عصفورة العراق.. صانعة الفرح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لم تنم بغداد من وقع اطلاق النيران يوم أمس.. لم يكن طقسا من طقوس الموت اليومي، و لا دورية أمريكية رأت شبحا، و لا فرقة للموت تمر كملك الموت ليلا، أو عصابة قاعدية تزرع الفناء..كانت بغداد تحتفل عفويا كما اعتادت منذ عقود بإطلاق النار في الهواء، فقد فازت شذى..
التحفت العلم العراقي و بكت، فأبكت الجميع و أعادت الى القلوب قبل الأذهان مشاعر جميلة نسيها الكثيرون في خضم الملهاة الدموية التي تحصد المئات يوميا، فذكرتنا بأن هنالك عراق و له علم و به شعب لا يزال جميلا يعشق الفن و الجمال، أو لم يكن أول من صنع الموسيقى و الأدب، كما صنع الدولاب و اليراع؟
لم تنم بغداد، و رقصت اربيل حتى الصباح، و شهقت الحلة فرحا.. إنه العراق الذي لا يموت، و يهرع للتصويت في برنامج تلفزيوني رغم كل هذا الموت، و كل تلك الفاقة، و كل هذه الأحزان، فقدم سبعة ملايين صوت و تأملوا. لم يسأل أحد إن كانت شذى رافضية أم ناصبية و غير ذلك من تسميات هذا العهد الأغبر التي فرضها علينا شذاذ الآفاق في غفلة من الزمن، بل و لم يتساءل احد من أية محافظة هي..عراقية هي، و كفى ذلك شرفا و فخرا و انتماء. أعادت الينا شذى صورة الموهوب هوار أبن كردستان ، الذي ما أن سجل هدفا للعراق في بطولة الخليج حتى رفع فانلته ليقرأ الجميع و الملايين من مشاهدي التلفزيون شعار "أنا عراقي" المحفور في قلبه قبل أن يكون مكتوبا على قميصه، فأوصل رسالة بليغة إلى من يهمه الأمر.
نسي العراقيون في لحظة من الزمن كل الفتاوى و الخطب المريضة و الوجوه الكالحة القبيحة القادمة من عهود التكايا و السبايا التي تملأ الشاشات ليل نهار، و اتجهوا بالفطرة الحقيقية الوحيدة و هي فطرة حب الحياة إلى عالم قد يكون وهميا من الموسيقى و الجمال و الإبداع، عالم بعيد عن كل انواع الكبت و القسر و القتل التي أدمنوها ليشاركوا عصفورتهم الموهوبة فرحها و انتصارها باسمهم و تحت رايتهم. أنتصر العراقيون للحياة و قيم الفن و الحب و الجمال، قبل ان ينتصروا لابنة بلدهم، التي حملت تلك القيم بأمانة و أناقة. و لا تجد شعبا متحضرا في العالم الا و هو عاشق لكل هذه القيم، لم يشهد قديم التاريخ و حديثه مدنيات ازدهرت بدون الفن و الأدب و الموسيقى و الرسم، و لا يؤرخ للمدنيات الا بتراثها الثقافي و الفكري و العلمي، ومن الصين الى أمريكا، و من أقصى أفريقيا الى شمال أوروبا المتجمد، تعمل الشعوب و تبدع، و لكنها تغني و ترقص ، فلم يصنع فرسان و قتلة حرب طروادة الإلياذة ، بل هي التي صنعتهم، و لم يصنع عنترة بن شداد و لا الهلالي التاريخ، بل صنعهم الحكواتية و الشعراء..
ليس في عراق اللحظة مكان لشذى و أمثلها، فالسكاكين أكثر من العصافير في جمهورية رامسفيلد الإسلامية المعتدلة السخيفة، إلا انها استراحة للزمن، سيعتدل بعدها مزاج الكون وفق تعبير الكبير مظفر النواب، و تعود الشمس لتشرق و الأشجار لتزهر، فللحياة ميزان لا بد و أن يستقيم يوما..
للوطن قيمة نستردها في لحظات الفرح النادرة هذه ، بعد أن نتغافل عنها لشهور أو سنوات أو عقود. قد يسلبها حاكم مستبد أو معمم مخبول ، و لكننا نستعيدها ربما في أغنية، أو في قصيدة، و حتى في مباراة لكرة القدم. تنهار الدول و تسقط الأنظمة و تدور عجلة التاريخ، و لكن الأوطان ليست دولا.. الدولة حالة مادية تتمثل في علم و حدود و جواز سفر و سيادة، و دولتنا علم مختلف عليه و حدود مستباحة و جوازات سفر متهرئة و لا سيادة فيها إلا للعصابات، و لكن الوطن أغنية و قصيدة و صخرة و نهر و نخلة و ذكريات و حالة عشق..
شكرا مرة أخرى لشذى عصفورة الرافدين الجميلة.. شكرا لك لايقاظك كل هذا الكم من المشاعر الجميلة التي راهن الكثيرون على اندثارها لقتل العراق.