الغذامي: انه حقا حكاية موقف!!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مقدمة:
لا ادري هل من حسن الحظ او من سوء طالعه ان تعيش نخبة عربية ذكية من فرادى المفكرين المبدعين في هذا العصر المتراجع عند العرب؟ لا ادري لماذا اجد الاخ الدكتور عبد الله الغذامي يمّثل حكاية موقف!؟ هل يصعب عليه ان يرى هول التراجعات العربية في كل بيئة من بيئاتنا الثقافية والاجتماعية بعيدا عن الانتكاسات السياسية؟ بالتأكيد انه يشاركنا هذه التساؤلات والتي عبّرت عنها مجموعة من كتبه المتميزة التي انطلق بها منذ اكثر من عشرين سنة.. كم فكرت في اول كتاب اطلع عليه واقتنيه منذ العام 1985 للاخ الغذامي والذي عجبت من اسلوبه وطريقة تفكيره ومنهجه الذي تعب من اجله بقراءات ودراسات متنوعة، بل واستطيع القول ان الرجل قد تعب على نفسه كثيرا وهو في طور التكوين لينتقل بعد ذلك الى طور الابداع فيؤسس شيئا جديدا ليس لبيئته السعودية المحلية، بل للحياة العربية المعاصرة كلها. هذه " ورقة " طلب مني كتابتها لاعداد ملف خاص بالزميل الغذامي، فسررت بكتابتها خصوصا وانني قد كتبت عن الرجل في " نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية " شيئا جميلا عنه، فهو رجل اميّزه عن غيره كونه استثناء واضح المعالم.. وكلما يمضي الزمن ويتقدم بنا نحو الامام، اجده يلاحقه كمن يريد ادراك خطواته.. فيبتعد عن غيره مسافات واسعة لا تقاس بالخطوات ابدا. دعوني اسجّل بعض ما كنت استخلصته من متابعاتي العديد من اعماله:
الرؤية:
انني اعتبر الغذامي زميلا لي في عدة مسارب ان جاز لي التعبير ليس من الناحية الاكاديمية فقط، بل من الناحية الفكرية، فهو مؤرخ بارع للتفكير من جانب، وهو ناقد للفكر والحياة من جانب آخر، وهو محلل بارع للنص ومفكك وتأويلي له من جانب ثالث.. بل واكتشفت فيه انه استخدم فكرة الانساق التي استخدمتها ولكن بشكل مغاير، فهو بارع في تشخيص البنية وتراكيبها من جانب رابع.. وهذه كلها ان اجتمعت في مفكر وكاتب وناقد ومؤرخ، فهي دلالة جد واضحة على القيمة التي يتحلى بها.. وهم قلة اولئك الذين تميزوا بكل هذا وذاك من نخبة الجيل الذي عاش على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين.. وهو الجيل الذي تكّون لما بعد الحرب العالمية الثانية وأخصب منتجا في العقود الثلاثة الأخيرة. ان الرجل يسجل في كل اعماله تفكير رؤيوي يتطلع دوما نحو المستقبل باستقامة الطريق وتسارع الخطوات التي تميز بها من دون اي نزوع ماضوي، وهو ما يجسده في اغلب اعماله!
الحداثة:
يقترن اسم الدكتور عبد الله الغذامي، بالحداثة ليس في المملكة العربية السعودية، بل في ثقافتنا العربية اليوم، واذا كان قد نجح في تسجيل تاريخ للحداثة السعودية بشكل يثير التفكير ويمتع القلب ويحزن من بعض المواقف التي لا تستقيم وحياة العصر، فان الرجل قد ساهم في تفكيك التناقضات وانني اشيد بشجاعة الاخ الغذامي وهو يواجه كل من وقف ضده من الذين اسهموا في هول التراجعات والايغال في الماضويات.. لقد كان مشخّصا بارعا في منحنا رؤية علمية للصراع بين الماضويين والحداثيين، اي بين الجامدين الكسالى وبين الرؤيويين المنطلقين نحو المستقبل.. وكان له موقف جرئ في صياغة احكام قوية لتأسيس الحداثة.. كما وانعكس فكره على حياته متلقيا الكثير من الهجوم والكتابات والادانات وحملات التشكيك من قبل اناس لم يؤمنوا بالتغيير ابدا.. ناهيكم عن دسائس من اناس يدعون انهم من الاكاديميين في الجامعة، وما هم بأكاديميين ابدا. ان ما زادني قناعة بمواقف هذا الرجل انه بقي صلبا في مواجهة كل المتطفلين والماضويين والمقلدين والشتامين والرداحين والكسالى والببغاويين.. وغيرهم ممن استهلكهم الزمن ولم يعد يتقبلهم الحاضر، فكيف سيتقبلهم المستقبل من خلال اجيال تتّربى على مستهلكاتهم ومسرداتهم؟؟
الحذاقة
ان الغذامي من اوائل المفكرين العرب الذين تمرسّوا على المنهج البنيوي، واستخدم الانساق في تحليل " النص " وتفتيته بشكل منظم.. وهو بهذا توصّل الى ان يفهم الوحدة الكلية ليس للنص، بل للمعنى الكامل.. وبذلك فهو من اوائل النخبة التي امتلكت الرؤية، ومن يمتلك الرؤية والاداة (= المنهج) والدلالة في آن واحد فقد اصبح صاحب موقف.. من يمتلك الموقف باستطاعته اختراق اي ظاهرة ليعرفها وكل معطياتها شكلا ومضمونا.. وهنا يغدو الرجل صاحب قضية وموقف معا. لقد وجدته في اغلب ما قدمه من نقد يلعب لعبته بكل اجتهاد ومهارة ويسر، ومن دون اي تكّلف ولا اي صعوبة.. انه يوغل في البعيد ثم يتراءى لنا وهو قادم بسرعته ليقدم جملة رؤى وافكار جديدة.. انه لا يكتفي بالعوم عند الساحل او عند الشواطئ الفيروزية، بل يمضي مسرعا نحو عمق البحر الازرق لكي يأتينا بكل غال ونفيس.. انه يحيط بالنص من كل جانب، ويجعله عالمه الخاص حتى وان اختلف معه.. انه لا يكتفي بالمسلمات الثقافية، بل يمضي ليرسم خطوط رؤية جديدة للمرأة واللغة والواقع وللعديد من الظواهر التي رصدها بكل مهارة وحصل على نتائج تؤشر قيمتها حذاقة صاحبها، وعندي ان " المثقف " الحقيقي هو من ثقف / حذق الشيئ.. انه يخرق الحجب وغدافها الضليل عندما يواجه الدنيا ب " ثقافة الوهم " ليكرس بدلها ثقافة " الحقيقة " مهما كانت متصادمة مع ما رسخ في العقل من اوهام واشياء لا اساس لها من الصحة ابدا.. انه المثقف الذي يعزف لنا عزفا ندرك مراميه، على غرار غيره من الحاذقين المهرة، ولكنه يضرب مساميره بكل قوة على رؤوس اولئك الموهومون الذين لا تحرك عقولهم اية استفزازات ولا اي تساؤلات لابد ان يفرضها كل انسان عاقل سوي على نفسه.. فما بالنا ونحن امام صخور صلدة لاناس لا تدرك نسبية الاشياء وحقائق الاشياء.. بل ولم تطرق عقولهم ابدا اية اشكاليات يثيرها الانسان في الوعي..
التفكير
ان الغذامي لا يكرر المقولات التي يرددها المقلدون، بل يقدم اشياء جديدة ويتغلب الرؤيوي عنده على الماضوي، بل ولا يكرر افكاره اذ يولدها لمرة واحدة ويتركها تجد طريقا كي تنمو وترعرع كي تخصب ان ليس في هذا الزمن، فبعد ازمان آتية.. والمرأة عنده كالاشجار الذابلة وهي تتدنى باغصانها في مجتمعاتنا التي تتسيدها الثقافة الذكورية التي تضطهد بفحولتها وكل تقاليدها الاحادية: المرأة.. انها ثقافة تنظر الى المرأة بنظرة دونية وهي ثقافة ناقصة للوعي والادراك المتبادل بين المعاني والاشياء.. ان المشكلة التي افصح عنها الغذامي تكمن في الذهنية المركبة الراسخة العنيدة التي لا يمكن ابدا ان تتململ من جمودها ومركباتها وتعقيداتها وتناقضاتها التي لا اول لها ولا آخر.. ذهنية اتكأت طويلا على المعهود وثوابت الاشياء والتقاليد البالية وهي تأبى النصح وتأبى التغيير وديدنها الرفض كونها تخاف الحداثة، وتخاف التغيير.. انها ترفض كل النماذج وكل المناهج وكل المفاهيم الجديدة المعاصرة. انها ذهنية قد بنيت على الهشاشة والشكليات والعواطف والقوالب الجاهزة وعلى التربية المخيفة، ونحن ندرك ما الذي يزرع في عقول الاطفال ونفوسهم لكل ما يخيف ويرعب!! انها " ذهنية " استاتيكية جامدة تحتقر كل المتغيرات وهي لا تؤمن بظواهر الاشياء التي تظن انها مسلمات ومطلقات غير قابلة للتفكير او اعادة النظر من جديد! انها تعتقد الصواب فهي تتوهم ما استعارته من اوهام انها اساليب بحث علمي او علوم لا يمكن ان تخطئ ابدا، في حين انها هشاشة وتفاهة وسخافة ان عرضت على المنطق والمنطق الرياضي وفلسفة العقل.
الناقد:
ان الغذامي في كتابه (النقد الثقافي) قد تحول اليه بكل ذكاء بعد ان وجد ان " النقد الادبي " لا يمكنه ان يشبع رغبته في التغيير نحو الافضل.. ولم يزل الكتاب يثير عواصف واتربة واحجار ضده وهو يتلقاها بصبر وجلد.. وكما قلت برع الرجل في تقصّي ظواهر الاشياء، بعد استدعائه مناهج الحداثة والتمكن منها.. بل ويضفي عليها تأويلاته، اعتقد انه نجح في الانتقال من اسئلة الظاهرة الادبية الى اسئلة الظاهرة الاجتماعية، وهذا ما يتلمسه القارئ الواعي تمام الوعي بافكار الغذامي ومنهجه واسلوبه وخطابه.. وهو مؤمن بأنه يؤدي رسالة لا يستطيع غيره ان يؤديها في بيئة صعبة وفي مجتمع هو بأمس الحاجة الى خطاب الغذامي في مثل هذا الزمن.. انه زمن المتغيرات المتلاحقة، وهذا ما ينطبق تماما على اي بيئة اخرى في المنطقة التي يتطلب من كبار مفكريها تقديم مشروعات نقدية وبنائية للحياة التي دخلت القرن الواحد والعشرين.
عندما اقرأ بعض اطروحات الرجل وافكاره اتمنى عليه لو كان قد تخصص في التاريخ او الاجتماع، فهو يطرقهما من الابواب الخلفية.. وبالرغم من نجاحه وانتصاره في تصوير ووصف الظواهر وكأنه عالجها من البوابات الامامية، الا ان محطاته النقدية الادبية قد رسّخت فيه اجمل الضرورات متمثلة بالقدرة على تحليل الخطاب، اي مقول القول، اي معرفة اختراق التعبير، والخطاب هو المعبّر الحقيقي عن اي ظاهرة من الظواهر في الحياة.
الراصد:
ثمة شيئ آخر اتلمسه كلما اقرأ للغذامي انه يرصد التحولات في بيتئه بكل محبة وعشق.. انه لا يقيم وزنا للمألوفات، بل يريد ان يتحول كل القديم الى الحداثة.. انه يؤمن بالتغاير.. انه يبحث عن اسباب وعوامل مسكوت عنها.. انه يفصح لأول مرة عن انكسارات سايكلوجية مترسبة في الذات والواقع، وهو يعلن عن محوها بواسطة النقد الثقافي، والنقد الثقافي احس باهميته وتقدمّه على النقد الادبي.. انه يحسّ بضرورة مجتمعنا لنقد الواقع قبل نقد النص.. وربما اتفق مع الغذامي واختلف معه في آن واحد، فهو يؤكد قائلا: " أقول إن السياسي هو ضحية للثقافة وهو ناتج ثقافي، لأن أي إنسان سياسي أو أي فكر سياسي هو منتوج ثقافي تراكم عبر سنين وولد أنواعاً من الشخوص وأنواعاً من الأفكار، فبالتالي لكي نعرف العلة السياسية لا بد أن نبدأ بمعرفة العلة الثقافية لأنها هي الأصل ". هذا صحيح على المدى الطويل، ولكنني دوما ما قلت بأن المثقف الحقيقي دوما ما وقع تحت سطوة السياسي عبر تاريخنا الطويل، ولقد سقط جملة كبرى من المثقفين الحقيقيين مسجونين او محرومين او معزولين او معذبين او مضطهدين أو مقتولين على امتداد تاريخ طويل.. أسأل: لماذا؟ ولكن لنكن منصفين ايهما ضحية المنتج الثقافي، هل هو السياسي ام المثقف؟ دعونا نبحث هنا عن اجوبة واضحة:
المثقف والسياسي:
ان الغذامي يقول بأن السياسي هو نتاج ثقافة وهذا صحيح، ولكن بنفس الوقت فالمثقف ضحية سياسة وهذا ما اقوله.. وهنا علينا ان لا نقتصر على معرفة العلة الثقافية لأنها هي الاصل، بل ايضا علينا بمعرفة العلة السياسية وهي واضحة تمام الوضوح.. مهما قيل فان السياسي وجد كي يبحث عن السلطة، ولكن قلما وجدنا المثقف الحقيقي يبحث عن سلطة الا ما ندر، اما ان كان هناك مثقف سلطة، فهو مجرد اداة لا غير.. ثم ان الصراع في تاريخنا كله على السلطة وليس على أي شيئ آخر، فالسلطة هي اكبر من أي قوة اخرى.. وهنا اريد القول بأن كلينا الغذامي وانا نكمل هذه الاطروحة الواحدة. ولقد قال الرجل بفكر التواطؤ الذي يجمع بين المثقف والسياسي، وارى ان هذا الفكر لا يمكن ان نعممه على الجميع فثمة مثقف سلطة ومثقف معرفة.. مثقف ايديولوجي ومثقف واقعي.. مثقف عضوي ومثقف مثالي.. واشارك الغذامي مطالبته بالمثقف الناقد الذي يعد ضرورة اساسية لمجتمعاتنا المعاصرة.
المعلم الناصح:
لقد اعجبني جدا ما قدمه الغذامي من نصائح للمثقف، فهو يقول: " هل يستطيع المثقف الذي يحمل رسالة حقيقية للأمة وللثقافة أن يعرف الرسالة التي توصله للناس.. لا يتعالى عليهم لا يبتعد عن الخطابات التي تمسهم مباشرة، وإنما يدخل بهذه الآلية التي نحن بحاجة إليها للدخول إلى الجماهير ". انني ادعو كل المثقفين التأمل في النص الغذامي في اعلاه. ان المثقف الحقيقي عليه ان يلتصق بقضاياه وتتفاوت درجة معرفة كل مثقف على اسلوب تفكيره ومستوى تطبيقاته. ان النصيحة التي اسداها الرجل للمثقف توضّح مدى حرص الرجل على ما يمكن تقديمه.. بمعنى الغاء للصمت بشكل كامل، وكّل يتمّرس على منهج له في التعبير شفويا او تحريريا..
وأخيرا: خلاصة القول
ان آخر ما يمكنني تسجيله من توصيف حقيقي عن الاخ عبد الله الغذامي انه رجل كلمة وموقف، وانه حقا حكاية موقف.. وستبقى اعماله اشارات مضيئة وضيئة في حياتنا العربية وتشكيل ثقافتنا الحديثة من خلال اجيال جديدة قادمة. اتمنى ان يكون اشارة مرور خضراء لطريق اوستراد طويل لكل ابناء الجيل الجديد، وان يتعلموا من تجربته الحية توازيا مع تجارب غيره من المفكرين العرب المحدثين ومقاربة لافكاره المتنوعة والمتعددة التي هي بأمس الحاجة الى التحليل والنقد ووضعها في مكانها اللائق.. تحية مني الى الاخ الغذامي لمناسبة احتفاء الحياة الثقافية في مؤسسة الجزيرة به.. وشكرا لمن طلب مني ان اشارك فيها، وتحية لكل الاصدقاء من ذوي القلم الرفيع تطلعا لفكر مدني رصين وخلاصا من آفات البدائيين والمتوهمين.. وارتفاعا بمستوى الجيل الجديد الذي ستقع عليه المهام الصعبة.. اتمنى ان اكون قد قدمت لمسات ثرة من حكاية موقف في صراعنا من اجل حداثة ومستقبل للعقل والتمدن.