كتَّاب إيلاف

الدستور... والتجربة اليابانية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتب ديفيد هول الصحفي والاقتصادي وعضو مجلس اللوردات البريطاني، والوزير السابق لوزارة الطاقة ووزارة المواصلات في حكومة مرجريت تشر ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني، في جريدة اليابان تيمز اليومية بتاريخ السابع عشر من نوفمبر عام 2006، مقال بعنوان نصيحة قاسية من صديق، يقول فيه"المؤسسة الأمريكية يبدو أنها لم تستوعب الواقع الجديد الذي تشاهده بوضوح الشعوب الأخرى: بأن السلطة والنفوذ قد انتقلت من الجمهورية الأمريكية العظيمة، مثلما انتقلت من قبل من روما ...ومن الإمبراطورية البريطانية. ولن يستطيع الأسطول المحتوي على خمسة عشرة حاملة طائرات وحاملات الصواريخ أن تعيد نفوذه مرة أخرى، وذلك لسببين. السبب الأول هو أن عصر رقائق الميكرشبس الالكترونية قد بعثر السلطة والقوة والمعلومة إلى جم غفير من المراكز الصغيرة وفي أيد جديدة سيئة، وبطريقة لم يستطع أن يستوعبها صانع القرار الأمريكي حتى ألان. لقد أعطت الأسلحة التكنولوجية الصغيرة المتطورة، وتكنولوجية الانترنت، والتطور في الاتصالات، مجموعات صغيرة مشاغبة قوة توازي قوة الجيوش الجرارة. فالصغير أصبح مهلكا والكبير أصبح مترهلا وعرضه للهجوم. والسبب الثاني هو المشاركة الجديدة للبلايين من الرأسماليين الجدد المتحفزين والذين التحقوا باقتصاد العولمة، وجلبوا معهم كمية هائلة من القوة المالية. وبدأت تشكل قوة سياسية كالمارد الأسيوي... فقد برزت موسكو كقوة كبرى في مجال الطاقة، وتبرز الهند اليوم في مقدمة التطور التكنولوجي، وتتقدم اليابان كقوة اقتصادية عظمى، لنصل للدور الحقيقي الجديد لأمريكا اللاتينية التي ستخرج من المدار الأمريكي. ويجب أن تبدءا واشنطون بالعمل مع هذه الأمم الجديدة كند متساوي ولا أقل من ذلك، إذا أرادت الولايات المتحدة المحافظة على مصالحها. "
ويستمر ديفيد هول فيقول:" لا يسير العالم اليوم من واشنطون، ولا حتى من واشنطن وبروكسل معا. ومن الواجب أن تعكس اللغة والفصاحة والسياسة الأمريكية ومقاصدها، هذه الحقائق الجديدة. ومن الضروري أن تكسب الولايات المتحدة تعاون الدول المجاورة للعراق للانتقال لحل سلمي لهذه المعضلة، كإيران وسوريا والقوى الأسيوية الصاعدة وروسيا وبالإضافة للأمم المتحدة، ولبناء شرق أوسط جديد."
كما ناقش ديفيد هول مواضيع حساسة أخرى فقال: "و قد نحتاج لأسلوب جديد لمراقبة التطورات النووية الدولية. ومن الضروري أن نطرح السؤال التالي: هل جاء الوقت المناسب لتسهيل المشاريع النووية المدنية لا مراقبتها؟ وهل ممكن لبنك وقود نووي دولي يوفر الطاقة للدول التي في حاجة متصاعدة لها، وبالمراقبة الدولية؟ وهل ستقنع هذه الخطوة إيران للتعاون الدولي بدلا عن المحاولات السابقة التي لم تنجح؟"
لنلاحظ عزيزي القارئ أهمية ما قاله الصحفي والسياسي البريطاني ديفيد هاول لصانعي القرار العربي. فقد تغير العالم اليوم، ولم يعد حل معضلات العنف في العالم العربي بيد الدول ولا الجيوش الجرارة التي تتبعها لا الداخلية منها ولا الخارجية الغربية. كما أصبحت المجموعات الصغيرة قوية وخطيرة وقاتله، فالجيوش الكبيرة وجدت لمحاربة الجيوش الأخرى، لا محاربة مجموعات صغيرة مبعثرة هنا وهناك بين المدنين، وتمتلك المعلومة مع الأسلحة الصغيرة الالكترونية الفتاكة. ولكي نوقف الدمار والعنف المستمر، يفرض علينا واجب الحكمة والعقل أن نحول خلافاتنا من ساحات المعارك والحروب إلى قاعات البرلمانات، لنستطيع التحاور فيها والوصول للاتفاق على ما يقربنا ونحاول أن تجنب ما يبعدنا. ومن الضروري أن نتجنب في العالم العربي البرلمانات الغير منتجة، والتي قد تكون عائقا للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي.
كما تحول العالم اليوم إلى قرية صغيرة يؤثر ويتأثر من كل ما حوله. وأنهى أعلام الفضائيات والانترنت نظرية السرية فكل ما يجري في أية بقعة من بقاع الأرض يصل للجميع. وبدأت دول العالم تعي هذه الحقيقة وتدرس واقع هذه العولمة الجديدة وتحدياتها، وتعمل على وضع أنظمة وقوانين تتماشى معها. كما ارتفعت أصوات تنادي بإعطاء دور أكبر للأمم المتحدة وتقليص دور الشركات العالمية الكبيرة في تخطيط وسن قوانين مجتمع العولمة الجديد.
وبدءات تتوجه دولنا العربية وبصدق نحو الديمقراطية، ووضعت القوانين والدساتير للبدء بحوار العقل والحكمة لحل الخلافات وبناء الأوطان. وقد أكد التاريخ بأن الديمقراطية تخلق السلم وتبني الاقتصاد. فتحولت الدول الأوربية التي تحاربت ودمرت بعضها البعض ولعدة قرون، إلى تجمع اقتصادي قوي يعيش شعوبها في سلام ووئام ويتمتع برخاء اقتصادي غير مسبوق. كما شجعت دول الغرب باقي دول العالم للتوجه نحو الديمقراطية ليحل السلم والأمان، ويقل الفقر والحرمان، وتفتح أسواق جديدة لمنتجاتهم المتطورة. وبداء الغرب ينشر العولمة والتجارة الحرة العالمية، وترافق ذلك بنظم وقوانين عالمية جديدة. وأصبحت دول العالم الثالث ملزمة للمشاركة لتستطيع المنافسة في سوق العولمة الجديد. وبدأت دول جديدة تتحول للنظام الديمقراطي وتضع دساتير جديدة تتماشى مع القوانين الدولية لتنعم بالسلم والأمان ولتطور اقتصادها في عالم العولمة الجديد.
لندرس عزيزي القارئ تجربة اليابان مع الديمقراطية والدستور بعد ما حكمت قرون طويلة من قبل دكتاتورية الإقطاع والعسكر. لقد بداء عصر ميجي بوضع دستور لتحديث وتصنيع البلاد بعد أن زالت اليابان جدار العزلة وبدأت تنفتح على العالم الخارجي. وقد صدر الدستور الياباني في العصر الحديث عام 1889، وأعتمد على قوانين الملكية الدستورية مستفيد من تجربة الجمهورية البروسية. وتحولت اليابان إلى دولة صناعية من خلال تطوير التعليم والتصنيع. وأستمر العمل بدستور ميجي حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان للحلفاء. وقد فرض الحلفاء على اليابان إلغاء الدستور والعمل على وضع دستور جديد. وقد أكدت معاهدة بوستدام بأنه على ألحكومة اليابانية الجديدة أن تزيل جميع العوائق لتطوير الديمقراطية بين الشعب الياباني، والسماح بحرية التعبير والتفكير والعقيدة، بالإضافة لاحترام حقوق الإنسان، ويجب أن تترسخ هذه المفاهيم في الدستور الجديد. وأكدت قوات الحلفاء بأنها ستنسحب حينما تتحقق هذه الأهداف من خلال حكومة منتخبة ومسئولة وتمثل الشعب. وقد أكد القائد العسكري الأمريكي دوغلاس ماكأرثر بأن حكومته لن تفرض على اليابان دستورا جديدا، بل ستشجع الشعب الياباني والحكومة اليابانية لبدأ العمل على الإصلاحات الديمقراطية في البلاد.
لقد كان رئيس الوزراء شدي هارا كيجورو متردد في القيام بأي تغيرات جذرية على الدستور، وعين رئيس الدولة ماتسوموتو جوجي مع لجنة من أساتذة القانون الدستوري للعمل على صياغة دستور جديد للبلاد. فصدرت توصيات اللجنة في فبراير عام 1946، وكانت توصياتها محافظة جدا حسب رأي الحلفاء، ولم تضيف أية تغيرات جذرية على دستور ميجي. فرفضه القائد العسكري ماك أرثر وطلب من مسئوليه الأمريكيين أن يقوموا بصياغة دستور جديد تماما. وقد صاغ معظم بنود الدستور الجديد اثنان من العساكر الأميركيين يحملون شهادة في القانون وهما ميلو رويل وكورتني وتني. وقد حاول الاثنان الأخذ بعين الاعتبار دستور ميجي ورأي رجال القانون اليابانيين. وقد قدم مشروع الدستور الجديد للمسئولين اليابانيين كمفاجأة في يوم 13 فبراير 1946، مع الإنذار المبطن بمحاكمة الإمبراطور كمجرم حرب أن لم يوافق عليه.
في السادس من شهر مارس عام 1946 أعلنت الحكومة للشعب الياباني عن مشروع الدستور الجديد. وفي العاشر من شهر أبريل عام 1946 أجريت الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس النواب للبرلمان الإمبراطوري التسعين. وقد طور قانون الانتخابات ليسمح للمرأة ولأول مرة المشاركة في الانتخابات. وعرض الدستور الجديد على أساس أنه مشروع قانون لمراجعه تعديل لدستور ميجي السابق لتجنب أية مشاكل قانونية. وصدر الدستور في الثالث من شهر مايو عام 1947 بعد موافقة ثلثي أعضاء البرلمان عليه، وحصوله على الموافقة في ألاستفتاء الشعبي، وتوقيع جلالة الإمبراطور.
وقد حول الدستور الأجنبي الجديد اليابان إلى دولة تحكمها الديمقراطية اللبرالية واعتمد على النظام البريطاني لحكومة برلمانية، أي أن تختار الحكومة من أعضاء الحزب الفائز في الانتخابات وحلفائه. ووافق ماك أرثر أن يكون البرلمان بنظام المجلسين بدلا عن المجلس الواحد المقترح من الخبراء الأمريكان. والجدير بالذكر بأن النظام البريطاني، وحتى تاريخ كتابة هذا المقال ومنذ ستة مائة عام، يقسم البرلمان لمجلس العموم المنتخب ومجلس اللوردات المعين من قبل جلالة الملكة بعد التشاور مع رئيس الوزراء.
ولم يتغير أي بند من بنود الدستور منذ عام 1947 حتى الآن. ويعتبر جلالة الإمبراطور في الدستور الجديد رمز الدولة ووحدة الشعب الياباني ومن خلاله يعين رئيس الوزراء الياباني، بعد حصول أعضاء حزبه وحلفاءه على أكثر من نصف مقاعد البرلمان. كما يعين الوزراء ورئيس مجلس القضاء الأعلى، بعد المشاورة مع رئيس الوزراء. ويتكون الدستور من خمسة ألاف كلمة وبه مائة وثلاث مواد قانونية مقسمة إلى إحدى عشر بندا. ويؤكد الدستور بأن "الحكومة هي الثقة المقدسة للشعب، وسلطتها تنبع من إرادة الشعب، والسلطة تمارس من خلال ممثلي الشعب، والتي تعمل لخدمة الشعب." والمادة التاسعة هي المادة المشهوره في الدستور الجديد والتي تمنع دولة اليابان من إعلان حرب، كما تمنع اليابان من الاحتفاظ بقوة حربية جوية أو بحرية أو برية.
وتلاحظ عزيزي القارئ بأن شعب اليابان حقق معجزته الاقتصادية من خلال دستور وضعه غريم الحرب المنتصر والذي دمر البلاد بالات الحرب المختلفة. ولم يتفرق الشعب في نقاشات نظرية حول الدستور المفروض، مع أن الدستور الجديد ألغى أي دور لقيمهم وتقاليدهم المعروفة ضمن ديانة الشنتو. فمنع الدستور الدولة وإداراتها من ممارسة أو تدريس أي من موادهم الدينية في المدارس. ومع ذلك استمروا العمل جميعا أمام التحديات المتعددة: الأرض المحروقة نوويا، الكوارث الطبيعية المتكررة، عدم توفر الموارد الطبيعية، والأرض الصغيرة والتي لا يمكن الاستفادة إلا 20% منها للسكن والبناء والزراعة، بالإضافة لقيود دستور المحتل، واحتلال أربع من جزره الشمالية. فقد كانت قناعة الشعب الياباني بأن الدستور هو وسيلة للعمل والتنمية، ولكنه ليس الهدف الذي كان ممكن أن يفرقهم ويعطل مسيرة تنميتهم وتطورهم. كما عملوا ومن خلال المعوقات الدستورية لترسيخ قوميتهم اليابانية، وقيمهم المجتمعية، وأخلاقيات سلوكهم.
ومع أن الدستور يعزز أهمية الشخصية الفردية في مادته الثالثة عشر، والتي يمقتها الشعب الياباني، والذي يؤمن بالشخصية المجتمعية العاملة ضمن الفريق الواحد وبعيدة عن الأنانية الشخصية، استمروا في بناء مجتمع الفريق الواحد المتكاتف والذي ورثوه من مجتمعهم الزراعي. وحينما تطورت تكنولوجيتهم وصناعتهم أغنوها بنفس قيم وأخلاقيات المجتمع الزراعي. ومع أن الشخصية الفردية المقترحة في الدستور الجديد تشجع الأنانية وحب الغناء والبذخ، ومع ذلك أصر الشعب الياباني المحافظة على تقاليده وعمل بجد واجتهاد، وخلق دولته الغنية لا بلد الأشخاص الأغنياء، وأبتعد عن فلسفة الأنانية الشخصية وحلم الغناء الكاذب، وحافظ على تقاليده بكون القناعة كنز لا يفنى، وعمل الجميع لانجاز معجزة اليابان الاقتصادية.
وباهتمام شعب اليابان بالذكاء العاطفي، نجح أن يلجم عواطف الانتقام ضد المحتل الأجنبي ويخلق جسور عديدة مع الشعب الأمريكي. ومع الوقت تطورت هذه الجسور إلى ثقة متبادلة، واستطاعت اليابان من خلال هذه الثقة أن تتكيف مع الكثير من الثقافة والإبداع الغربي، ومع الوقت تطورت هذه الثقة واستطاعت اليابان ينقل كثير من التكنولوجية الغربية وتطويرها في اليابان. وتتملك اليابان جيش من أفضل جيوش العالم تكنولوجيا وانضباطا، وتصرف عليه أربعة وأربعين بليون دولار سنويا، وهو يعادل ما تصرفه الصين. فهل تصدق بأن درجة الثقة وصلت لحد أن تسمح الولايات المتحدة مؤخرا ببناء اليابان مفاعل نووية لتوليد الطاقة النووية في المدن الأمريكية. كما طالبت الولايات المتحدة من اليابان خلال الأزمة النووية الأخيرة مع كوريا الشمالية أن تساعدها لحماية المدن الأمريكية من التعرض لصواريخ نووية موجهه من شمال كوريا. فهل تلاحظ عزيزي القارئ كيف أستطاع شعب اليابان بالحكمة والذكاء العاطفي أن يحولوا العدو المدمر إلى صديق مصير مشترك.
والسؤال الملح عزيزي القارئ هل سنستفيد من التجربة اليابانية لنخرج مما نحن فيه من العنف والحقد والدمار؟ وهل سنتوجه لتطوير الديمقراطية في وطننا العربي من خلال تطوير اقتصادنا للقضاء على البطالة والفقر، وبناء تعليم متقدم، وخدمات مجتمعية متميزة؟ والى لقاء.

سفير مملكة البحرين باليابان
Khalil.rasromani@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف