آخر الحروب... والتجربة اليابانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
كتب وليم بفاف، المحرر في جريدة الهيرالد تربيون الأمريكية والمحلل السياسي والمتخصص في السياسة الأمريكية، في جريدة اليابان تيمز في الحادي عشر من مارس عام 2007، وتحت عنوان لماذا تفشل خيرة المقاصد؟، "بحث جيسون ليل أستاذ جامعة برنستون الأمريكية، والكولونيل أيسى ولسون أستاذ بكلية وست بوينت العسكرية الأمريكية، في مائتين وخمسين حرب غير متجانسة سابقة، وأستنتجوا بأن التفوق التكنولوجي والقوة العسكرية لا تكسب الحرب، بل بالعكس الدول التي تملك قوة عسكرية كبيرة تكون لديها صعوبة لكسب المعركة أمام مجموعات صغيرة تدافع عن ثقافتها ودينها ومجتمعها، بالإضافة لحبها للوطن وكرهها للغزو الأجنبي." ووضحت هذه الدراسة بأن "نسبة انتصار الجيوش الكبيرة في الحروب الغير متجانسة منذ عام 1800 وحتى عام 1850 كانت 85%، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 21% منذ عام 1950 وحتى الآن، لأن الجيوش الكبيرة تكون عادة مطيعة لقوانين مؤسساتها، زائدة الثقة بنفسها، تتوجس لأمن جيشها لتتجنب الإصابات بين أفراده، وتصر لتجربة تكنولوجية غير موثوق بها."
وقد صرح، وفي نفس المقال، الجنرال رونالد كيز الرئيس المسئول عن المعارك العسكرية الجوية الأميركية فقال، "بأن طيارة أف 22 المتطورة معدة للحرب الكلاسيكية ولكن ليس لحرب العصابات التي نواجهها اليوم. وأكد بأنه لم يشتري هذه الطائرة لحرب العراق، بل اشتراها لمجابهة السوفيت والسيطرة على العالم، أو لهزيمة هجوم خارجي من كوكب مارس على أمريكا."
وقد عقب وليم بفاف في مقاله فقال، "من الواضح بأن الجنرال لا يملك الطائرة المناسبة لحرب العراق. وحتى طائراته الهيلوكبتر قد أسقطت بأسلحة بدائيه نسبيا. وحينما يستعمل طائراته الجبارة (ف22) ينتهي بإلقاء طنين من القنابل على بيت به خمسة نساء وثلاثة أطفال ورجل واحد، ويقتلهم جميعا لان الطيار تصور انه لاحظ رجلين يحملان بندقية الكلاشنكوف يدخلا البيت.."
ويستمر الكاتب بفاف في تحليله فيقول، "لقد صرفت الولايات المتحدة البلايين للاكتشاف القنابل الأرضية وأبطال مفعولها، فقد استعملت طائرة أف 22 في العراق. وحسب ما كتبت المجلة الأسبوعية للطيران وتكنولوجية الفضاء فقد أصبحت الطائرة المتطورة أف 22 عمياء، لم تستطع اكتشاف أي من هذه القنابل، بسبب التشويش الالكتروني للمراقبات الالكترونية المختلفة من القوات الحربية البرية وعناصر المخابرات."
كما وضح بفاف السبب لهزيمة الجيوش الكبيرة للمعركة بقوله، "أن الشعوب المحتلة تقاتل أيمانا بحرية أوطانها وضد الغزو الأجنبي. وقد تساعد بعض الجيوش الكبيرة شعبا للتحرر من الغزو الأجنبي كما فعلت الولايات المتحدة في مساعدة الأفغان في محاربة السوفيت، ولكن لا تستطيع أن تحرر شعبا من أهله كما حاولت الولايات المتحدة لتخليص شعب العراق من الرئيس السابق صدام، وستبقى القوى الأجنبية غازية مهما كانت نيتها فاضلة. ولتكن رابحا في حرب غير متجانسة يجب أن تحارب مع الفريق المدافع عن وطنه وقوميته بذلك البلد، وطبعا لا يمكن أية قوة غازية أن تكون مع قومية ووطنية ذلك البلد الذي تغزوه."
يذكرني هذا النقاش بقول الرئيس الأمريكي جون كندي في عام 1957، "القوى العظمى اليوم ليست الشيوعية أو الرأسمالية ولا الصواريخ الموجهة، بل رغبة الشعوب في الحرية. والعدو الأكبر لحريتها هو الامبريالية. والتحدي الذي ستواجهه السياسة الخارجية الأمريكية المستقبلية هو كيف ستتعامل مع هذا الاختبار." فتلاحظ عزيزي القارئ بأن النتيجة التي توصل لها الكاتب وليم بفاف تتوافق مع صراحة الرئيس الأمريكي جون كندي، وتتماشى مع غريزة الإنسان الطبيعية لحبه لوطنه وحريته.
فهل سنستفيد من هذين الحوارين في دراسة سياساتنا المستقبلية؟ فلنلاحظ أولا الصراحة التي تتعامل بها المؤسسات الأكاديمية الأمريكية مع حكوماتها. تعتبر جامعة برنستون الأولى بين الجامعات الأمريكية، حسب دراسة مجلة يو أٍس نيوز الأمريكية لعام 2007، كما تعتبر كلية وسبوينت الأولى عسكريا، وقد عملتا معا في بحث علمي ونشرت نتائجها بكل صراحة، ولم تفكر بأن نتائجها قد تضايق المسئولين. بل بالعكس فرض عليهم واجب المسئولية الأكاديمية أن ينشروا الدراسة بصدق ليستفيد منها أصحاب القرار، ليوجهوا سياساتهم واستراتيجياتهم المستقبلية بشكل صحيح اعتمادا على حقائق ودراسات علمية متخصصة. ولو خالفوا شرف الأخلاقية العلمية، فحرفوا ما اكتشفوه أو أخفوه، لدمروا بلدهم وحطموا مستقبل أصحاب القرار. النقطة الثانية، ليس هناك اليوم رابح في أية حرب في قريتنا الأرضية الصغيرة. نعم هناك من نسميه بالمنهزم، ولكن لن يوجد منتصر بعد اليوم وفي أية حرب. فالحرب تجلب الدمار، وتجرح وتقتل الألوف من البشر، وتبعثر المليارات، وتضيع سنين من عمر الشعوب، وتحتاج لسنين طويلة أخرى للبناء والأعمار، وعقود متتالية لإرجاع الثقة والعمل المشترك من جديد. ففي عالم العولمة الصغير، لا يمكن أن تكون مخاصما لأخيك الذي يعيش معك في بيت واحد وتكون سعيدا ومنتجا، وهذا واقعنا اليوم في قرية العالم الصغيرة التي نعيش فيها بسبب تكنولوجية الاتصالات والمواصلات.
قد يقول البعض بأن الجيش الأجنبي هو المنهزم، ونحن من كسب النصر. فمع الأسف الشديد، الحقيقة التي نضطر لقبولها، بأننا جميعا خاسرين. خسرنا بمعاناة شعوبنا من القتل والدمار، خسرنا التريليونات من الدولارات خلال هذه الحروب المتكررة، خسرنا الوقت للنمو والتطوير، خسرنا أطفالنا بثقافة العنف وتفكير الانتقام، خسرنا مستقبل أبنائنا في التعليم والتطور الاقتصادي، خسرنا الشعوب المتحابة والموحدة الكلمة والبعيدة عن الطائفية والعنصرية. لقد خسرنا الكثير والكثير وسنحتاج لعقود طويلة لنلحق بالأمم المتقدمة. وأرجو أن نكون قد تعلمنا من دروس التاريخ، بأن العنف لا يحل مشكلة، والقرارات العاطفية الغير مدروسة لا تجلب إلا الدمار والتخلف، وضياع سنوات طويلة، وكما يقال الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. نعم نتفق جميعا بأن الشعوب تحتاج للحرية والعدالة، وتحقيق مبادئ حقوق الإنسان، ولنتفق أيضا بأن العنف لن يكون حلا بعد اليوم في عالمنا الجديد، وستكون دور الجيوش في المستقبل للوقاية من الحروب وليس لخوضها. فكما قال المثل الصيني القديم، القوة العسكرية تكون مثيرة للإعجاب حينما تحقق أهدافها بدون أن تستعمل.
لندرس عزيزي القارئ التجربة اليابانية فقد نستوعب منها دروس لتخطيط مستقبل دفاعاتنا. نشيرين هو راهب بوذي أبن صياد سمك ياباني، ولد في عام 1222 وتوفي في عام 1282، وهو مؤسس البوذية النشيرينية. وقد أعتقد بأنه يجب أن تكون اليابان معقل البوذية ومنها تنتشر حول العالم. وكان من أشد معارضي بوذية الزن الصينية. وقد أدت ارائه الحادة لعيشه في المنفى لسنوات طويلة، إلف خلالها كتابه، التحرر من العمى (الروحي). ومن أراء شيرين، المختلف عليه، هو أيمانه بأنه ستكون هناك حرب مستقبلية كبيرة بين اليابان والدول الأجنبية، وستكون حرب عظيمة، وهي آخر الحروب ويجب أن تستعد اليابان لها بما لديها من قوة وبسالة. وأستغل بعض قيادات الجيش الياباني نظريات الراهب شيرين ليبرروا خطة غزوهم للدول الأسيوية المجاورة، وذلك بعذر توفير الموارد الطبيعية والبشرية للاستعداد للحرب الكبيرة القادمة مع الغرب وبالأخص مع أمريكا.
ومن الجدير بالذكر فمنذ نشوء اليابان عام 660 قبل الميلاد وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان شعب اليابان يؤمن بأنه سليل ألالهه، وأرضه أرض ألالهه، والعائلة الإمبراطورية هي من سليل الإمبراطور جيمو وهو حفيد ألهة اليابان. لذلك يعتز ويفخر بتاريخه وقوميته، كما كان يؤمن بأن أرض اليابان محمية من قبل ألالهه. ففي عام 1281 حاول غزو اليابان حفيد جنكيزخان المسمى بالكابولاي خان، بأسطول حربي يحتوي أربعة الإلف وأربعة مائة سفينة. فواجهه مقاومة عنيفة من عساكر السموراي، بالإضافة لحماية رياح الالهه- الطوفان الشديد- الذي قضى على جميع أسطول المغول بين ليلة وضحاها. لذلك تفتخر اليابان بتاريخها، وقوة انتصاراتها العسكرية، وحلمت بعض قياداتهم العسكرية بإمبراطورية شاسعة، فخططوا لغزو جيرانهم، الصين وكوريا ومعظم دول شرق أسيا، كما فكروا الامتداد إلى استراليا ونيوزيلندا. وقد ترافق ذلك، في الماضي، بكره شديد للغرب، لاحتقارهم سابقا للعرق الذي سمي بالعرق الأصفر.
ولذلك استغلت بعض قيادات الجيش الياباني الفرصة بانشغال الحلفاء بالحرب العالمية الأولى، ليغزوا الأجزاء المحتلة من قبل ألمانيا من الصين، بالإضافة للجزر المحتلة من قبل الألمان في المحيط الهادي. ونشروا أفكارا لتبرير التوسع لحل مشكلة زيادة السكان. فلم يسمح الغرب لليابانيين بالهجرة أو المتاجرة في السوق الدولية. كما أعتقد البعض بضرورة الحرب لتخليص العالم من السيطرة الغربية وبالأخص الأميركيين. وفي عام 1937 دخلت اليابان حرب ناجحة ضد الصين بعد حادثة مصطنعة على جسر ماركوبولو الذي بدأت بإطلاق النار بين الجيش الياباني والصيني. وفي عام 1940 وقعت اليابان معاهدة مع ألمانيا وايطاليا للدفاع عن بعضهم البعض في حال أي اعتداء أمريكي، بالإضافة لتأكيدهم بدعم اليابان لقيادة منطقة شرق أسيا. وقد شجع ذلك اليابان للتوغل في الهند الصينية. فقامت الولايات المتحدة بتجميد جميع ممتلكات اليابان في أمريكا، ومنعت أية بضاعة أمريكية من دخول اليابان، فقررت اليابان الانسحاب من الهند الصينية، ولكن أصرت الولايات المتحدة على ضرورة انسحابها من الصين أيضا. فلم تجد اليابان أمامها خيار غير المواجهة والدخول في ما سميت بأخر وأعظم الحروب لمنع السيطرة الأجنبية والتوسع الأمريكي في المنطقة. فبدأت اليابان في عام 1941 بضرب كتو بورا بمالي، وبعدها بيرل هابر، واستمرت بالغزو وبالتتالي للفلبين، وتايلاند، وجوام، وهنكونغ، وبرنو، وسنغافورة، وسومطرا، وتيمور، وبالي، وباتافيا، وروجن، وجاوا. وفي السابع من شهر مايو عام 1942 هزمت اليابان ولأول مرة في معركة بحر الكورال، واستمرت الهزائم المتتالية حتى أن ألقت الولايات المتحدة عام 1945 القنبلة الذرية على مدينتي هروشيما ونكزاكي، مما أدى باليابان للاستسلام وبدون شروط.
فيلاحظ عزيزي القارئ بأنه قد انتهت خرافة حرب الحروب العظيمة وأخر الحروب بدمار شامل لليابان. ولكن حاول شعب اليابان الاستفادة من مغامرة بعض قياداته العسكرية، فقرر بأن تكون هذه الحرب آخر الحروب. وابتعدت اليابان ومنذ ذلك الوقت من أية مجابهه واختارت الديمقراطية طريقها والسلم مذهبها لحل كل الخلافات من خلالها. وقد كانت الأزمة الكورية النووية خير مثل للتصرف السلمي الياباني، فلم يتحدى ويتعنتر، ويزهو بقوته العسكرية المنضبطة وتكنولوجيته النووية المتطورة، بل وضع هذه القوة في الخزانة، وحرك جميع حلفاءه بشكل سلمي لمنع التسلح النووي في المنطقة. فمنع الحرب وحقق السلم واستمر في النمو، وفرض احتراما عالميا لالتزامه بمبادئ السلام والديمقراطية. فهل ستستوعب المنطقة هذه الدروس التاريخية التي عاصرنها ودفعنا ثمنها غاليا؟ وهل ستكون حرب العراق آخر الحروب؟ والى لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان