جريمة حلبجة: قانونيا وإنسانيا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
زهير كاظم عبود: جريمة حلبجة من منظور قانوني
في كل قضية تحقيقية يتولى قضاة التحقيق مهمة التحقيق الابتدائي وجمع الأدلة وتحديد دور المتهمين ، وتعد قضية حلبجة من بين القضايا المهمة التي وقعت أحداثها في ظل سيطرة نظام صدام على العراق، وتم التستر عليها ومنع تداولها إعلاميا، ومحاولة السلطة الصدامية ألقاء المسؤولية على الجانب الإيراني.
ومن الثابت أن واقعة حلبجة حدثت في 16/ آذار - مارس من العام 1988 قبل وقف الحرب بين الجانبين العراقي والآيراني، وأنها كانت ضمن سلسلة عمليات الأنفال التي قامت بها القوات المسلحة العراقية، بأمر من صدام وعلي حسن المجيد ( الملقب بالكيمياوي ) لأبادة شعب كوردستان ( جينوسايد ) ، حيث تم قتل 182 ألف إنسان من مختلف الأجناس والأعمار، بالإضافة إلى تهديم مئات القرى وتخريب الأراضي الزراعية وتجريف البساتين ، وقد قام الطيران الحربي بإلقاء قنابل على أطراف ووسط مدينة حلبجة تبين أنها تتضمن غاز الخردل وغاز الأعصاب ( السيانيد ).
انتهى التحقيق الابتدائي في ملف قضية حلبجة، وعلى ضوء ذلك تمت إحالة القضية إلى المحكمة الجنائية العراقية العليا بعد أن استكملت الهيئة التحقيقية تدقيقاتها للأدلة التي توفرت في هذه القضية للأحالة ، وقبل عرض القضية على المحكمة الجنائية صدر حكم قضائي في هولندا على المتهم فرانس أنرات بالسجن لمدة 15 سنة المتهم بتزويد نظام صدام البائد بالمواد الكيمياوية التي سهلت ضرب مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية.
فقد حكم على رجل الاعمال الهولندي فرانس فان انرات في لاهاي بالسجن 15 عاما لتواطئه في جرائم حرب بسبب تسليمه نظام صدام حسين مواد كيميائية استخدمت خلال هجمات بالغاز على الاكراد العراقيين في الثمانينات.
لكن المحكمة رأت ان عملية ابادة وقعت فعلا ضد السكان الاكراد في العراق وخصوصا في حلبجة في آذار/مارس 1988 حيث ادت المجزرة الى سقوط خمسة آلاف قتيل في يوم واحد. وكان فان انرات ملاحقا من قبل محكمة لاهاي بموجب حكم صادر عن المحكمة العليا في هولندا يمنح المحاكم الهولندية سلطة عالمية لمحاكمة الاشخاص الذين يشتبه بتورطهم في جرائم حرب او حملات ابادة فور انتقالهم للاقامة في هولندا.
وأذا كانت المحكمة الهولندية وجدت أن الادلة التي توفرت لها في القضية أثبتت قناعتها أن المتهم الهولندي الجنسية مرتكباً لجريمة التواطؤ مع النظام الصدامي وتزويدة بالمواد الكيمياوية المحظورة التي تمت معالجتها وأستعمالها في الحرب العراقية الآيرانية، وعلى مدينة حلبجة بالذات وهي من المدن الكوردستانية المدنية التي تخلو من أي مقر أو مكان عسكري.
وسيكون لهذا الحكم أعتبارا أمام المحكمة الجنائية الثانية التي أحيلت اليها قضية حلبجة، حيث تم إحالة المتهمين المقبوض عليهم بقضية واحدة، وأن هناك قضية أخرى تم تفريقها بحق المتهمين الهاربين عن نفس القضية.
اعتمدت الأمم المتحدة في العام 1948 اتفاقية لمنع الجريمة والإبادة الجماعية وحددت العقوبة المفروضة على مرتكبيها، وقد وقعت ألاتفاقية من قبل الدول الأطراف، دخلت الاتفاقية حيز التطبيق عام 1951 ثم أنضم العراق الى الاتفاقية عام 1959، ونصت الاتفاقية على الجرائم التي تندرج تحت تسمية الإبادة الجماعية ومنها قتل أفراد مجموعة أثنية محددة أو تشريدهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والاعتداء عليهم جسدياً بقصد إهلاكهم كليا أو جزئيا، أو أخضاعهم عمدا على إتباع أحوال معيشية تؤدي الى أهلاكهم بشكل كلي أو جزئي، وفرض تدابير لمنع تناسلهم أو تكاثرهم،، كما جاء في المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين والتي عقدت سنة 1949 بمنع الهجمات العشوائية التي تنتهك حقوق المدنيين وتعرضهم الى مخاطر جسدية أو في ممتلكاتهم، كما جاء نفس الشيء في الفقرة الأولى من المادة (57) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف والمعقودة عام 1977معتبراً الأعمال العدائية العسكرية انتهاكا خطيراً لاتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين. وعرفت جريمة الإبادة الجماعية بأنها " الأفعال التي ترتكب عن قصد لتدمير كل أو جزء من جماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية" من خلال قتل أعضاء هذه الجماعات، أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضائها، أو إخضاعها عمداً لظروف معيشية يراد منها تدميرها كلياً أو جزئياً.. كما أن هذه الجريمة مشمولة بحكم نص المادة 11 أولا وثانيا من قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا، بالإضافة إلى أنها من الجرائم ضد الإنسانية المنصوص عليها في المادة 12 بفقراتها من نفس القانون.
وأذ نتمعن في العقوبة المقررة من قبل المحكمة الهولندية للمدان فرانس أنرات نستنتج أن المحكمة والقضاء الهولندي استوعبا الخطورة الإجرامية لمثل هذا الفعل الذي يؤدي بالنتيجة الى مجازر أنسانية وهلاك مجاميع بشرية بهذا السلاح الممنوع والمحرم دولياً ، فجرمت المدان على فعله، بعد ان ثبت لها استعمال السلاح الكيمياوي من قبل القوات المسلحة العراقية على مدينة حلبجة الكوردية، حيث نتج الحادث إلى قتل ما لايقل عن 5000 ألاف إنسان بالإضافة إلى أعداد الجرحى والمشوهين والمعوقين، وما ستخلفه الضربة الكيمياوية على أهل المدينة والطبيعة مستقبلا.
وبالإضافة إلى قرار الحكم الصادر من المحكمة الهولندية، فقد صرح بوضوح وصراحة المتهم نزار الخزرجي الذي كان يشغل منصب رئيس اركان الجيش العراقي آبان الحرب العراقية الآيرانية، في مقابلة بثتها قناة ( m b c ) اللبنانية عن الضربة الكيمياوية التي وجهت الى مدينة حلبجة ، أجاب الخزرجي في المقابلة المسجلة أنه أتصل به هاتفياً الفريق كامل ساجت أحد قادة الفيالق ( تم اعدامه من قبل صدام لاحقاً ) يخبره بأن طائرات تعرضت الى القوات العراقية المتجحفلة في مدينة حلبجة وماحولها من المرتفعات وتعرضت مدينة حلبجة العراقية الى ضربة بالأسلحة البايلوجية.
لم يكن الخزرجي على علم بهذه الضربة كما يزعم، فأتصل بدوره بوزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح ، حيث قال حسب زعم الخزرجي أنه لايعرف أيضاً عن هذه الضربة وسيستعلم عنها من القيادة العسكرية و سيعود ليتصل به، وفعلاً يقول الخزرجي أنه بعد ساعة ونصف أتصل به وزير الدفاع يخبره أنه علم من صدام شخصياً والذي كان حينها يشغل وظيفة القائد العام للقوات المسلحة العراقية بأن الطائرات عراقية والضربة عراقية وبأمر شخصي من صدام.
ويعزو الخزرجي أسباب الضربـة، أن المتهم علي حسن المجيد الملقب ( بالكيمياوي ) كان أميناً لسر تنظيم الشمال ومقره كركوك، استخبر من عناصره بأن مدينة حلبجة قد سقطت بأيدي القوات الآيرانية، فأتصل بصدام الذي اوعز له شخصياً بقصف المدينة بمن فيها من المدنيين بالأسلحة البايلوجية.
الشهادة التي قدمها الخزرجي بالصوت والصورة تصلح أن تكون قرينة ودليل على كذب أدعاء ومزاعم المتهم صدام في عدم معرفته بالضربة الكيمياوية للمدنيين العزل من الكرد في مدينة حلبجة ، وشهادة مثل هذه يقدمها رئيس اركان الجيش الأسبق دليل آخر يعزز ويدعم قرار الحكم على المدان الهولندي التي ثبت تعامله بالأسلحة الكيمياوية مع سلطة صدام لضرب حلبجة .
ومن يقرأ تفاصيل الضربة الكيمياوية على حلبجة، ويطالع شهادات الأحياء الناجين من تلك الضربة، ويتمعن في أسباب انتشار القوات العسكرية المسلحة خارج محيط المدينة لمنع خروج الأهالي المدنيين الفارين منها ، فقد كانت القوات الأمنية العسكرية تحيط بالمدينة وتمنع الدخول والخروج اليها قبل وبعد الضربة، بالإضافة إلى الشهادات العيانية المهمة للعديد ممن كانوا اثناء الضربة موجودين، وبالإضافة إلى التقارير الطبية الصادرة من الأطباء والمستشفيات الآيرانية أو المستشفيات الخاصة، وشهادة الخبراء في هذا المجال، مع أن تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان تشير إلى قيام سلطة صدام باستعمال السلاح الكيمياوي ( الذي يطلق عليه العتاد الخاص ) أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، حيث ورد بتقرير السيد أندرو ويتلي ( المدير التنفيذي لمنظمة مراقبة حقوق الأنسان / الشرق الأوسط أن منظمته سجلت أربعين هجمة متفرقة أستعمل فيها الاسلحة الممنوعة، وأن الضحايا في الغالب من المدنيين.
في العام 1990 كلفت وزارة الدفاع الأمريكية لجنة في الكلية الحربية العسكرية الأمريكية في كارليسيل بنسلفانيا، بدراسة موضوع ( الحرب على العراق ). تشكلت اللجنة من السادة البروفسور ستيفن بليزي والكولونيل دوكلاس. ف، وليف. آر. بروسنبيرجر ، وجميعهم من كوادر معهد الدراسات الإستراتيجية في الكلية الحربية العسكرية الأمريكية. درسوا الموضوع دراسة معمقة وقدموا تقريرا بـ ( 93) صفحة. يحتوي على معلومات مهمة ومصنفة عن القوات العراقية. نشرت جريدة نيويورك تايمز ملخصا عن التقرير بتاريخ 19/3/1990 يدين سلطة صدام لأستعماله العوامل الكيمياوية ضد المواطنين الأكراد.
كما يتوفر لدى أهالي الضحايا وبعض المصابين نسخ طبية تثبت إصابتهم بالأسلحة الكيمياوية ، كما تضمنت جلسات المحاكمة أقرارا للمتهم علي حسن المجيد المتهم الرئيسي في القضية- بأنه أعطى أوامر بتصفية كل من تجاهل أمر إخلاء بلدة حلبجة الكردية من السكان عام 1988.
وقال علي حسن المجيد ضمن أقراره أمام المحكمة فيما وصفه بشهادة أمام الله انه أصدر التعليمات باعتبار منطقة حلبجة محظورة وأمر بإعدام كل من لم يغادر هذه القرى، وإنه يتحمل وحده المسؤولية.
لاشك أن المحكمة تحكم بناء على اقتناعها الذي يتكون لديها من الأدلة المقدمة في أي دور من ادوار التحقيق اوالمحاكمة، وأن المحكمة تستند على إقرار المتهمين أو شهادة الشهود أو محاضر التحقيق والكشوفات الرسمية وتقارير الخبراء والفنيين المختصين، بالإضافة إلى القرائن والأدلة الأخرى المقررة قانونا.
قامت منظمة هيومن رايتس وتش ومنظمات عديدة أخرى تبحث في قضايا حقوق الأنسان بنشر تقاريرها في حينه للإشارة للجهة التي عمدت إلى استعمال الأسلحة الكيمياوية ضد المدن والسكان المدنيين، كما تم تسجيل أفلام وثائقية ومقابلات صوتية ومرئية بخصوص الضربات الكيماوية.
الأيجابيات في هذه المحاكمة :
ليس فقط إدانة المجرمين وتحديد الأفعال الإجرامية التي قام بها كل منهم ودوره في عمليات الإبادة الجماعية وإلحاق الأضرار الجسدية من خلال استعمال الأسلحة المحرمة دوليا، ,إنما على المحكمة أن تكشف بالدقة الدور الإجرامي لكل مدان تتم أدانته، ومدى مساهمته الإجرامية في ألاتفاق الجنائي لغرض ارتكاب الجريمة، وبالنظر لما تمثله خبرة القضاة الدوليين في مثل هذه الجرائم، وحيث أن قانون المحكمة اجاز في الفقرة خامسا من المادة الثالثة انتداب قضاة من غير العراقيين من ذوي الخبرة في مجال مثل تلك المحاكمات، والمشهود لهم بالحيادية والاستقامة والنزاهة في العمل، يقتضي الأمر الاستفادة من هذا النص باعتبار أن هناك أطرافا دولية ساهمت في ارتكاب هذه الجريمة، مما يستوجب ان يكون المجتمع الدولي ملما بتفاصيل مجريات المحاكمة، وهذا الأمر منوط باقتراح من رئيس المحكمة إلى رئيس الوزراء، كما تمثل المحكمة بما توفره من ضمانات للمتهمين من خلال النظرة المتساوية للمتهمين في حقوقهم في محاكمة علنية عادلة، وإنهم أبرياء حتى تثبت أدانتهم، ومعرفتهم بمضمون الاتهامات الموجهة إليهم بتفاصيلها وطبيعتها وسببها، وحضور المحامين في دوري التحقيق او المحاكمة، وانتداب المحامين عند عدم وجود محام للمتهم، و حقهم في ألالتزام بالصمت دون ان يفسر هذا الصمت دليلا على البراءة او الأدانة ، فانها تجسد المركز الأنساني والحضاري في سبيل أظهار الحقيقة وما سببه من تتم ادانته من جرائم ضد الإنسانية، وما تم تطبيقه بحقهم من عقوبات منصوص عليها في قانون المحكمة او قانون العقوبات وفقا لضوابط وأصول جنائية معتمدة ضمن قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي او قواعد الإجراءات وجمع الأدلة الخاصة بالمحكمة، مع توفر جميع طرق الطعن المقررة قانونا بوجود هيئة قضائية جنائية عليا لتدقيق تلك القرارات.
السلبيات:
تم تنفيذ حكم الإعدام بالمتهم الرئيسي صدام حسين في قضية جريمة الدجيل قبل أن تتم محاكمته عن هذه القضية، وقبل ان تستمع المحكمة لأقواله عنها، وبهذا فقد تم أيقاف الإجراءات القانونية بحقه وفقا للمادة 304 من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي، وفقدت المحاكمة عنصرا أساسيا ومتهما رئيسيا كان يمكن لأقراره واعترافاته أو أقواله أمامها أن يوضح أسماء المتهمين الذين تعاونوا في ارتكاب الجريمة، أو اية معلومات وأسرار يمكن ان تدفع لمعرفة الحقيقة، حيث تحدث الأعلام الغربي عن دور لبعض الدول وأسماء لبعض المسئولين الذين سوقوا وساهموا في إيصال الأسلحة المحرمة إلى صدام والتي استعملها في عدة أماكن، كما أن عددا كبيرا من المشتكين والشهود لاتتوفر لهم فرصة الحضور أمام المحكمة الجنائية لأسباب تتعلق بالوضع الأمني أو لارتباطاتهم بأعمال شخصية في دول يقيموا فيها بشكل دائم، او لظروفهم المادية أو آية ظروف أخرى، علما بأن سلطات التحقيق والمحاكمة والحكومة الجديدة لم تدرس الخطوات اللازمة لتسهيل تقدم هؤلاء شهاداتهم او شكواهم في المحاكمة.
أن جريمة مثل جريمة الأنفال وحلبجة لايمكن اختزالها بعدد قليل من المتهمين، لأن تلك الجرائم البشعة تعدد فيها الجناة والمساهمين في الاتفاق الجنائي، الا ان حصر الاتهام بالعدد الذي تقدم من المتهمين الحاضرين يقزم القضية التي راح ضحيتها حوالي خمسة الاف أنسان مدني، ويحصر الاتهام بعد صدور الأحكام النهائية. وبهذا فأن الخلل الذي رافق القضية التحقيقية في دور التحقيق لاتستطيع المحكمة الجنائية ان تتلافاه لسعة القضية، ولعدم قدرة السيطرة على تلافي تلك النواقص في دور المحاكمة.
كما لم يتم الإعلان عن أسماء المتهمين الهاربين الذين تم تفريق قضاياهم عن هذه القضية من المتهمين الهاربين.
كما تبرز أهمية الوثائق السرية والاتفاقيات المعلنة والمخفية بين العراق في ظل سلطة صدام وبين تلك الشركات والدول التي سهلت عملية وصول الأسلحة الكيمياوية ، وأمام جريمة جنائية تدخل في باب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية يقتضي الأمر اطلاع هيئة المحكمة على تلك الوثائق وربطها بأضبارة القضية حتى لاتبقى القضية تدور في فلك التخمين والحدس.
ونجد ان من الضروري التعمق مع الطيارين وقيادة الطيران التي نفذت الضربة الكيمياوية لتثبيت الأوامر الصادرة بالضربة الجوية بالسلاح الخاص.
ونجد أيضا من أجل تحقيق العدالة أن يتم الالتفات إلى الاتهامات التي توجهها منظمات كوردية وحقوقية تتضمن العديد من أسماء الضحايا والمشتكين، تتوجه باتهامها إلى أسماء أشخاص موجودين داخل السلطة اليوم أو خارجها، فكل متهم بريء حتى تثبت أدانته، ولابأس من التثبت من حقيقة الاتهامات، حيث يسجل تجاهل تلك النداءات والشكاوى موقفا سلبيا ليس له أساس أو سند من القانون.
***
علي سيريني: كُردستان من الداخل كما هي
السادس عشر من آذار هو ذكرى كارثة حلبجة الشهيرة عام 1988 حيث قضى الألوف نحبهم بالأسلحة الكيماوية. في العام الماضي دفعني حادثان إلى التشبث بكتابة مقال، علّني أبثُ قليلاً من حزني العميق: حزن المأساة. لم أكد ابلغ نصف المقال حتى بدت السطور كشوارع كئيبة لا منتهية تبثّ الأسى واليأس. وضعت الصفحات جانباً ولم أكمل المقال. والى اليوم مازال المقال راقداً في ثنايا الصفحات، لا يموت فيها ولا يحيا. ففي العام الماضي وقفت استراليا على قدميها في حالة إنذار مستمرة لمدة واحد وعشرون يوماً، شعباً ودولة، وحكومة، وكنيسة لِعاملينِ من عمّال المناجم اللذَين انهار فوقهما منجم من مناجم (بيكونسفيلد) بولاية (تسمانيا) الجميلة في أقصى جنوب استراليا. العاملان كانا تحت الأرض بعمق 900 م، حين انهار المنجم.
ساعة بعد ساعة، يوماً بعد آخر، ليلاً ونهراً تابع الأستراليون بقلق كبير أخبار العَاملَين في محطات التلفزة الأسترالية التي لم ينقطع عنها خبر عاجل فور حدوث أي جديد. وفي الأثناء قامت فرق الإغاثة والنجاة، وأجهزة الحكومة والدولة، وبحضور المسؤولين الكبار ومن ضمنهم (جون هاورد) رئيس الوزراء، وبرلمانيين ووزراء في دأب وكدّ للعمل من اجل إنقاذ الرجلين.
أنقذ الرجلان. ولحظة صعودهما أحياء من المنجم المنهار نحو ظهر الأرض، وقفت صنوف الناس أمام مدخل المنجم ومعهم المسؤولون، وفرق طبية وإعلامية، وأجهزة أخرى للدولة.
اختلطت الدموع بالصلوات وبالأفراح وسط هتافاتٍ وصيحاتٍ تعبر بالسرور لإنقاذ النفسَين، والانتصار للحياة. هذا هو الحادث الأول.
أما الحادث الثاني كان في كُردستان، وبالذات في تلك البقعة الجريحة (حلبجة)، التي ختمت القرن العشرين في شرقنا التعيس بوصمة عارٍ وخيبة أمل كبيرتين، بعدما ذُبحت المدينة بأكملها عام 1988. وما حدث أنّ أهالي حلبجة استعدوا في ذكرى الفاجعة في آذار العام الماضي ليقفوا ضد استمرار المأساة، وضد إدامة الموت في تلك المدينة الخاوية على عروشها والحزينة أبدا. المأساة أن الأحزاب والسلطة الكردية جمعت الكثير من الأموال والتبرعات باسم تلك المدينة الشهيدة، إلا أن نصيب المدينة لم يكن سوى العذاب والعبَرات. فقرر الناس أن يتصدوا للسلطة الكردية التي لم تفعل شيئاً لحلبجة يُذكر، سوى نصب تذكاري لشهدائها الألوف، وهو نصب يزوره المسؤولون سنوياً في نزهة عابرة يتجاذبون بداخله أطراف الحديث على مائدة الطعام والشراب.
قرر الناس التظاهر كدأب ديموقراطي، ضد الظلم والطغيان الذي يعانون منه بيد السلطة الكردية. فما كان من قوات الدرك الكردية إلاّ أن فتحت النيران تجاه صدور المتظاهرين فأردوا بعضهم جرحى وسقط فتى يافع في ريعان عمره شهيداً وهو ابن الأربعة عشر ربيعاً.
وإزاء ذلك العدوان انفجر بركان الجماهير وصبوا جام غضبهم ونقمتهم فوق النصب التذكاري وأضرموا فيه النيران. نُسي الفتى الشهيد، وكذلك مطالب الناس الفقراء، وأصبح النصب التذكاري (الكارثة) التي لاغى فيها المسؤولون كثيراً، تماماً كما كان يحدث في جاهلية العرب لو أساء أحد ما إلى الأصنام: هبل، اللات، والعزى. أي أن البناء وأدواته أمست أهم بكثير من حياة الإنسان.
عاد الناس إلى بيوتهم يجرون أذيال الخيبة والجوع، والعذاب، والخسران وهم يحملون فوق أكتافهم شهيداً آخر. ولكن في أدمغة المسؤولين الأكراد كان النصب التذكاري أهم بكثير من الشهيد والجرحى والناس المظلومين، لا كما حدث في أستراليا لعاملي المنجم.
في أسبوعية (ميديا) الكردية في 27/2/2007 هناك جملة أخبار ملفتة جدا. ففي جانب دفعت الحكومة الكردية مبلغ 35000 دولار أمريكي لكلّ نائب في البرلمان مع جهاز هاتف محمول من نوع LG كمنحة.
وفي جانب آخر وثائق تسربت من وزارة الثقافة الكردية إلى الصحيفة المذكورة تبين دفع ما يقارب المليار دينار عراقي للفنانين والفنانات في غضون عام ونصف. ولكن في الصحيفة نفسها وبالتحقيق المصوّر قضى (سيروان)- وهو شاب كردي- حتفه في بحر (إيجة) بتركيا، أملاً بالوصول إلى أوروبا، الحلم الذي يراود ليس فقط جيل الشباب في كردستان بل كلّ ذي روح عاقلة.
سيروان ذو الثالثة والعشرين من العمر، المتزوج من (شادان) 21 سنة، منذ ثلاثة أعوام، دفعه الفقر والجوع وأزمات العائلة نحو الهروب من الجحيم الذي لا يطاق.
وعد سيروان زوجته وطفلهما الوحيد أن لا ينساهما ولا يتركهما وحيدين. بعد اشهر تنقطع أخباره. ما لم يكن في علم العائلة أن سيروان كان يرقد وحيدا على بعد آلاف الأميال في مقبرة على حافة مياه ايجة بين تركيا واليونان التي تحتضن رفات شباب كُرد، انتهت أحلامهم وأنفاسهم هناك ولم يبلغوا تلك الضفة حيث (الجنة) تستلقي على ظهرها في شمال الأرض/ أوروبا.عائلة سيروان اليوم كـ آلاف من العوائل تنتمي إلى عشيرة الدموع، تدمع الحزن والمأساة.أما سيروان فقد ذهب وحيدا في سبيله المظلم تاركا زوجته وطفله وحيدين.
في جريدة (هاولاتي) بتاريخ 6/3/2007، يتشاجر رجلٌ مع زوجته في يأس وألم وعذاب لا جدوى منهنّ، في عيادة طبيب. الرجل يلعن رابطة الزواج في عصر الكوارث، والمرأة تردّ الصاع صاعين. يصادف أن يكون صحافي ما حاضراً ليروي لنا تلك المأساة. الرجل يملك راتباً يقارب مائة ألف دينار عراقي أي أقلّ من مائة دولار أمريكي و، يدفع اكثر من ذلك لإيجار السكن. المشكلة أن طفله الرضيع أصيب بمرض خطير نظراً لنقص الغذاء (الحليب). الصحافي يأخذ من الرجل رقم تلفون أحد أقاربه (الرجل لم يكن يملك جهاز التلفون) عسى أن يجد محسناً يتكفلّ مصاريف الطفل الرضيع. بعد أيام يجد الصحافي بعض المساعدات ويتصل بقريب الرجل، لكنّه يُخبر أن الطفل فارق الحياة بيوم قبل ذلك!
في أسبوعية (ئاوينه) الكردية، العدد 58 في 22/2/2007، هناك تقرير ميداني يؤكد ارتفاع عدد المجانين في مدن وبلدات كردستان حيث في جمجمال وحدها هناك 91 إصابة بالجنون تحت ظل الضغوطات العنيفة لصعوبات الحياة التي لا تطاق.
ويؤكد التقرير أن هناك ضرورة لفتح شماعيات في مدن وبلدات كردستان، نظرا لارتفاع الإصابات بشكل غير معقول. أما عن حالات الانتحار فحدث ولا حرج. فلا يمر يوم إلا وهنالك عدة حالات انتحار بين النساء والرجال.
في تموز العام الماضي قصدتُ رئيس ديوان إقليم كردستان وهو رجل مضى سنين طويلة في أوروبا. في منتجع سياحي جبلي جميل قرب أربيل، كان رئيس الديوان يجلس في مكتبه المزدان بأحدث الأثاث داخل قصر الضيافة الفخم والمبني باكلاف باهظة. في معرض الحديث عن الخدمات التي تقدمها الحكومة الأسترالية لعساكرها القدامى، والتي اسميها الخدمات الفردوسية، لم أكد انهي حديثي حتى قاطعني المسؤول الكردي الرفيع ناطقا بـلا وعيه من دون أن يكون وعيه غائبا : ((... بل ويقيمون مهرجانات يكرمون فيها هؤلاء العساكر القدامى سنويا. اعلم ذلك جيدا، لقد قضيت أعواما طويلة في الغرب)).
شعرت أنني لست بحاجة إلى شرح ذلك للسيد المسؤول. لكنني سألته لماذا لا تقدم هذه الخدمات لشعبك ؟ فردّ بكبرياء لا مبال : شعبنا ليس بذاك !! مجتمعنا ليس بهذا المستوى !!
وكرر ذلك على مسامعي أثناء الحديث اكثر من مرة. ولسنا بحاجة لتفسير عميق لهذه العبارات! فالسيد المسؤول حاله حال الآخرين من (أصحاب المعالي) لا يعتبرون عامة الشعب من صنف البشر، ولذلك فانهم وعوائلهم يقضون العطلات والأعياد الوطنية والقومية الكردية -على سبيل المثال- في بلاد الغرب ويقيمون هناك أصلا تحسباً لتغيّر الظروف والأحوال. وإذا ما عادوا إلى الوطن فلهم قصورهم ومدارسهم ومنتجعاتهم والفنادق الراقية، لا يلتقون فيها كثيرا بأبناء قوميتهم التي ملئوا بها أسماعنا شعارات وأناشيد تمجدها، حتى انحنت ظهورنا تحت ثقلها، وثقل فسادهم وظلمهم.
ولذلك فلم يتردد المسؤول الكردي في تصنيف شعبه ضمن العجماوات، مستثنيا نفسه وزملاءه المسؤولين !
هذا التصنيف يحتمل الصواب جدا كما يبدو في مجرى الحياة في كردستان تحت ظل هذه السلطة المنحطة التي تزيد عدد المجانين والضحايا، وتدفع بالمجتمع إلى مقابر دول بعيدة أو ليتدحرج من فوق شرفة الوطن المنفي المتهالك، ليقبع الشعب في الأسفل، حيث تستقرُ ساكنة أصناف العجماوات.