النخبة والسياسة في العراق الملكي (4/8): فكرة المقاومة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أفرزت التطورات التي شهدتها المملكة العراقية، ملامح وعي بارز إزاء مجريات الأحداث السياسية. ولعل مدركات الوعي هذه، كانت نتاجاً موضوعياً لطبيعة المواقف التي أملتها علاقة الحكومة العراقية ببريطانيا، وما يترتب عليها من إجراءات ومواقف، وعلاقة القوى الوطنية مع الحكومة أو بريطانيا. ولابد هنا من الإشارة إلى أن فكرة المقاومة، لم تكن لتترك ملامحها في شكل تحفيز مباشر يقرب من الصدامية. بالقدر الذي استندت فيه الفكرة إلى عامل التقابل وإشعار الآخر، بأن طرف العلاقة يمتلك رأياً، لابد أن يجهر به ولديه إرادة لابد أن يعبر عنها. هذا على حساب منطق "أضعف الإيمان" بالنسبة للسلطة الرسمية. في حين أن فكرة المقاومة لدى المعارضة الوطنية والفئات الشعبية، كانت تأخذ مدى أرحب ومواقف أكثر جلاءً. وليس من المعقول أن يتم ترجيح جهة على أخرى بالنسبة للجانب العراقي. إذ أن الاعتبارات السياسية تفرض نفسها بكل قوة على رجل السياسية المحترف والذي يشغل منصباً رسمياً. في حين أن فسحة التعبير لدى المعارضة واسعة جداً.
كان الإحساس بالضعف واضحاً، فالنقص بالإمكانات والخبرات والأموال ليس بخاف على أحد. أما إذا ما تمت المقارنة مع بريطانيا، فإن هذا الإحساس سرعان ما يتضخم. الواقع أن هذه الحال كانت هي الحافز لتعميق فكرة المقاومة وتفعيل الندية في الوسط السياسي العراقي الاجتماعي، مع ضرورة التنبه هنا إلى اختلاف وسائل التعبير. فالملك فيصل لم يتوان عن التوضيح إلى الدعامة التي يستند إليها، والممثلة في انتسابه إلى البيت الهاشمي الذي قاد الثورة العربية الكبرى (91). فإذا كانت فكرة المقاومة تستند إلى رفض الانصياع فإن الأساس الذي تقوم عليه، لابد أن تكون القوة والحنكة في مواجهة الملمات. والملك في ملاحظته التوضيحية كان يشير صراحة إلى خوضه غمار تجربة المقاومة بكل تفصيلاتها. والواقع أن فكرة المقاومة لدى الملك فيصل لم تكن تجريدية أو نابعة من وجهة نظر أحادية الجانب، بالقدر الذي تطلعت نحو احتواء العديد من المضامين، والتي ركزها الملك في صدق الشعور الوطني والحرص على الدفاع عن قضاياه المصيرية، والحكمة في اتخاذ القرار، حيث قال الملك في معرض برقيته إلى مؤتمر كربلاء في 12 نيسان 1922، في أعقاب الاعتداءات النجدية على حدود العراق الجنوبية: "لقد بلغنا ما تحلى به اجتماعكم هذا التاريخي من مظاهر الحمية الشريفة، والوطنية الصادقة، ومآثر الحكمة والرؤيا، وما أظهرتموه من الإخلاص نحونا، جزاكم عنا وعن الدين والوطن والأمة خير الجزاء" (92).
يتجلى ارتباط مفهوم المقاومة لدى رجال النخبة السياسية العراقية، بالمتاح من القوة لاسيما العسكرية. فنور السعيد الذي عرف عنه شدة وثوق علاقته بالجانب البريطاني، أشار في معرض تعليقه على "قانون الدفاع الوطني" في حزيران 1927: "أيها الناس أعطوني فقط الجيش الذي أريده وسأحطم تمثال مود واستولي على الهنيدي خلال شهر واحد فقط" (93). وبذات الاعتبار عبر "السعيد" عن حرصه على مصانعة الإنكليز خلال الحرب العالمية الثانية. فهو لا يتوانى عن حمل السلاح ضدها، إذا ما توقع خسارتها في الحرب، ولكن المصالح تقتضي الوقوف إلى جانبها حين يقول: "لو كنت أعتقد بأن بريطانيا ستخرج من هذه الحرب مغلوبة لكنت أول من يشهر المسدس عليها" (94). ولم يبتعد عبد المحسن السعدون كثيراً عن هذا المعنى، فالمقاومة التي تعني الرفض لابد أن تستند إلى القوة والتضحية والتهيؤ، وليس الاكتفاء بالكلمات الجوفاء: "فالأمة التي تريد الاستقلال، يجب أن تتهيأ له، ولا يكون ذلك بالكلام والأقوال الفارغة، فالاستقلال يؤخذ بالقوة، والتضحية" (95). وفكرة المقاومة لدى "السعدون" تعني أيضاً رفض الخيانة والعبودية والتشديد على الإخلاص والتضحية بالنفس من أجل تحقيق المبادئ. وليس أبلغ من الوصية التي كتبها ليلة انتحاره في 13 تشرين الثاني 1929 والتي قال فيها: "العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء، عاجزون وبعيدون كثيراً عن الاستقلال. وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وبعد للإنكليز ما أعظم هذه المصيبة! أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني قد كابدت أنواع الاحتقارات وتحملت المذلات" (96).
الموقف الرسمي الصادر عن هيئة الوزارة في العديد من الأحداث؛ عن الاعتبار الهام لحقوق الشعب. وفي هذا يتجلى ارتباط مفهوم المقاومة بالحقوق الدستورية. فإبان الأحداث التي رافقت مناقشات المجلس التأسيسي، حول توقيع المعاهدة العراقية-البريطانية، أعلن المجلس بياناً على الشعب العراقي، أشار فيه إلى أهمية ممارس الشعب لحقه الدستوري، في رفض أو قبول المعاهدة وفقاً للأنظمة والقوانين المرعية: "ويعلن للأمة الكريمة بأن المجلس المتشرف بثقتها، لا يفرط في حقوق الشعب مهما كانت الأحوال، ويلتمس من أبنائه البررة أن ينتظروا قرار المجلس بكل اطمئنان" (97). فيما حرصت الحكومة على تحديد موقفها إزاء الإضراب الشعبي الذي عم بغداد في حزيران 1931، بعد إقدام الحكومة على إعلان رسوم البلديات. وإذا ما كان الشعب قد أعلن رفضه للقرار الحكومي، فإن الحكومة من جانبها ركزت على الجانب القانوني الذي تستند إليه: "لقد قررت الحكومة عدم إكراه أحد على استئناف أعماله، وفتح دكانه، أو مخزنه، وإنها لا تتدخل في حرية الناس بفتح مخازنهم أو غلقها، ولكنها مستعدة لتنفيذ القانون في كل من يتعدى على حرية الغير، ويجبره على العمل خلاف إرادته، فمهمة الحكومة هي صيانة الحريات العامة والشخصية، وتوطيد دعائم الأمن" (98). ولم يغب على الحكومة التشديد على أهمية تنظيم علاقاتها مع أفراد الشعب، انطلاقاً من رضوخ الأفراد للقوانين والأنظمة، ونبذ أعمال التخريب والعصيان المسلح على اعتبار أن مقاومة من هذا النوع، تعد سلبية لما ينتج عنها من أضرار تمس أمن البلاد. فالبيان الحكومي الصادر في 12 مارس 1935 حول الأحداث التي جرت في منطقة أبو صخير يوضح: "إن الحكومة كانت ولم تزل باذلة كل جهودها لإعادة الأمور إلى مجاريها الاعتيادية، وهي حريصة جداً على حقن الدماء، وتأمل أن يرجع الأشخاص الذين قاموا بالأعمال المذكورة إلى الصواب، كما أنها شاعرة بمسؤوليتها العامة، وقائمة بكل التدابير المقتضية للمحافظة على النظام وتأمين الراحة العامة في البلاد" (99). وعلى هذا يمكن التنبه إلى أن تطوراً في استيعاب فكرة المقاومة قد بدا بشكل واضح، لاسيما حين تبرز أعمال المقاومة بوجه الحكومة الشرعية. على اعتبار أن المقاومة هنا، هي نقيض للنظام والأمن. كما أن مفردات مثل "عدم الإخلال بالنظام العام" و"إطاعة القوانين" و"المتمردون" و"تطهير المنطقة" (100) صارت تتردد في البيانات التي تصدرها الحكومة حول الثورات العشائرية، والاضطرابات التي كثرت إبان وزارة ياسين الهاشمي الثانية "17 آذار 1935 - 29 تشرين الأول 1936". وكانت الجهات الرسمية قد حثت جهودها لدراسة الأسباب الكامنة وراء تفاقم حالة "المقاومة" للحكومة. حيث يشير طه الهاشمي: "لقد اتضح أنه يتوقع من حين لآخر تمرد بعض القبائل في لوائي الديوانية والمنتفك بالرغم من الحركات التأديبية التي قام بها الجيش والشرطة، وسوف لا تتخلى القبائل عن التمرد إلا إذا جردت من سلاحها ووزعت الأرض بينها توزيعاً عادلاً" (101). وقد حاولت وجهة النظر الرسمية توظيف فكرة المقاومة إلا دلالة ذات مغزى نضالي، مع الأخذ بالاعتبار أن فعل المقاومة يجب أن يوجه إلى أعداء البلاد. ولا يكون أداة لزعزعة الأمن الداخلي فحكمت سليمان، الذي شغل منصب رئيس الوزارة "29 تشرين أول 1963- 17 آب 1937" خاطب زعماء عشائر السماوة قائلاً: "أقول أن أبناء هذه البلاد رغم أنهم لا يملكون السلاح، فقد أثبتوا أن في وسعهم مقاومة ومقابلة الاستعمار... وبالفعل استطاعوا أن يقاوموا وينالوا ما يصبون إليه ويبتغون. وفي النتيجة -كما ترون- أن العراق يحكم ذاته بذاته، وذلك بفضل عزيمته وتفاني أبنائه" (102).
حاولت الأحزاب العراقية التعبير عن فكرة المقاومة، عبر المواقف التي اتخذتها إزاء الأحداث الهامة، التي مرت بها البلاد. ومنذ بواكير ظهور الأحزاب إبان تأسيس المملكة العراقية، برزت حالة التنسيق بين الأحزاب المجازة، وحشدت في مكنون فكري، ركز على ضرورة حرية القرار العراقي والانتقاء الدقيق في اختيار الشخصيات التي تناط بها المسؤولية، فيما كان للحق الدستوري مكانة بارزة في مطالب الأحزاب، حيث كانت الإشارة إلى رفض أية معاهدة أو مفاوضات مع الجانب البريطاني، ما لم يتم الإعلان عن المجلس التأسيسي العراقي، والواقع أن المطالب هذه، كان قد رفعها الحزبان "الحزب الوطني وحزب النهضة" في 21 آب 1922 إلى الملك فيصل الأول. والمهم في المذكرة المرفوعة تصويبها على: "تأليف وزارة من الأكفاء المخلصين. لكي تطمئن الأمة بإصلاح الحالة، فيزول الاضطراب، وتهدأ الخواطر، وتعم السكينة والراحة في البلاد" (103) فالمقاومة في وعي الأحزاب تقوم هنا على تحصين البلاد بالكفاءات الأصلية، لقطع الطريق على الطامعين في البلاد. وكانت الأحزاب الوطنية قد حثت جهودها نحو تحديد موقفها إزاء الوزارات العراقية المتعاقبة، على اعتبار أنها الواجهة السياسية للبلاد والمسؤول المباشر عن إدارة دفة السياسة فيها. فالحزب الوطني العراقي أشار في بيانه الذي أصدره في 11 نيسان 1930، إلى أهمية الشعور السائد والرأي العام في نظر الوزارة التي تتصدر الواجهة، حيث قال البيان: "إن وزارة السعيد جاءت إلى كراسي الحكم وسط هياج الرأي العام العراقي ضد تصلب الإنكليز، ووسط غضب الشعب الذين يقبلون كراسي الحكم من العراقيين ليكونوا آلة بيد الانتداب يصرفها كيفما يشاء .. فكانت تحدياً للرأي العام" (104). كما حاولت الأحزاب التعبير عن فكرة المقاومة، من خلال استيعابها لهموم الشعب ومطالبه، فكان موقف الحزب الوطني العراقي وحزب الإخاء الوطني من مرسوم البلديات الذي أطلقته وزارة نوري السعيد، حيث ركز بيانهما على: "أن مظهر الإضراب العام كان موضع الإعجاب والتقدير من حيث المحافظة على الأمن والنظام.. ومن بواعث الأسف أن تصرفات الشرطة كانت قاسية إلى حد بعيد، وكانت خارجة عن حدود الواجب والوظيفة" (105).
تصدت الصحف لمعالجة موضوع المقاومة، حيث برز عبر أكثر من معالجة وتناول. فكانت قد توجهت نحو استحضار الرمز الوطني على الشجاعة والتضحية، فكانت وفاة الشيخ ضاري قاتل الكولونيل لجمن "Litchmen"، مناسبة سانحة للتعبير عن النزوع الوطني المترسب في النفوس، حول رفض الخنوع والتذلل للأجانب. فقالت جريدة الاستقلال: "ستكون درساً قيماً للأجانب وإنذاراً للعراقيين الذين يحنون وجوههم للأجنبي" (106). وتوجهت جريدة العالم العربي لمناقشة الفكرة من زاوية قيم القوة المتاحة لدى العرب ودراسة لقضية البداوة والتحديث. فبعد استعراض تاريخي للتسلل الاستعماري في الوطن العربي، أشارت الجريدة: "وهكذا أصبحت الأقطار العربية المتمدنة مستعمرات للأجانب ولم يخلص من بلاء الاستعمار إلا الصحراء والبادية. وفي كل هذه الأدوار المحزنة نرى البدو وحدهم قاموا بوجه الاستعمار رافعين لواء الحرية.. من الذي قام ونهض في الحجاز؟ ومن الذي هاج وثار في العراق وسوريا والجزائر والريف وطرابلس الغرب؟ البدو! البدو! .. فكيف يرتاح إذن قلب العربي الصميم لعملية التحضر؟ وهل يجوز للعرب أن يمحوا قوتهم بأيديهم؟" (107). وتناولت ذات الجريدة فكرة المقاومة من منطلق تشابه المستعمرين في أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم حتى قالت: "إن المستعمرين أخوة وإن انتسبوا إلى شعوب مختلفة. وإن استعملوا وسائط متنوعة فالمستعمرون أخوة في الاستعمار .. يظن البعض أن الإنكليز خير من الفرنسيين، أو أن الفرنسيين أحسن من الطليان، أو أن الطليان أخف وطأة من الهولنديين" (108). وكانت الصحافة قد أكدت على أهمية العزة القومية والعزة الوطنية .. وأجبر بعض أكابر رجالنا بأن يقوموا ويعترفوا أمام جميع العالم بجميل الحلفاء مع أن أولئك الرجال كانوا هم أهل الفضل عليهم، وقد خاطروا بحياتهم وحاربوا معهم ضد أعدائهم؟" (109). وكان الوعي بأهمية التوجه نحو العناية بتنشئة الأجيال الطالعة، والحرص على متابعة المناهج والمشرفين الأكفاء على هذا العمل الدقيق والحاسم، لما له من الأرجحية في ترسيخ فكرة المقاومة لدى الجيل الشاب، حيث أشارت جريدة (نداء الشعب) إلى أهمية دور المدرسين في إنجاز هذا العمل: "ممن كبرت نفوسهم ويحسون بوقار المسؤولية الوطنية ليتمكنوا أن يثقفوا النشء ثقافة وطنية حية" (110). والمقاومة لا يمكن أن ترسخ في العقول والأفئدة، ما لم يتم الحرص على العناية بالمناهج من قبل الهيئات الرسمية، التي عليها أن تأخذ على عاتقها مهمة "تعزيز الروح الوطني وبث الثقافة القومية" (111).
الهوامش:
91- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج1 ص67.
92- عبد المجيد كامل التكريتي، فيصل الأول ودوره، ص 227.
93- نقلاً عن عبد الرزاق النصيري، نوري السعيد ودوره، ص 161.
94- صلاح الدين الصباغ، فرسان العروبة، ط2، مكتبة اليقظة العربية، بغداد 1983، ص 114.
95- محاضر مجلس النواب لسنة 1929-1930، ص16.
96- جريدة العالم العربي، 14 تشرين ثاني 1929.
97- جريدة العالم العربي، 30 أيار 1924.
98- جريدة الأخبار، 6 تموز 1931.
99- جريدة البلاد، 14 آذار 1935.
100- جريدة البلاد، 7 حزيران 1936.
101- د.ك.و، الملفة د/6/3، الورقة، الحركات العسكرية في الفرات الأوسط.
102- جريدة البلاد، 14 شباط 1937.
103- المفيد، "جريدة"، 23 آب 1923.
104- جريدة "الرافدان"، 14 نيسان 1930.
105- جريدة العالم العربي، 8 تموز 1931.
106- جريدة الاستقلال، 2 شباط 1928.
107- جريدة العالم العربي، 1 آذار 1930.
108- جريدة العالم العربي، 2 أيار 1930.
109- جريدة العالم العربي، 26 تشرين أول 1930.
110- جريدة نداء الشعب، 29 حزيران 1929.
111- جريدة نداء الشعب، 2 تموز 1927.