النخبة والسياسة في العراق الملكي (5/8): فكرة المعارضة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
خلقت الأوضاع الشائكة التي رافقت ظهور المملكة العراقية، مناخاً سياسياً مهيأ، لطرح الأفكار والتعبير عن الآراء حول القضايا التي تمس مستقبل البلاد. وإذا ما كانت الآراء المطروحة جميعها، قد أكدت حرصها على القضية الوطنية، فإن الأساليب في التطبيقات والوسائل، كانت الفاصلة العميقة التي ميزت القوى السياسية، وجعلت منهم فرقاً متنافرة. كل منهم يحرص على دعم توجهاته وتقديم أفكاره إلى الواجهة. والواقع أن المعارضة وإن أخذت طابع الرفض والتنديد في الكثير من المواقف، فإن ذلك الأمر لم يكن يعني حالة سلبية، بالقدر الذي كانت تمثل نتاجاً موضوعياً للحياة الدستورية والديمقراطية، التي نادت بها الحكومة العراقية ومنذ بواكير تأسيسها.
أتاحت الخبرة التي اكتسبها الملك فيصل الأول على الصعيد السياسي، الإمساك بفكرة المعارضة بشكل لماح وذكي. فالمتاح والممكن، يكون طريقه من خلال التفاوض مع البريطانيين. في حين أن المأمول والطموح يمر عبر المطالب الوطنية. وعلى هذا حاول الملك في موقفه السياسي، أن يكون في أعلى درجات المرونة. تلك المرونة التي حاول الإمساك بقيادها وحرص على التعامل بها، ليثبت من خلالها أنه جدير باتخاذ الموقف السياسي الملائم إزاء التطورات المفاجئة، بالإضافة إلى اعتداده بنفسه وحذره الشديد من اتهامه بالانقياد للرغبات البريطانية (112). كما أن الملك كان يسعى في خطابه السياسي نحو حث الجهود الوطنية المساندة للفعاليات الحكومية بوعي وشروط، حيث يشير: "فاستفز شعبي إلى مؤازرة حكومته بتأييد النظام داخل المملكة، ومساعدتها على إنفاذ القوانين .. قارنين ذلك بالثقة والولاء للأمة" (113). والملك يولي الإفصاح عن الرأي أهمية استثنائية، إذ يصفه بالشرف العظيم ولاسيما وأن البلاد يتوقف مستقبلها على الآراء السديدة المخلصة. إذ يوضح في خطبة العرش خلال افتتاح المجلس التأسيسي في 27 آذار 1924: "إن الأمة التي اختارتكم من بين أبنائها، وأولتكم ثقتها، قد فوضت إليكم حرية الإعراب عن نياتها ورغباتها في أمور يتوقف عليها سعادتها وفلاحها، ولعمري إن هذا لشرف عظيم أحرزتموه لما لإخوانكم من الثقة التامة بإخلاصكم وتفانيكم في خدمة بلادكم.. إن التبعة الملقاة على عواتقم لتبعة ثقيلة يتوقف عليها نهوضكم بها بالحكمة والشجاعة سعادة الأجيال المستقبلية" (114). والقبول والرفض في فكر الملك لا يقوم على أساس المصلحة الشخصية، بالقدر الذي يربطه بالمنافع التي يمكن أن تعود على البلاد، مع التركيز على أهمية التوقيت المناسب والفرصة السانحة للإفصاح عن النوايا والأهداف الوطنية (115). وهو لا يبرم بحرية الرأي بل يعتبرها خدمة وطنية، حيث يقول: "إني في موقفي هذا لمغتبط جداً بما أظهره أعضاء مجلس أمتي من الكفاية في ممارسة أعمالهم. فقد أبرمتم بسرعة ما كان صالحاً ومفيداً، وانتقدتم بحرية تامة ما كان قليل النفع للبلاد، وبذلك خدمتم وطنكم خير خدمة، وإنا لنشكركم على ذلك، ونخصكم بأجمل الثناء" (116). وإذا ما كان الملك قد توجه للإفصاح عن فكرة المعارضة من خلال أسلوب التوفيق، فإنه في المواقف الحرجة، كان يعمد للتعبير عن معارضته كأشد ما يكون وبجرأة واضحة، فهو يخاطب المندوب السامي البريطاني في رسالة بعثها في 20 آب 1922: "وصلت البلاد إلى درجة لا يجوز التغافل عنها، ولذلك فتنصلا من المسؤولية المادية والمعنوية، تجاه وطني وتجاه صديقتي بريطانيا العظمى .. أراني مضطراً على أن أخبر فخامتكم بكل صراحة ووضوح أن تخاطبوا، إذا شئتم وزارة المستعمرة بأني لست مسؤولاً عن نتائج التردي والتغاضي في الإدارة والسياسة التي لا يبعد أن ينشأ عنها ثورة شديدة الخاطر" (117). والمعارضة في وعي الملك لابد أن تكون إيجابية، هدفها خدمة الوطن وإعلاء شأنه، و إلا فإنها مجرد معول هدم وأداة خراب، حتى أنه لم يتوان عن التعبير عن اندهاشه واستغرابه، لموقف بعض رجال المعارضة لمقاطعة الانتخابات المجلس التأسيسي عام 1923. حيث قال: "أنا لم أسمع ولم أر في حياتي أن أمة تريد استقلالها ثم تتقاعد عن طلب الحكومة إليها في استعمال سيادتها في جمع مجلسها الممثل تمثيلاً شرعياً، هذه غريبة ولم يلد مثلها التاريخ ولا أرضاها لأمة في أبنائها" (118). وعلى الرغم من الاحترام والتقدير الذي يكنه الملك فيصل للرأي الآخر، إلا أنه وفي سبيل بلوغ أهداف هامة وكبيرة تخص مستقبل البلاد، كان يعمد إلى إقرار الرأي الذي يراه الأنسب والأوفق. ففي معرض وصفه للجهود التي بذلها حول سير الانتخاب أشار: "ولقد اعترضتني مصاعب جمة في هذا السبيل فلم أحفل بها لأنني كنت ولا أزال معتقداً بأن التصديق على المعاهدة قوام لهذه المملكة وأن أعمالي إنما ترمي إلى تحقيق واجب مقدس يهون دونه كل عسير" (119).
تبلورت فكرة المعارضة لدى رجال النخبة السياسية، في مواقف المناورة ومحاولات امتصاص نقمة القوى الوطنية. وانطلاقاً من الوعي بصدق المطالب الوطنية ومشروعيتها، كثيراً ما كانت التصريحات الرسمية تقترب من المطالب الوطنية. إلا أن الواقع كان يفصح غير ذلك. فعبد الرحمن النقيب الذي ألف ثلاث وزارات كانت آخرها "30 أيلول 1922 - 16 تشرين ثاني 1922". صرح عن موقفه المناوئ للانتداب، بقوله: "أنا أول من يمقت الانتداب، ويقف إلى جانب تأجيل الخوض في مفاوضات المعاهدة، إلى أن يلتئم المجلس التأسيسي الذي يقرر شكل الحكم ويضع أسسها" (120). وعلى الرغم من المرونة والمناورات التي أقحم رجال النخبة السياسية فيها، لمواجهة مطالب المعارضة الوطنية. إلا أن البعض منهم، لم يكن بيده إمكانية الاستمرار. ولعل موقف عبد الرحمن النقيب يكون مثالاً ساطعاً على تلك الحالة. إذ تحرج موقفه واضطر إلى إعلان استقالته، بعد صدور الفتاوى الدينية في تشرين الثاني 1922، والقاضية بتحريم المشاركة في الانتخابات (121). إذ كيف يمكنه تقديم مبرراته وهو رجل الدين ويستمد احترامه ومكانته، نسبة إلى عراقة أسرته "الكيلانية" ذات السمعة الرفيعة في العالم الإسلامي. أما عبد المحسن السعدون فكان ينظر إلى المعارضة كقوة لا يستهان بها. لذا نراه يتوجه نحو إرضائها، حين يوضح: "فحرية الاجتماع مباحة وفق القانون والحكومة مستعدة لإجازة الاجتماعات العامة، ولم يطلب منها حتى الآن إجازة لعقد اجتماع عام، وهي لا تمانع في تشكيل الأحزاب السياسية بل ترحب بها والصحافة الحرة، ولم تطلب جريدة سياسية رخصة إلا ونالتها" (122). بل ويعمد إلى شحذ الهمة نحو إزالة العقبات التي تعترض سبيل التفاهم معها حين يشير: "إن من المصالح عدم إثارة الرأي العام في الوقت الحاضر في مسألة الانتخابات إلى أن تتوصل إلى رفع سوء التفاهم بينها وبين القوى المعارضة" (123). ولابد لنا هنا من التنبه إلى أن موقف السعدون من المعارضة، لم يكن يعني الانقياد الكامل لرغباتها، بل إن القرار النهائي كان في يده، طالما أن السلطة القانونية في يده، مما يتيح له القدرة على مواجهة مناوئيه (124).
ويبدو أن رجال الواجهة السياسية، قد استمروا لعبة مدح المعارضة ونعتها بأحسن الأوصاف، من أجل إمرار غاياتهم وأهدافهم. فنور السعيد أشار قائلاً: "المعارضون أشد وطنية مني، إلا أنني أعتقد بأن سياسيتي هي الأوفر حظاً، والأحسن للوصول إلى الغاية التي ننشدها جميعاً" (125). إلا أن هذا الأمر، لا يعني بأن علاقة رجال الواجهة السياسية بالمعارضة، كانت تسير بشكل نموذجي، إذ كشفت الأحداث السياسية عن القمع والشدة، بل والتهديد والضغوط التي مورست، حتى أنه كان من الملفت للانتباه. إن بعض رجالات المعارضة الوطنية النشطين، كانوا حين يصلون إلى السلطة السياسية يتناسون مواقفهم السابقة، بل ويظهرون بقسوة أشد من الذين عارضوهم وانتقدوهم في السابق. فياسين الهاشمي قطب المعارضة البارز، لم يتورع حين تسنم منصب رئاسة الوزارة من التلويح بوسائل القمع لكبح المعارضة، مستنداً في ذلك إلى جهاز البوليس: "إن الحكومة تحتفظ بجهاز للأمن قوي وقادر على كشف النشاطات التي تحول دون الإصلاح. والبلاد أصبحت في مأمن من الدسائس والمكائد بفضل ما لديها من الأجهزة الكافية لمحاسبة ومعاقبة أي شخص يقدم على الإخلال بالأمن والنظام"(126).
لقد حاولت المعارضة الوطنية التعبير عن مواقفها إزاء الأحداث السياسية بكل جرأة. وكان الحرص على البحث الجاد، عن الأساليب والمجالات التي يتم من خلالها ترصين المطالب وتدعيم الأهداف، فإزاء الإصرار البريطاني على إمرار المعاهدة، توجهت الإرادة الوطنية نحو استخدام سلاح الفتاوى الدينية. والتي لا يمكن الوقوف بوجهها، لاسيما في مجتمع محافظ نشأ على أساس النزعة الاحترامية للعقائد ورجال الدين. فكانت فتوى الشيخ مهدي الخالصين التي نصت على: "لذلك فالاشتراك بالانتخابات محرم شرعاً بإجماع المسلمين، ومن يشترك فيه تحكم بخروجه من ربقة المسلمين" (127). وإذا ما كان سلاح الفتاوى يقوم على تحريض الحماس والمشاعر الدينية. فإن الخطاب السياسي للمعارضة الوطنية استند إلى مبررات منطقية والحجج العقلية الناضجة. وهذا برز في أكثر من موقف. فرؤوف الجادرجي عضو المجلس التأسيسي يناقش لائحة المعاهدة قائلاًك "إن أكثر مواد المعاهدة جاءت أثقل من مواد الانتداب الذي لا يحوي هذه الملاحق ولهذا كان من الأفضل تعديل المعاهدة وملاحقها من أولها إلى آخرها" (128). الأمر المهم في المنطق الذي استندت إليه المعارضة الوطنية، هو وعيها لمطالبها ومعرفتها الدقيقة لما تريد وترغب. فالمطالب التي قدمها الوطنيون إلى المندوب السامي قبل تتويج الملك فيصل كانت قد ركزت على؛ إطلاق حرية الصحافة والاجتماعات، وتشكيل الأحزاب السياسية وإصدار العفو العام عن السياسيين وإلغاء الأحكام العرفية، والعمل على البدء بالإجراءات الخاصة بالانتخابات (129). ولم تكن مطالب المعارضة تنتهي بالتقادم، فالإصرار عليها كان السمة البارزة التي ميزتها، فالمطالب سرعان ما رفعت بوجه السلطة، كحالة مشروطة. فأما تنفيذها أو الإعراض عن المشاركة ومقاطعة الانتخابات (130).
كان الشعب والأوضاع التي تحيط به، من الأمور التي أصرت المعارضة على تناولها وعرضها أمام السلطات. وأشارت إلى ضرورة قيام السلطة بواجباتها إزاء الشعب الذي وثق بها: "إن البلاد تئن اليوم تحت ضيق الأزمات المالية والأسواق الكاسدة والمحصولات الزراعية مرمية هنا وهناك ومعروضة للبيع بأثمان بخسة. لهذا فإننا لا نرى من الحكمة أن تفرض الحكومة ضرائب جديدة وتضيق الخناق على الأهلين المتفجرين من توقف الأمور في البلاد" (131). وإذا ما كانت المعارضة الوطنية قد راعت ظروف السلطة، وصبرت على بعض مطالبها حرصاً على مصلحة الوطن، فإن الأصوات سرعان ما تنادت بضرورة تلبية هذه الرغبات. حيث أشار ياسين الهاشمي في مجلس النواب: "فألفيت أن الإدارة التي كانت مشتركة في المسؤولية بين الانتداب والأماني الطيبة وهي لا تزال على وضعها.. من حرمان للحريات المنصوص عليها في القانون الأساسي والممنوعات التي لا يقرها الدستور. فلما وجدت بشارة العهد الجديد وحصول البلاد على الاستقلال فكرت في مثل هذه الأمور، وددت لو أن الوزارة أشارت بشيء من الصراحة إلى الإسراع بتبديل هذه الأوضاع" (132). والمعارضة بكل ما أدته من دور وطني وما أقدم عليه رجالاتها، لم تخلص من اندفاعات السياسيين وتزاحمهم على المناصب. فكانت خيبة الأمل، حالة تلبست العديد من المعارضين. لاسيما في رموز المعارضة، حتى كانت التساؤلات الاستنكارية حول تبدل موقف ياسين الهاشمي من المعاهدة العراقية-البريطانية، وإقباله للتعاون مع نوري السعيد (133).
عبرت الأحزاب السياسية العراقية عن مواقفها إزاء الأحداث السياسية. وكانت فكرة المعارضة لديها قد تركزت في ضرورة حشد الجهود من أجل إنهاض البلاد. فالحزب الوطني العراقي وحزب النهضة، وهما من أوائل الأحزاب الوطنية في العراق، حرصاً على التعبير عن رأيهما في قضية إتمام المؤسسات الدستورية والقانونية في العراق، كي ينهض بمسؤولياته الوطنية، حتى كانت الخطبة التي ألقاها الشيخ محمد مهدي البصير في الذكرى السنوية الأولى، لتتويج الملك فيصل الأول في 23 آب 1923: "تتذكرون أيها السادة ويتذكر صاحب الجلالة أننا رفعنا أصواتنا قبل هذا اليوم من العام المنصرم، وقت إبرام البيعة، فطلبنا جمع المجلس التأسيسي، وتأليفه خلال ثلاثة أشهر تبدأ من نظير هذا اليوم في العام الماضي وقد انقضت المدة المذكورة وانقضت السنة كلها ولم يلب ذلك الطلب" (134). ومن أجل تنسيق الجهود ودعم مواقف الأحزاب الوطنية المعارضة، برزت حالة التآخي بين الأحزاب. إذ عمد حزب الإخاء الوطني إلى عقد تحالف وتوقيع وثيقة تآخي مع الحزب الوطني العراقي، تم إبرامها في 23 تشرين ثاني 1930. لمواجهة حكومة نوري السعيد، التي تغاضت بشكل سافر عن مطالب المعارضة الوطنية.
وكان الحزبان المتآخيان قد وجها العديد من المذكرات إلى الملك فيصل، عبرا فيها عن التصرفات غير القانونية لوزارة نوري السعيد: "إن استمرار الوزارة في تصرفاتها غير القانونية وعبثها في حقوق الأفراد والجمعيات مما يؤلم قلوب الأمة ويؤثر فيها التأثير السيئ. ولا شك أن نتيجة هذا: إبعاد الأمة عن الحكومة وتوليد اعتقاد بأن الحكومة ليست بالهيئة المكلفة بالمحافظة على مصالح الأمة والساعة لخيرها وإنما هي خصم قدير يدبر المكايد لها للفتك بها" (135). وتوجها نحو شرح القضايا التي تمس مستقبل البلاد، لاسيما فيما يخص الموقف من المعاهدة العراقية-البريطانية، إذ أشارا في مذكرة أخرى: "فأول أمنية عرضها زعماء القطر ورجالاته وهيئات الوفود الموحدة من الأنحاء المختلفة التي تداولت مع رجال الوفد كانت توسيط هيئتي الحزبين للالتماس من جلالتكم أن تستعملوا حقكم الدستوري في عدم تصديق المعاهدة" (136).
عبر الحزب الوطني العراقي عن احتجاجه على الإجراءات القمعية التي كانت تعمد لها الوزارة، حيث تساءلت المذكرة المرفوعة إلى وكيل وزارة الداخلية باستنكار: "كيف يتسنى للحزب تقرير ما يراه صالحاً في أمر الانتخاب إذا حظر عليه مواجهة أعضائه والمنتمين إليه" (137). وكان الحزب قد أشار إلى الخروقات القانونية التي تعمد لها الوزارة. من خلال مقارنة موقفها غير المستند إلى أساس دستوري: "ومن المؤسف يا صاحب الجلالة أن تؤيد الوزارة موقفها السلمي إزاء تمتع العراقيين بحرية الرأي والتفكير بمنعها الاجتماع الذي طلب عقده قبل أيام شبان مهذبون دون مبرر قانوني. وبينما تكون الوزارة في نجوة من الحساب في تجنيها على قانوني الاجتماع والتجمع النافذين في العراق نجد الشبان .. ماثلين أمام القضاء ومساقين إلى السجن كجناة" (138).
كانت الصحف العراقية قد استندت في طرح آرائها المعارضة، إلى أهمية إعلاء مصلحة الوطن، وتحقيق آماله وطموحاته في الاستقلال. حيث أشارت جريدة الاستقلال: "ولنصدر جرائدنا ولنكتب ما نشاء وننتقد ما نريد ضمن حدود القانون والشرف والوجدان، فإن رأينا الحكومة صادقة فيما تدعيه من أنها تحافظ على حريتنا المطلقة فيها، وإلا فيحق لنا آنئذ أن نقف بوجهها ونقاطعها ونضطرها إلى التخلي عن موقعها" (139). فالموقف هنا منوط بقرار السلطة ومدى فاعليتها في تحقيق الأهداف المنشودة. والمعارضة تفصح عن نفسها في اعتمادها على المتاح والموجود من النصوص القانونية، إضافة إلى صوت العقل والضمير الصادق، الموجه نحو خدمة الوطن. وفي معرض تقييم حالة الصراع السياسي عمدت جريدة (العالم العربي) للتصريح: "ورجالنا المخلصون هم "بركة" ولكن القسم الأعظم منهم يشتغلون الرياح. أما غير المخلصين فهم أيضاً كثيرون. ويستعملون ذكاءهم في الباطن، ويركضون وراء غاياتهم المعينة. وطبيعي نهم لا يدخلون في الحساب لأن حسابهم غير حساب! ويا لذلهم وخسارتهم يوم تسود وجوه وتبيض وجوه" (140). فالتقدير والاحترام بارز للرجال الصادقين في وطنيتهم. إلا أن المطالب كانت تتركز في أهمية العمل المثمر، الذي يؤدي إلى نتائج يعم خيرها على الوطن. والطريق لابد أن يكون واضحاً فقضية الوطن لا تحتمل التجربة والخطأ، وهي ليست ميدان تجريب: "هذا يريد أن يخدم البلاد ولكنه يجهل الطريق، وذاك يعرف الطريق ولكنه لا يخدم إلا نفسه! هذا يركض وراء الزعامة الكاذبة تحت جنح الإنكليز، وذلك يركض وراءها متوسلاً بأعداء الإنكليز! .. هذا يصرخ! "الوطن والأمة!" غير أن الوطن والأمة لا يستفيدان" (141). وساهمت الصحافة في تنبيه الأذهان إلى أهمية صدق الموقف السياسي، وعدم الانقياد وراء الأسماء السياسية البراقة، أو الكلمات الرنانة التي لا تخدم قضية البلاد. بقدر ما تكون في خدمة أصحاب الأفواه التي ترددها: "وأنت يا شعب كفاك أن تنخدع وتنوهم بعد هذه التجارب المرة. فلا يغرنك من بعد اليوم الكلام المزوق. والوطنية الكاذبة والزعامة الفارغة والسداير الأنيقة والعمائم الكبيرة والذقون المنفوشة والخطب الرنانة" (142). وإذا ما كانت التطورات السياسية قد أفصحت عن حالة العداء السافر، بين الحكومة والمعارضة على اعتبار اختلاف الآراء والمواقف إزاء التطورات والأحداث. فإن الرأي كان يصب في أهمية المعارضة لدعم موقف الحكومة. لا من حيث الالتفاف على موقفها وإسكاتها أو التلويح لها بالمكاسب والمغانم وشراء ذمتها، ولكن من أجل دعم القضايا التي تهم البلاد: "في وضعنا الحاضر أقوى مسند للحكومة هو الأكثرية الساحقة -كما يتراءى لنا- بل هو المعارضة. فمن صالح الوطن ومن صالح الحكومة إذن أن يكون عندنا معارضة منظمة ونزيهة غايتها خدمة البلاد الحقيقية لا الصعود على الكراسي فقط فالمعارضون المخلصون هم كالسيوف المسلولة في وجه كل خصم للوطن فعلى الوطنيين الذي يتحملون أعباء الحكم أن يستفيدوا من المعارضة ويقدروها حق قدرها" (143).
الهوامش:
112- د. عبد المجيد كامل التكريتي، الملك فيصل الأول، ص 138.
113- جريدة العراق، 14 تشرين أول 1922.
114- مذكرات المجلس التأسيسي، ج1 ص5.
115- جريدة العالم العربي، 10 حزيران 1924.
116- جريدة العالم العربي، 8 حزيران 1927.
117- د.ك.و، إضبارة 92 ورقة 86 رسالة من الملك فيصل إلى المندوب السامي في 20 آب 1923، ملفة المعاهدة العراقية البريطانية.
118- جريدة العاصمة، 2 تموز 1923.
119- د.ك.و، الملفة د/6/2 ورقة 12، رسالة من الملك فيصل إلى كورنواليس في 3 أيلول 1923، سير الانتخابات للمجلس التأسيسي.
120- جريدة الاستقلال، 25 حزيران 1922.
121- جريدة العاصمة، 23 تشرين ثاني 1922.
122- جريدة الاستقلال، 15 تموز 1923.
123- جريدة العاصمة، 13 تموز 1923.
124- علي الشرقي، ذكرى السعدون، ص 65.
125- جريدة صدى العهد، 28 آذار 1931.
126- محاضر مجلس النواب لسنة 1936، جلسة 15، 4 كانون الثاني 1936، ص ص 188- 189.
127- ملفات وزارة الداخلية، تسلسل 110 رقم 4/4/s رقم 49، ملفة الانتخابات والعشائر.
128- مذكرات المجلس التأسيسين ج1 ص 307.
129- جريدة الاستقلال، 27 تشرين أول 1920.
130- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج2 ص 28.
131- جريدة الاستقلال، 7 تشرين أول 1923.
132- محاضر مجلس النواب لسنة 1933، ص6ز
133- جريدة الطريق، 28 آذار 1933.
134- جريدة المفيد، 25 آب 1922.
135- د.ك.و، الملفة 1205/311 و19 23، إلى الملك فيصل الأول في 24 أيلول 1931.
136- د.ك.و، الملفة 1205/311 و10 ص11 في 11 كانون الثاني 1931.
137- د.ك.و، الملفة 1206/311 و8 ص8 في 31 كانون أول 1932.
138- د.ك.و، الملفة 1204/311 و2 ص7 في 12 تشرين أول 1930.
139- جريدة الاستقلال، 18 تموز 1923.
140- جريدة العالم العربي، 29 حزيران 1929.
141- جريدة العالم العربي، 23 نيسان 1930.
142- جريدة العالم العربي، 8 آب 1930.
143- جريدة العالم العربي، 29 آب 1930.