كتَّاب إيلاف

السجال الانتخابي الفرنسي عن الهوية الوطنية..

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يستمر الهرج والمرج في حملات الرئاسة الفرنسية كلما اقترب موعد الدورة الأولى بعد حوالي الشهر. إن موضوعات الخلاف والسجال عديدة، غير أن مسألة "الهوية الوطنية" تحولت إلى محور الحملة الانتخابية منذ أن اقترح المرشح الديجولي للرئاسة، نيقولا سركوزي، تشكيل وزارة خاصة ب" الهجرة والهوية الوطنية.
إن أول ما راج تعبير "الهوية" دوليا على حد ظننا كان في الستينيات، عندما استقل العديد من البلدان الأفريقية والآسيوية بعد عهود الاستعمار. كان هذا المصطلح أو المفهوم يرافقه تعبير"الثقافية" لتصبح "الهوية الثقافية".
لقد اتخذت الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو خاصة عدة قرارات بهذا الخصوص، وقامت المنظمة الدولية الأخيرة ولا تزال تقوم بسلسلة من المشاريع والأنشطة لصيانة الهوية الثقافية للبلدان المستقلة حديثا، و يقصد بها إحياء اللغات المندثرة أو المهمشة، وصيانة الآثار والمعالم التاريخية، وتقديم العون لتنشيط للحرف التقليدية والتعريف الدولي بكل ذلك. في الوقت ذاته راجت معادلة " الهوية الثقافية ـ الحداثة"، مع تركيز خاص ومستمر على صيانة الهوية الثقافية من أي "غزو ثقافي" غربي""، واستخدمت هذه المعادلة كثيرا في البلدان العربية حتى كادت أهمية الانفتاح على الحضارة الحديثة تصبح في المؤخرة لحساب الأفكار والتقاليد القديمة، وصار التخويف من "الغزو الثقافي الاستعماري والصهيوني" سلاحا في أيدي التيارات القومية والإسلامية لتبرير التعصب القومي والتطرف الديني. وكنت شخصيا قد أصدرت في بداية الثمانينيات كتابا كان مجموعة مقالات بعنوان "في الغزو الثقافي."
إن السجال الانتخابي الفرنسي الراهن لا ينتمي لما مر من مفاهيم ومساجلات تخص البلدان النامية، برغم أن المثقفين الفرنسيين خاصة مازالوا يحذرون من انتشار الثقافة الأمريكية، لاسيما السينما، بل حتى الهمبرغر صار عندهم نوعا من الغزو على حساب الهوية والمصالح الفرنسية! وكان المزارع المتطرف جوزيه بوفيه قد نظم سلسلة مداهمات لمحلات الهمبرغر خارج باريس، وقعت امرأة ضحية إحداها فحكم على بوفيه بالسجن وبعدئذ أطلق سراحه، ولكنه تحول إلى رمز يساري بارز وحتى كان يدبر لترشيح نفسه للانتخابات. ماذا كانت نتائج تلك الحملات العدائية؟ نتيجة كل تلك الدعايات المعادية جاءت عكسية، فالأفلام والمسلسلات الأمريكية هي التي تبث في العشرات من محطات التلفزيون الفرنسية، بينما أكلة الهمبرغر هي الأكلة المفضلة لدى الشبان والأطفال وعائلاتهم في وقت الفطور أو الظهر.
إن المساجلات الانتخابية الساخنة عن اقتراح المرشح الديجولي أثارها أولا الاشتراكيون وسائر القوى الموصوفة باليسار، معتبرين الاقتراح تعصبا قوميا موجها ضد المهاجرين؛ وقد رد صاحب الاقتراح بأنه استعمل نفس المصطلح عام 2002 دون أن يعترض أحد ويناقش، قاصدا أن إثارة الموضوع كما يفعله "اليسار" و"الوسط" حاليا مجرد تكتيك انتخابي للخلط بين الديجولية وأقصى اليمين. إن موضوع الهجرة مرتبط بهذا التأكيد الجديد على الهوية الوطنية الجمهورية، وهو موضوع حساس تتصادم حوله المواقف السياسية. بل هو موضوع يثار كل مرة في دول الاتحاد الأوروبي. إن أقصى اليمين "اللوبيني" يطالب بوقف الهجرة نهائيا، بينما يطال سركوزي بوضع ضوابط للهجرة. أما القوى الموصوفة تاريخيا باليسار الفرنسي، فتعتبر كل تحديد للهجرة ومس باللاجئين غير الشرعيين خروجا عن قيم الجمهورية ومبادئها. ومنذ أيام قليلة طالبت المرشحة الاشتراكية رويال بمنح الإقامة الشرعية مرة واحدة لعشرات الألوف من المهاجرين غير الشرعيين، وتقدمت المرشحة باقتراح "تأسيس جمهورية جديدة". أما بايرو،المرشح الذي يطرح نفسه وسطا، وهدفه، كما يقول، جمع اليسار واليمين معا، فهو يتقدم باقتراح تشكيل وزارة "للتضامن الاجتماعي." وهذا الاقتراح، كسائر شعارات حملته، مطاطي جدا.
إن مفكرين فرنسيين كبارا قد عملوا في القرون القليلة المارة على ترسيخ مبدأ الولاء للوطن، ومثلا قال "توكفيل" في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بعد زيارة طويلة للولايات المتحدة، إن أهم ما جلب نظره وأثار إعجابه هناك هو الشعور بالوطن، حيث نجد هذا الشعور من القرية وإلى ولاية بكاملها. ومما كتبه، وهو ينتقد الفردية الفرنسية الطاغية:
"إن المواطن [ الأمريكي] متعلق بكل مصلحة من مصالح بلاده كما لو كانت مصالحه هو، وهو يعتز بأمجاد الأمة ويرى إسهامه الشخصي كل نجاح لها. إنه يشعر بالسعادة للرفاهية العامة التي يعرف أنها لفائدته."
لقد دلت الاستفتاءات على أن 55 بالمائة من الفرنسيين يؤيدون اقتراح سركوزي، مما جعل رويال تعدل موقفها، فقد عادت رويال منذ أيام وتراجعت عن رفضها المطلق لمصطلح "الأمة" لتقول إنها تفرق بين الولاء للأمة [ الوطن] وبين التعصب القومي؛ وأكثر من ذلك طلبت من كل فرنسي أن يمتلك في بيته العلم الفرنسي، ومجدت النشيد الوطني. ومعروف أن اليسار ينشد في الاحتفالات النشيد الأممي، ويرفع العلم الأحمر، وفي الاجتماع الانتخابي قبل يوم لزعيم حزب العمال الشيوعي المتطرف انتهى الاجتماع بقراءة النشيد الأممي. ومعروف أن تجمعات وأحزاب أقصي اليسار والمرشحة الشيوعية جعلوا محور حملتهم الانتخابية "لا للبرالية."
الحقيقة، أن ما يقصده مقترح سركوزي هو الولاء والاحترام للقوانين والمبادئ الجمهورية، أي وجوب التزام كل فرنسي، ومهما كان أصله ودينه، بمبادئ الجمهورية وبالقوانين، فلا استثناء، كما يفعل كثيرون من المراهقين والشباب من أبناء الهجرة، المغاربية والإفريقية السوداء، بتحدي القانون. ومنذ يومين فقط، قام الشبان السود في المحطة الشمالية بأعمال عنف ضد الشرطة لأن أحدهم دخل المترو بلا تذكرة فاعترضه المفتشون. هنا أيضا وقفت أطراف "اليسار" والمنظمات الإنسانية إلى جانب الهائجين وأدانوا "وحشية الشرطة"، وفسر القائمون بالاضطرابات موقف المفتشين والشرطة بالعنصرية ضد البشرة السوداء! إن ما يصدم أكثر هو أن هذا الشاب الذي كان سبب الاضطرابات تبين أنه مقيم غير شرعي وأنه متكرر الجرائم، من سرقة، واعتداء، وتهديد حتى لديه عند البوليس 22 ملفا بذلك [ 22 بس!]
إننا لا ننسى أحداث الشغب والاعتداءات في الضواحي عام 2005، التي جعلت وزير الداخلية عهد ذاك سركوزي يصف المعتدين ب"الغوغاء". هنا توالت الاحتجاجات الصاخبة على استعمال هذه الصفة، وصوروها كما لو قصد بها كل أبناء الهجرة وليس الأقلية المتعودة على العنف وانتهاك القانون. ضج اليسار ومنظمة "معاداة التمييز"والتنظيمات في الضواحي ضجيجا عاليا لا يزال مستمرا . لكن بماذا يمكن وصف من هاجموا قوات الشرطة، وسائقي الحافلات العامة، وأحرقوا آلاف السيارات الخاصة؟!
إن "اليسار" يتعثر ويتناقض تجاه موضوع الهجرة، وبايرو يكاد يتجاهل المشكلة، ولكنهم يرفعون الصوت عاليا ضد البوليس عندما يتدخل لرد اعتداء، أو اعتقال مهاجر غير شرعي لإخراجه من فرنسا.
من المعلوم أنه منذ تولي الاشتراكيين للحكم في بداية الثمانينات اتبعت الدولة سياسة التسامح المفرط في معالجة جنح الشبان من الضواحي، وتجاهلوا أهمية الناحية الأمنية وسيادة القانون، وهو ماكلفهم الفشل الذريع في انتخابات 2002. كانوا ولا يزالون يفسرون جرائم الأقلية من المراهقين والشباب في الضواحي بأن المسؤولية تقع على المجتمع وعلى الفقر، في حين أن سكان الضواحي يتمتعون بالعون الاجتماعي والصحي كغيرهم من الفرنسيين، [نقطة ضوء: لقد وضعنا بين أقواس كلما جاء ذكر اليسار الفرنسي وذلك لأننا نعتقد أنه يختلف عن معظم القوى اليسارية الأخرى في الغرب لرفضه الإصلاحات، وتشبثه بالنموذج الاقتصادي والاجتماعي، الذي تسبب في نسب عالية من البطالة، وفي خفض النمو الاقتصادي، وتراكم العجز المالي للدولة حتى بلغ ألفا ومائة مليار يورو.]
إن السجال الفرنسي يمسنا بعض الشيء وبدرجة ما، رغم التباين الجوهري بين الوضعين، ففرنسا دولة ديمقراطية راسخة ومستقرة، أما العراق، فيكاد يتمزق، ويغرق بالدم. إن الموضوع يهمنا حين نجد الشعور الوطني في العراق قد تراجع كثيرا جدا أمام أشكال الولاء الفرعي، من عرقي، ومذهبي، وديني. إذا كان الفرنسيون بأكثريتهم، وهم في بلد ديمقراطي كبير ومستقر، يطالبون باحترام وترسيخ الهوية الوطنية، فكيف بنا نحن، إذ يكاد الولاء للوطن يتلاشى تدريجيا؟؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف