضي إلى المستقبل وبالتالي فإن ما يهم ليس المادة المصورة بل هذه الصور المتحركة وعملية ربط الصور بعضها ببعض وتسويقها للمشاهد دون أن تترك له الزمن الكافي للفرز والتمعن والحكم والتقويم. يقول دولوز:"الصورة-الحركة تبدو في حد ذاتها حركة غريبة غير عادية والحركة غريبة لأنه على الشاشة في الواقع تظهر الأبعاد بنسب منحرفة بصورة غير عادية وعن زوايا مستحيلة". [3]
عندئذ لم تعد الصورة تعبر عن وضعية وعن موقف يبديه الإنسان بل أصبح السمع والرؤية أهم من أي عنصر حركي حسي آخر وبالتالي يقع المرء في وضع فصامي وتتفكك أية علاقة تواصل كان يقيمها مع العالم. هكذا كرست الفضائيات العربية حالة الفصام التي يشهدها الإنسان العربي المسلم في هذا العالم وأوقعته في حالة من الاغتراب الروحي وأبعدته عن الوجود في العالم بخلطها بين الأزمنة وبين الخيالي والافتراضي والواقعي، إذ هناك نوع من الفضائيات ليس له من هدف غير إعطائنا صورة لما نؤمن به، الصورة الافتراضية التي تعكسها المرآة. إن هذه الصور تدفع المرء إلى التخلي عن الإيمان بهذا العالم البشع والمظلم وتجعله في حاجة إلى الإيمان بعالم افتراضي غريب يخضع للصدفة والحظ تحيكه قوى الزيف وهو من نسج الخيال.
الحل عند دولوز هو الانتقال من الصورة الحركة إلى الصورة الزمن، فالزمن هو ما ينبغي على الصورة المرسلة من قبل الفضائيات أن تبرزه وتجعله مرئيا بشكل مباشر ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالانتقال من الصورة العضوية إلى الصورة البلورية التي تجعل ماهو غير مرئي-الزمن- مرئيا. والبديل ليس صورة الزمن الخالص بل الصورة البلورية، صورة الزمن المعيش التي تتكفل بالإجابة عن سؤال:كيف يصبح إتيان شيء جديد أمرا ممكنا؟، من هنا لابد أن تعبر الصورة البلورية عن الزمن المتسلسل الذي يأتي بالتحولات الجذرية التي من خلالها تنتقل إمكانية حياة إلى إمكانية أخرى دون واسطة حيث لا فرق بين ما يحدث قبل وما يحدث بعد. من هذا المنطلق لابد أن تتخلى الفضائيات عن النموذج العقلاني التقليدي وتعمل على خلخلة وتفكيك الصورة القديمة للفكر لكونها صورة سلفية دغمائية وتعمل على خلق صورة مبتكرة غير متصلة. يقول دولوز:"صورة الزمن المباشرة هي الشبح الذي يطارد السينما دائما لكن السينما الحديثة تحاول تحسين هذا الشبح" [4]
صفوة القول أن الصورة لا تكون نافعة إلا إذا كانت غير سلفية أي غير استنساخية وغير مقلدة سواء للماضي أو الحاضر ومرتبطة بالزمانية وأبعادها المختلفة بإحداث تكامل بين الرؤية بالعين وبقية الحواس والملكات المعرفية ونقد العقل التلفزي-التكنولوجي بالكف عن اختزال العالم في المشهد بل جعل الصورة تكون مجرد مسافة نقدية يتخذها الرائي من أجل التفطن باللامرئي في المرئي، وكذلك بصنع صورة منتجة خلاقة وليس صورة مستهلكة منمطة مخدرة، صورة تحير وتغير لا صورة تسكن وتحبس مع التمييز بين صورة تأتي من الخارج وصورة تترسخ في الداخل وفك أي ترابط وتأثير بينهما. كما أن الفضائيات العربية لها دور كبير في تربية الأجيال وتدارك الفراغ الذي تتركه نظم التربية والتعليم القاصرة وعوض أن تنشر ثقافة التغريب والتقليد وتتنافس على تنظيم مسابقات ستار أكاديمي وعروض الأزياء والموضة عليها أن تتنافس على نشر فن الالتزام والاتزان وترغب الشبيبة في فكر التنوير وتستقطبهم نحو التكاتف واليقظة والتسلح بالوعي التاريخي وتحسسهم بقيمة الوقت والمال والعمل وتلك هي رسالتها الحقيقية.
لكن ما قيمة الوعي بالصورة والصورة الواعية ورأس المال الذي يسندها ليس له وطن ويصطاد في الماء العكر؟ ماذا نقول عندما يتعامل البعض مع الفضائيات كفرصة للغفران والتوبة تارة ومصدر للربح والدعاية طورا ؟ ألا ننتقل من صنمية الصورة إلى صنمية القناة الفضائية التي تخدم رأس المال؟

المراجع:
جيل دولوز سينما1:الصورة والحركة طبعة مينوي 1983
جيل دولوز سينما2:الصورة والزمن طبعة منوي 1985
شاكر عبد الحميد عصر الصورة سلسلة عالم المعرفة الكويت عدد31 سنة2005

هوامش:

[1] شاكر عبد الحميد عصر الصورة سلسلة عالم المعرفة الكويت عدد31 سنة2005ص139
[2] شاكر عبد الحميد عصر الصورة سلسلة عالم المعرفة الكويت عدد31 سنة2005ص362
[3] جيل دولوز سينما1:الصورة والحركة طبعة مينوي 1983 ص36/37
[4] جيل دولوز سينما2:الصورة والزمن طبعة منوي 1985 ص41

كاتب فلسفي من تونس

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف