شاعر الملايين: ثلاثة مرشحين للجائزة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1 ـ المتعايش الأخير
سأقول لكم لاحقاً، بماذا أنا مشغولٌ حالياً. ولكن، على كل شيء اللعنة. نصيبي من الإبداع، أن أخسرَ المسابقة الشعرية تلوَ الاخرى. أنا شاعر، أليسَ كذلك: بل ربما أكبر الشعراء، الأحياء منهم والأموات؟ ولكي أثبت هذه الصفة، ما كان لي من شغل سوى إصدار المجموعة تلوَ الأخرى! كتبتُ في كل شيء، وعن كل شيء.. إلا الشعر. وكمثال، حينما ضاق بي الحال يوماً، هرعت إلى بار منزلي، اللندني.. ضاقَ أكثر، فتناولت بعض مصنفات الفيديو من مكتبة الأشرطة: ألا تقول عيني تقع على أحد الأفلام، فيعجبني عنوانه، الإيروتيكي، فأقتبسه على الفور عنواناً لمجموعة شعرية، جديدة! هكذا تجمّع لديّ من دواوين الشعر، أكثر مما لدى الآخرين، مجتمعين. قد ينبري لي أحدكم، بالقول: وهل هيَ مسابقة؟ فسأجيبه، نعم سيدي. كان ثمة مسابقة، فعلاً، وإليكم تفاصيلها الصغيرة. ولكن قبل أن أقصّ عليكم تلك الحكاية، سأتطرق لمسألة لقبي، الذي تعرفونه. كنتُ شيوعياً، ولم أزل. ناضلتُ فتىً ضد الملكية، وكافحت في رجولتي من أجل طريق اللا رأسمالية: مع أنني أحيا الآن حياة يحسدني عليها أصحاب رأس المال! بيدَ أنكم ستصدقوني، لو قلت أنني إلى الأخير، بقيتُ ذلك المتمسك بالمباديء: "من قال لكم أنّ الشيوعية إنتهت، هيه؟"، أصرخ بوجه هذا وذاك من ندماء البار، فيما أنفث دخان سيكار "الهافانا"، الفاخر. عشت حياتي بالطول والعرض في عز أيام الشدة والديكتاتورية، فهل سأغيرها الآن وأنا في قمة الرفاهية والرخاء؟ ربما يتبادر لذهن البعض، بأنني لم أجد حالياً وضعَ قدميّ بالمكان المناسب. لكن، لا.. صدقوني. ماذا يجلب لي تأييد التغيير الحاصل في عراق ما بعد صدّام: الميتة إنتحاراً، على الأرجح، أو جوعاً أو معاً! ما دمتُ معارضاً للإحتلال الأمريكي، فلن يسألني أحدهم لماذا أبقى في أوروبة ولا أعود للوطن. سأصبح نجماً، وكفى. مثل ذلك المطرب العراقي، الكبير، الذي أينما تولى بوجهه في عالم العرب، يسمع الناس تهلل له: " عاش العراق.. عاش البطل الخالد صدّام! ". لنعد إلى موضوعنا. هاتفياً، أخبرني بعض الأصدقاء أنّ مسابقة شعرية، كبرى، يدور رحاها الآن في إمارة "أبو زعيفص". وبما أنّ كبر هذه المسابقة متأتٍ من حجمها البنكنوتي، فقد حجزت على أول طائرة. يبدو أنّ إسمي، الذائع، قد سبقني إلى هناك، بأسرع من صوت طائرتي: كيف لا، وأنا شاعر المقاومة العراقية، بل والناطق الرسمي بإسمها منافساً في ذلك الشيخ ذيب البوادي! في مطار الإمارة، الأسطوري، فرشوا تحت قدميّ سجادة حمراء. ومن هناك، أقلوني إلى الفندق المعجزة بسيارة "ليموزين"، بيضاء ناصعة ـ كعروس. لأجل الصدفة، كان راعي المسابقة هناك، في الإستديو الضخم المخصص لمسابقة "شاعر الملايين"، إلتقيته وجهاً لوجه. تعرفونه... فهو مشهور أيضاً بركوب الخيل والسيارات السريعة. المهم، خلال الطريق كانوا قد أفهموني ما يتوجّب عليّ التصرف به من أتيكيت. لم يكذبوا خبراً. ها أنذا مقابل حضرة سموّه، أنحني له بإحترام وتبجيل، فيما يداي مضمومتان أماماً.. أنحني وأنحني وأنحني، دونما أن ينبس الرجل بكلمة: "وبعدين مع هذا الفارس.."، فكرتُ بقلق وأنا أتململ مرتبكاً حائراً. على كل حال، مضى ذلك اليوم على خير؛ في الرسميات والمجاملات والدعوات. في اليوم التالي، طلبوا مني تحضير "قصيدة نبطية". ما هذه، أيضاَ! على ما فهمته من الأخوان، منظمي المسابقة، فلا مكان هنا للشعر الحديث حراً كان أم نثراً. أعملتُ فكري، متسائلاً بسري: ما هيَ المشكلة؟ أليست المسابقة من أجل الملايين.. الكادحين؟!
2 ـ آخر السريانيين
إذا قرأتم في الصحف والأنترنيت، أنني بكيت، فلا تعجبوا. بكيت وبكيت، حتى خافوا عليّ أن أخنّس.. أعني أن أصيرَ ضريراً مثل الخنساء، شاعرة الجاهلية! ولم لا أبكي، وأندب حتى، إذا ضنّ العرب عليّ بجائزة محلية.. أنا شاعرهم الأكبر، المرشح لجائزة نوبل، الكونية؟ أقسمُ لكم ـ بمبدأي! ـ أنّ ما حصلَ كان مؤامرة محبوكة من لدن أعدائي. لنتذكر خمسينية مجلة "شعر"، التي إحتفلوا بها مؤخراً في بيروت: لقد مروا فيها على إسمي، مرورَ اللئام! يوسف الخال، كان صديقي.. أستاذي، يا سيدي. ولكن، هل تناسوا هناك، أنني بدوري أضحيتُ من بعد أستاذاً لهم؟ حكموا ضميركم إذاً، ولا تتجنوا. مسابقة "شاعر الملايين"، لم أفز بها. مع أنه تمّ ترشيحي لجائزتها. أدركتُ منذ تسلمي الدعوة، أنّ الفائزَ لن يكون صديقاً. برفضهم منحي الجائزة، لا بدّ أن أعدّ شهيداً للحداثة! أواه، يا لبداياتي الحداثوية، ما أروعها! إسمحوا لي هنا، أن أستعيد لقائي الأول بمؤسس "شعر" ذاكَ. كان الرجلُ مقلاً في كلامه، ويتحدث علاوة على ذلك بإبهام وغمغمة. باغتني يومئذٍ، حينما قال بيقين: "السريانية، هيَ مستقبل الشعر! هذا ما توصلَ إليه شعراء فرنسة، الطليعيون، منذ بدايات قرننا". يا ربي، ماذا أسمع؟ السريانية، مفخرة حضارة بلاد الشام، الكبرى، أضحتْ الآن مستقبل الحداثة الأوروبية!؟ آه وآه، ليتَ شعري لو أنّ "سعادة" كان حياً، ليشاركني فرحتي: هكذا فكرتُ يومها. فيما بعد، حينما أطلعتُ على سيرة أولئك الشعراء الفرنسيين، أصبتُ بخيبة أمل، للحقيقة. ولكنني تجاوزت الخيبة، وتقدمتُ أماماً. كنتُ إذاً مناضلاً لتغيير الواقع، فصرتُ ما وراء واقعياً. ثمّ إنتقلت لاحقا إلى الماركسية، وعدتُ للواقع! ألا تقول أنني أكتشف بعدها في الصوفية أصلَ الحداثة، لأحلق مجدداً فيما وراء الواقع: لا العقيدة ولا الفلسفة ولا المدرسة الفنية، لها أهمية للشاعر؛ اللهم إلا إذا خدمتْ نجوميته! يا أخوتي، مشرقنا متعبٌ متعب. العقلية العربية ثابتة لا تتحوّل. يصرّون على أصلكَ وفصلك. تكتب قصيدة لفلان، فيعتبرونكَ قومياً سورياً. تنشد مرثية لعلان، فيحسبونكَ قومياً عربياً. تحتفي أبياتكَ بالثورة الإيرانية، فيصمونك باطنياً. تنتقل لتأييد المقاومة الإسلامية، فيجعلونكَ إرهابياً: الحقيقة، أنّ المبدع هوَ كل هؤلاء، مجتمعين؛ خصوصاً إذا كان مثلي، شاعراً سريانياً.. أعني، سريالياً! فهل كان غريباً عليّ، والحالة تلك، أن أنطق بالشهادتين في عمّان والقاهرة؟ من تلك اللحظة، التاريخية، وأنا نجمُ جميع المهرجانات العربية. صار حضور أمسياتي، ومحاضراتي، أكثرهم من ذوي اللحى ومن ذوات الخدور، المحصنات! وأنا في قمة شعبيتي وجمهوري راض عني على الآخر، وصلتني الدعوة لحضور مهرجان " شاعر الملايين ". حضّرتُ نفسي جيداً، ولم أبتعد عن المرآة إلا للضرورة القصوى. لكنني، وعلى حين بغتة، فكرت قلقا بلقبي الفينيقي ـ الإغريقي، الذي يوحي بالوثنية. طرحته جانباً، وإعتمدت إسمي الثلاثي، الحقيقي: أحمد سعيد علي! عادَ التوجّس ينتابني. فالكنية، تحيل لمسألة "التشيّع"، المزعومة، والمذمومة اليوم. حذفتها أيضاً! طرتُ من باريس إلى إمارة أبو زعيفص، فأدهشني في المطار هناك ألا يكون أحد بإستقبالي. في الفندق الفخم، إكتشفتُ أنّ أحدهم قد تقمّص إسمي، وحلّ ضيفاً على المهرجان. كيف، ولماذا.. لا أحد يجيبكَ. أستقلُّ سيارة أجرة، وبوجهي إلى مكان المسابقة. "تقول، أحمد سعيد؟ ولكنه قدّم قصيدته للتو!"، أكدَ لي رئيس لجنة التحكيم. شرحتُ له من أكون، فأشاح بوجهه عني وكأنما يستمع لمهرّف: " تقول أنّ لديكََ 25 ديواناً؟ إعلم إذاً يا هذا، أنّ أحمد سعيد، شاعرنا الخليجي، لديه 250 سي دي وكلها قصائد ملحنة! ".
3 ـ خيبتنا الأخيرة
في عالمنا العربي، الجميع مختلفون مع بعضهم البعض على كل شيء.. إلا عليّ أنا! لستُ بحاجة، والحالة تلك، إلى المزيد من الكتابة. ولكن توقف الشاعر عن إصدار دواوين جديدة، معناه موته إعلامياً؛ وبالتالي، حرمانه من نجوميته التي تبذل له الإشتراك في المهرجانات، والحصول على الجوائز! لن أخفي عليكم، أيها الأعزاء، ضيق ذات يدي؛ خصوصاً بعد إتفاق اوسلو، سيء الذكر. كنتُ قبلاً ذا حظوة، مميّزة، لدى "الختيار": شيك مفتوح؛ منصب فخري؛ مكافآت سخية؛ سياحات وإقامة باريسية.. الخ الخ. في ذلك الوقت، كان الزعيم عازباً. ولكنه متزوجٌ من القضية، على حدّ تعبيره. حينما عثرَ أخيراً في خريف عمره على شريكة حياته، طلقَ القضية.. أقصد، طلقَ البقية! الحقيقة، أنّ همّ أسرته أضحى شاغله الأول، خصوصاً بعدما صار أباً. تأمين مورد ثابت للعائلة، يعيل أودها ويضمن مستقبلها، ليسَ بالشيء السهل. ومبلغ 3 مليارات دولار في بنوك أوروبة، ليسَ بالشيء الكثير في زمننا هذا، العصيب، حيث الغلاء وإرتفاع تكاليف المعيشة.. أليسَ كذلك؟ من جهتي، وجدتُ نفسي مفتقراً. ومن هنا بالذات، تلك الأسطورة عن معارضتي لإتفاق اوسلو، الذي لا يلبي طموحات شعبنا في العودة وكذا وكذا. سقى الله أيامَ المقاومة! أيام رومانسية، حينما كنت أنعي شهداءها بقصائدي، أفضل مما تفعله أوراق النعوة، الرسمية. كان الجميع، وقتذاك، مدهوشين من مقدرتي على نظم مرثية للشهيد، فيما دمه ما فتيء طرياً بعد: الأمر بيننا، فلا علاقة لهذا بالموهبة وسرعة البديهة. ببساطة، كنت أحضّر، على مهل وتروّ، دزينة مرثيات دفعة واحدة، ثمّ أنتظر المناسبة السانحة لوضع الإهداء بإسم الشهيد المحظوظ! أما في زمن الإقتتال الداخلي هذا، فقد غدوتُ محتاراً أكثر من الفضائيات نفسها. فإذ كانت تدعو كل من يسقط برصاص الإحتلال ( شهيداً )، فماذا عن الحمساوية والفتحاوية الذين يسقطون في معاركهم من أجل الرواتب.. أقصد، من أجل الثوابت الوطنية!؟ لا شكراً، لن أرثي أحداً من بعد. كسرتُ الدف وبطلت أغني! المهرجانات إذاً، أجدى لي. جوائزها الكبيرة مفيدة لإستثماراتي، الصغيرة. مهرجان "شاعر الملايين"، تابعتموه ربما على فضائية إمارة أبو زعيفص. حملتني إليه طائرة أميرية خاصة. ألا تقول أن الشعراء المتسابقين، عددهم أكبر من الجمهور الحاضر في الأستديو الهائل. المنافسة، للحقيقة، كان مستواها هابطاً؛ بإستثناء حضور شاعرين، معروفين، لم يشكلا قلقا لي. فماكينتي الدعائية، كانت هناك بكل زخمها: أشيعَ في الصحافة، أنني سأتبرع بقيمة الجائزة ـ في حال فوزي ـ لتسديد رواتب موظفي الأوقاف في غزة! عدا عن ذلك، كان ثمة إشكال بسيط، فيما يتعلق بقصيدتي أمام المهرجان. فقبل يوم من إلقائها، إجتمعَ بي رئيس لجنة التحكيم، سراً، وهمسَ لي برجاء: "أستاذنا الكبير، أنت مقدّر الظرفَ ولا شك. ولا يرضيك أن تكون جميع قصائد الشعراء باللهجة الخليجية، وتشذ قصيدتك عنهم؟". أظهرتُ الإمتعاض قليلاً، ولكنني قبلت عرضه. الجائزة صارت، بطبيعة الحال، من نصيبي. والشيك، يتدفأ الآن في حنايا محفظتي. صدقوني، لا اللهجة ولا حتى اللغة نفسها، بالشيء المهم. المهم أن القصيدة تنبض بالثورة. فأنا قبل كل شيء، شاعر المقاولة.. أقصد، شاعر المقاومة!