كتَّاب إيلاف

أنسنة المُتدين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

المتدين، عموماً، والمتدين إذا دخل معمعان السياسة، خصوصاً، هو كائن يتمتع بوعي لا تاريخي في الحالتيْن. ولأنه يحوز هذه الصفة الفارقة (الوعي اللاتاريخي، أو بعبارة أخرى: وعي ما فوق التاريخ) فهو يقع في المشاكل والمعضلات، إن لم يصنعهما بنفسه، مشكلة في إثر مشكلة، ومعضلة بعد معضلة. فهو بوعيه المفارِق هذا، يغترب عن معادلات الوجود من حوله، ولا يعود قادراً على قراءتها القراءة الأولية حتى. فهو كائن مغترب بامتياز. يعيش ضمن الموجودات المادية ولا يعي شروطها ومعادلاتها.
ولأجل هذه الأسباب متفرقة أو مجتمعة، على المجتمع أن يؤنسن المتدين، أي يسحبه من حظيرة الاستيهام الديني (وليس الإيمان، كما قد يظن البعض) ويعيده إلى حظيرة التاريخ، بوصفه كائناً بشرياً من دم ولحم وعقل ورغبات وزمن، أولاً وأخيراً.
أنا كمثقف، أظنّ أنّ هذه واحدة من كبريات مهامّي. وأومن، لا مجرد ظنّ، بأنها أيضاً واحدة من أكثر وأخطر المهام الملقاة على عاتق المثقفين العرب، في هذه الحقبة السوداء من تاريخ شعوبهم وبلدانهم. فلا أخطر على هذه الشعوب والبلدان، من المتدين، بوصفه مثقفاً، أو إعلامياً أو داعياً أو سياسياً. أي إذا كان ينتمي إلى ما يسمّى " النخبة ". فهو في مجال عمله هذا أو ذاك، يمارس التأثير على عوام الناس، بوصفهم متدينين عاديين أقل منه وعياً أو فذلكة أو قدرة على الإقناع والإمتاع.
قد يستهون البعض منا خطورة هذه المسألة. لكنها رغم ذلك، تبدو جد ضرورية، هنا والآن. فما نعانيه من ويلات متكاثرة، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، عقود صعود التيار الإسلاموي في المنطقة، هو في جزء كبير منه يعود إلى هيمنة المتدين اللاتاريخي، على مقاليد أمورنا وأوضاعنا السياسية ونسيجنا المجتمعي وإنساننا الاجتماعي.
لقد استغلوا فساد واستبداد أنظمة الحكم في بلادنا على أفضل وجه: ملأوا الفراغ بطوبى العدل المثالي، وأسسوا جمعيات الخير والإحسان، وانتشروا بين الطبقات الشعبية المهمشة، فأعطوها القليل من الضروريات، مقابل الاستيلاء على أفرادها، وعياً وجسداً، حتى نجحوا في هذا المسعى، أيما نجاح، فتخطّوا الطبقات الشعبية، ليصلوا إلى فلول الطبقة المتوسطة، وهي آخذة في الانهيار والانحدار _ بفضل نهم طفيليي الدولة، فسيطروا عليها هي أيضاً. وبذلك خلا لهم الجو فباضوا وصَفَروا، وها هم يخرجون لنا، إذا ما توفّرت النزاهة، من فم كل صندوق انتخابات!
نعم. يجب أنسنة المتدين النخبوي بالأساس. كيف ؟ لا أمتلك بالطبع أية وصفة، فليس هذا من اختصاصي إلا في حدود بعض التنظير وإبداء الرأي لا أكثر. أما عملياً، فيجب أن تُلقى هذه المهمة الحيوية على عاتق المثقفين مجتمعين، ومن ثم على مؤسسات ووزارات وبرامج تعليم ووسائل إعلام كل دولة في الإقليم على حدة، وكل دول الإقليم مجتمعة.
فإن لم تقم هذه الدول بما تتمتع به من إمكانيات هائلة، بهذا الواجب، فإنّ المتدين النخبوي اللاتاريخي، سيمضي في طريقه صاعداً، وسيكتسب كل يوم مزيداً من المؤمنين والمريدين والمعجبين والأتباع. فهو في الحق لا يواجه أي عائق جدي أمامه: إنه يعمل في ظروف جد مؤاتية: في فراغ شبه مطلق فتحته له الدولة الغائبة، عن قصد أو غير قصد، فلماذا لا يعمل ولا يجتهد ولا يطمح إلى الوصول ؟
هذه الدولة التي نطالبها الآن بالانتباه والحذر، ثم بالفعل والعمل العاجليْن، هي، للتذكير، الدولة ذاتها التي قمعت ونكّلت بالمثقفين الوطنيين والعلمانيين من قبل. والدولة ذاتها التي عسكرت المجتمع ووأدت أجنة المجتمع المدني فيه، من قبل أيضاً. وكل ذلك من أجل ماذا ؟ كي تظل هي في كرسي السلطة، فلا يزاحمها أحدٌ على خشبه المنخور. بل إنها تحالفت ولو بصمتٍ، تارة، وتواطؤٍ، طوراً، مع قوى الظلام اللاتاريخية، ضد المثقفين العلمانيين وضد أجنة المجتمع المدني، كي تتأبّد هي في التنعم بمزايا وامتيازات الحكم، على حساب مصالح شعوبها، بل وعلى حساب مصالحها هي نفسها في المدى المتوسط والبعيد.
ومع ذلك، لا مفر من تجرّع كأس المُر، والعمل مع هذه الأنظمة الرثة، بحساب وبمقدار، ضد ظاهرة تديين المجتمع والسياسة والاقتصاد، والعودة إلى الطريق السوي من جديد. فشر أهون من شر، كما يقال.
وبطش هذه السلطات صار اليوم أهون من بطش تنظيمات الإسلام السياسي. بل إنّ بطش وإرهاب المجتمع، بفضل وجود ظاهرة المتدين اللاتاريخي النخبوي ساحقة التأثير، صار يقلق المثقف العلماني العربي، أكثر بكثير من بطش الأنظمة المتهرئة الموجودة الآن في معظم بلاد العرب.
للأسف. فإن الحقائق تقول لنا، أنهم وحدهم هؤلاء المثقفون العلمانيون، مَن صمدوا في الساحة: وحدهم من وقفوا بالمرصاد، وعلى النأمة، لجيوش الدعاة والإعلاميين والسياسيين اللاتاريخيين. أما الدولة العربية، بأجهزتها ومؤسساتها ووزاراتها، فتقف عاجزة غبية متواطئة في أحيان كثيرة مع هؤلاء المتأسلمين. ولا أعرف حقيقة كيف لفكرتي في أول المقال أن تنجح: الاستنجاد بالدولة!
فالأمور متشابكة متراكبة معقدة، والدولة العربية اليوم، هي مجلبة للضحك والسخرية، من أكثر من طرف، وعلى أكثر من صعيد. بعدما انكشفت على حقيقتها وبان المستور. فهي مشلولة ومأزومة، حتى أنّ المثقف العلماني الذي قمعته هذه الدولة سابقاً، يكاد يشفق عليها وهي تتخبط في غمار أزماتها المتتابعة لا تدري ماذا تفعل!
فلقد اخترق المتدين النخبوي اللاتاريخي، ومن خلفه الإسلامويُ السياسي، بُنيتها من أسفل السلّم، بادئاً بالطبقات الشعبية، مارّاً بالوسطى، واصلاً في الأخير إلى نواتها الصلبة ذاتها، فسيطر على وعي كبار رجالاتها، وعلى وعي عائلات كبار رجالاتها [ مع الإشارة هنا إلى أنني أستخدم مصطلح ( النخبوي ) بتحفظ شديد، أو بمعنى آخر: على علاته، ووفقاً لما هو دارج من توصيف ]. وللتدليل على ما نقول سأسأل: كم من زوجات وبنات وأبناء الرؤساء والملوك والوزراء العرب مفتونون ومفتونات بالشيخ القرضاوي مثلاً ؟ فإن يكن القوم هؤلاء أكثر حداثة وارتباطاً بما يسمى بروح العصر: فكم منهم مفتون ويتابع ومعجب بعمرو خالد مثلاً وبسواه من الدعاة المودرن ؟
الجواب، كما أظن، معروف. فنساء وأبناء الطبقة السياسية في الوطن العربي، أو بعضهم وبعضهن على الأقل، واقعون تحت تأثير المشايخ التقليديين أو المودرن. ولا أظنّ أنّ أحداً منهم، إلا فيما ندر، يقرأ لإدوارد سعيد مثلاً، أو يعجب به [ هل يجب التذكير هنا بتلك القولة العظيمة من أحد الحكماء لأحد ملوك أوروبا، حين أراد هذا أن يُعيّن سياسياً في منصب عظيم: " حذار إنه لا يحب الموسيقى! " ] ؟
لقد كنا نراهن على الدولة المدنية، وعلى القانون الوضعي، بوصفهما دولة وقانون المواطنة التي نطمح ونحتاج. فكانت دولة العسكريتاريا والأمن، وسقط هذا الرهان في امتحان التاريخ. ثم استبدلنا هذه المراهنة بالمراهنة على أشواق المجتمع، بكافة طبقاته، في التغيير، والدخول في عصر الحداثة والتحديث. فماذا حدث ؟ حدث أن استولى الإسلام السياسي على البُنية التحتية لوعي هذا المجتمع، فصار المجتمع أكثر رجعية وأشد إرهاباً من الدولة: أي سقط الرهان الأخير هذا، هو أيضاً، في امتحان التاريخ.
وصار حالنا كحال أبو الطيب المتنبي مع جانبيه، على أي جانبٍ تُراهُ يميل، فسوى رجعية الدولة ثمة خلف ظهرنا رجعيةُ المجتمع أيضاً _ وهي رجعية أشد وأنكى.
ومع ذلك، مع ذلك: لا مفرّ من أنسنة المتدين اللاتاريخي، كحركة أولى في زحزحة الباب الصديء العملاق، حتى لو نظرنا إلى المسألة برمتها وكأنها قشة الغريق. فنحن في الحق غرقى، وموشكون على الموت التاريخي، ما لم نلحق أنفاسنا القليلة المتبقية، قبل فوات الأوان.
لذلك، وعلى ذلك، فإنّ أنسنة المتدين، مرة ثانية وثالثة، هي مهمة تاريخية عاجلة وفي رأس الأولويات. أما كيف ؟ فالأمور أشد تعقيداً وأكثر هولاً من أن يجتهد فيها مثقف فرد، فيختصرها في مقال أو حتى كتاب!
إنما فقط أردنا الإشارة والتنبيه لا أكثر، عسى يأتي من يفكر في الأمر، ويأخذه على محمل الجد، فينظر فيه، من عدة زوايا لا زاوية واحدة، كما فعل هذا المقالُ الخاطف والسريع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف