كتَّاب إيلاف

مناحة من أجل حكامنا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الإلهامُ حليفي دوماً. ربما لهذا السبب، دعاني الأصدقاءُ " أبا ملهم ". جُعلتُ فداءهم وفداءكم، فأنا أقدّس الصداقة والأخوة والجامعة العربية. لو كنتم، مثلي، تحيون في الغربة، لعلمتم معنى الوطن.... إنه يعني، في واقع الحال، هكذا. نعم وبكل صدق! مضى عمر كامل في هذه البلاد الغريبة، اللعينة، وكأنه يوم واحد لا غير. كأنني وصلتُ إلى المطار البارحة، وبيدي جواز سفر مزوّر. قالوا لي، إجلس وإنتظر المترجم، بليز. فجلستُ وإنتظرت. شّرف أخونا، أخيراً. كان كردياً سورياً، كما عرّفني بنفسه. " يا حبيبي! هل سيكلمني بلغة كاني ماني، أيضاً!؟ "، فكرتُ بقلق. ولكن الرجل، للحقيقة، طلع شهماً. كان المحقق يسألني، عن سبب إختياري للسويد كمكان إلتجاء. فأجيبه: إنه إلهام! لم يفهم، للوهلة الأولى، ما أعنيه. وقامَ المترجمُ يشرح له الكلمة، إنما ليسَ بدون عناء. يسألني المحقق بعد ذلك، لماذا قدمت بجواز سفر يوناني. فأقول له: إلهام! كل أجوبتي، كانت تكرر المفردة نفسها: إلهام.. إلهام يا ناس! كان الوقت يمضي على هذا المنوال، ساعة بساعة. فجأة، غادر المحقق الحجرة لبرهة، ثمّ ما عتم أن عاد وبيده أوراق سلمها لي: " إنها بالعربية، وفيها حقوقك كلاجيء سياسي "، قال أخيراً، وهوَ ينفخ متضجراً. إلتفتُ بدوري إلى المترجم، فشكرته على المساعدة. قال لي الرجل: " بل أشكرْ الإلهام، لأنه هوَ من ساعدكَ! ".

أنا في الغربة، إذاً. ولكنني لستُ بعيداً عن هموم الأمّة، شاركت بوجداني وضميري في معاركها كافة. غيابياً، يعني. إنما مع وصول أطباق الفضائيات إلينا هنا، لماذا لا تقول أنكَ في قلب المعركة! يا أخي، كل شيء تغيّر منذ تلك اللحظة. حتى مناسبة الموت، صار لها طعم آخر. فيما مضى كنا نذمّ الحكام العرب، جميعاً؛ فنصرخ بشماتة ما أن نسمع بموت هذا الملك: رجعي!.. أو بإغتيال ذاك الرئيس: خائن! إنما مع دخولنا عالم الفضائيات، أضحينا أكثر رقة وموجدة وعطفا، على أولي الأمر منا. لن أعيد فتح الجراح. لكنكم تدرون أنه منذ نهاية التسعينات، فقد أخذ عدد حكامنا بالتناقص بصورة مريعة. ذلك الملك، مثلاً، وكنتُ قبلاً أمقته بشدة، كونه فعل ما فعله بأمتنا العربية. فما أن مرضَ وأعلنوا أنّ كازه خلص، حتى وجدتني أصلُ الليلَ بالنهار متابعاً أخباره أرقا قلقا، وأنا أدعو له: " نجّه يا ربّ، خذ عمري وخلصه.. يا رب! ". حتى بعد مضي شهر كامل على وفاته، كانت قدمايَ على أرض الدرب ما فتئتا تسيران بمشية عسكرية، وأذناي تطنان بأنغام موسيقى جنازته الملكية، المهيبة. ما أن كفكفنا دموعنا وكدنا ننسى مصابنا، وإذا بملك آخر يترحّم في الطرف الثاني للوطن العربيّ، ولم يكن أقل رجعية وو. رثيناه هوَ أيضاً بعبارات من نار، وندبناه بعبرات من دم. ثمّ شاءَ الرحمن أن يأخذ بيد رئيسنا القائد، المحبوب، وكان في قمة عطائه وأمجاده. كيف لا، وهوَ بطل التشرينيْن. وكان في نيته، كما علمتُ، أن يغيّر إسمَ كانون الأول إلى تشرين الثالث. لكنه مات قبل أن يحقق أمنيته، وكسر قلوبنا. بكيته كأبٍ لي، والله. مهما يفعل الأبُ القائد بكَ، بأمكَ.. يبقى أباً. أليسَ كذلك؟

جنازة رسمية بإثر أختها، ودمعٌ لا يكفكف يا أخي. لماذا لا تقول، أنّ في الأمر ما يريب. ولقد تناهى إلى علمي، أنّ شعبنا العربي أضحى كحفار القبور، الذي يحمل بيده مسبحة مردداً ليلاً نهاراً: " اللهم إرزقني ميتاً! ". الكل يريد أن يبكي ويندب ويشق ملابسه، حزناً على قائده المفدى. وفي بلد عربيّ، مغاربيّ، إستجاب المولى لدعاء شعبها. ولكن الرئيس السابق، الموغل بالكهولة، هوَ من قبضتْ روحه. إستاءَ الناسُ هناك، بطبيعة الحال. كانوا ينتظرون خبراً عن رئيسهم الحالي، ليفرحوا به.. أعني، ليحزنوا له! ولكنهم لم يعبأوا للأمر. فخرجوا جميعاً للشوارع نائحين نادبين، كيلا يشمت بهم العربُ الآخرون. مع الغزو الأمريكي الغاشم للعراق، تنفسنا جميعاً الصعداء. مصيبة وتهون، ولكن مناحتنا لا يبدو أنها ستتوقف بعد ذلك، أبداً. كل يوم عرسٌ لهذا الشهيد وذاك. إبنا حارس بوابتنا الشرقية، سقطا اولاً شهيدين. خيم عزاء وقهوة مرة وبقلاوة وتمر، حتى في أوروبة. ثمّ أسروا بطلنا نفسه، في تلك الحفرة المجيدة، وسحبوه إلى المحكمة صحبة أخوه ورفاقه. يا سلام على المشنقة، التي ترفع الرأس فعلاً: إعدامات متتالية ومناحات متجددة! صدقوني، حرمَ عليّ النوم من كثرة متابعتي للأخبار. تضاعفَ عددُ المعلقين والمعقبين على المعلقين إلى عشرة أمثاله، والكل يصرخ معاً في الفضائيات والأرضيات. ما أن دبّ الفتور في وجبات الإعدام تلك، وكاد الناس أن ينشغلوا بأشغالهم وتعتيرهم، إلا ويظهر علينا خبيرٌ مصريّ بشؤون النصب.. أعني، النصر! يا الله، إنه يؤكد في كتابه " الزعيمُ حَيْ "، أنّ بطلنا ما زال على قيد الحياة وأن شبيهه هوَ من سُحب ذليلاً مهاناً من تلك الحفرة، الحقيرة! لم أتمالك نفسي، حينما بثوا الخبر في التلفزيون، أن أجهشت بالبكاء هاتفا بفرح غامر: " يا ربّ، أنصره على أعدائه.. يا رب! ". لا أخفيكم سراً، أنّ فرحتي كان سببها ما سيتجدد لنا من مناحة، فيما لو عاد الأمريكان وأسروا بطلنا، حقيقة هذه المرة، ليحاكموه ويعدموه ويطوّبوه لنا شهيداً في صباح اليوم الأول من عيد الأضحى المبارك! بهذه الحالة، سنشغل وقتنا كله بالأخبار والمعلقين والمعقبين وو..

Dilor7@hotmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف