كتَّاب إيلاف

جند الجهالة وتأسيس فضاء الخرافة في العراق!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لم يكن العراقي، أبن المدن القصية المتعبة والتي كانت حواضر ذات يوم، ينتظر جماعة "جند السماء" لكي يكتشف فضاء الخرافة وتمثلاته الجاهلة التي استحكمت في واقع اليوم... فلقد كانت الأرض مهيئة لذلك فعلاً واستمرت التهيئة لعقود طويلة من التجهيل فيما كان الأمل أن يوصم فضاء ما بعد الديكتاتورية بأي تسمية إلا فضاء الخرافة هذا!... فما الذي حصل بالضبط لتنقلب الأحلام إلى كوابيس؟

علينا في البدء أن نؤكد ايماننا بأن ما حدث في التاسع من نيسان 2003 لم يكن مجرد حدث عابر في تاريخ العراق بشكل خاص، والمنطقة والعالم عموماً.. لم يكن الحدث ازاحة ديكتاتور ظالم عن السلطة بالقوة، ولم يكن مجرد غزو من قبل دلة عظمى لدولة من دول العالم الثالث تحت شعارات الهيمنة أو التحكم بمصادر الطاقة أو العودة إلى الاستعمار بشكل عام... لم يكن حدثاً يلعب الدين فيه الدور البارز كما تصور وسائل اعلام عربية واسلامية، ولم يكن أيضاً مجرد ردة فعل حادة أزاء ارهاب 11 سبتمبر... إننا نعتقد أن ما حدث في التاسع من نيسان هو انعطافة تاريخية على حد تعبير المفكر هاشم صالح، وقد كرر هذا الأخير هذا التعبير مرات عديدة في سلسلة مقالاته المهمة التي دأب على نشرها في جريدة الشرق الأوسط اللندنية... ونشاركه في هذا الرأي بقوة... إن أحداث التاريخ العظمى تمثل منعطفات كبرى في سيرر الشعوب عامة وحدث العراق يمثل بالضرورة منعطفاً من الممكن أن يكون، بالرغم من الاخفاقات كلها التي نراها يومياً، نقطة تأسيسية لهذا الشعب الذي سكن منذ آلاف السنين في وادي الرافدين.
العنف يعطل الدولة:
السؤال الجدير بالطرح الآن هو: لماذا العنف؟
وهو سؤال يقود بالضرورة إلى سؤال آخر مفاده: من الذي يقود العنف في العراق؟
وفي الاجابة على هذين السؤالين لم تخرج التحليلات عن توصيفات باتت معروفة جداً، مثل: انصار الديكتاتورية الحالمين بعودة التاريخ إلى الوراء، وهذه استحالة... أو المجاميع المعرفة دولياً بالارهابية، وهي مجاميع تتبنى على الأغلب شعارات لا يمكن بأي حال من الأحوال تحققها، فهي استحالة أيضاً... ثم دعم الأنظم الشمولية، المشابهة لنظام الحكم الساقط في العراق، للعنف في هذا البلد على أمل أن لا تطالها عاصفة التغيير في الشرق الأوسط، وهي أستحالة كبرى أيضاً !!! إن عاملاً رابعاً مهماً من الممكن إدراجه هنا وبات يتحكم في معدلات العنف العراقية وهو: الجهل.
تتورط جهات عديدة كانت شاركت وتشارك في المطبخ السياسي بعد التاسع من نيسان في تغذية هذا العنف بسبب من استراتيجية التجهيل التي تمارسها عن قصد في أحيان كثيرة وبدونه في أحيان أخرى.

إن الكثير من هذه الجهات دأبت على إقامة ما يمكن تسميته: استعراضات قوة في الميدان العراقي كان يgt;هب ضحية تلك الاستعراضات المئات من الأبرياء.. ولنأخذ مثالاً ساطعاً على ذلك في حدث جسر الأئمة (بغداد 2005) عندما قضى اكثر من ألف عراقي بدون ذنب... كان استعراض القوة ذاك هو العامل الحاسم في سقوط هذا العدد الغفير من البرياء، ولو كانت ثقافة أخرى، غير ثقافة الجهل، هي التي تقود جموع الأبرياء لتم تأجيل ضرورات الحشد المليوني لظروف أمنية أفضل... ولكن ذلك لم يحصل أبداً... هكذا تم استغلال هذا الحدث من قبل المجاميع الداعمة للعنف من أجل التنكيل بالشعب، وبالتالي التنكيل بالحداثة المرجوة بعد سقوط الديكتاتورية، الحداثة التي تمثلها فكرة حق الفرد بالعبادة وإقامة الشعائر الدينية في بلد محكوم بها أصلاً منذ فجر التاريخ.

ثمة مثال آخر نشط قبل فترة حول قوة الجهالة وتحكمها في مصير الملايين من أبناء الشعب العراقي اليوم ونقصد به مثال الاغتصاب..( سنستدرك قبلاً هنا: أننا ضد انتهاك الشرف بأي حال من الأحوال.. ومثال الاغتصاب هذا تداخلت فيه عوامل شتى: الاشاعة مثلاً، المرأة التي ظهرت عيناها فقط في فضائية عربية معينة قد تكون مجرد وهم، مجرد كذبة، مجرد صوت يريد أن يزيد الحريق... كلها احتمالات، كما أن من الجائز جداً أن تكون صاحبة هذه العينين، والصوت إمرأة حقيقية والحدث حقيقي بكل معنى الكلمة.. الصورة في الفضائية كانت ملغزة ومشفرة ضمن القراءات السيميائية لها، ما يعنينا هنا ليس صدقية من عدم صدقية الخبر، ولكن الخبر نفسه وتمدداته هو المهم في هذا السياق_ انتهى الاستدراك) لقد تنادت هيئات مشاركة في المطبخ السياسي العراقي لتأكيد أو نفي، كل حسب منفعته، الحدث المخجل المتمثل بمزاعم اغتصاب إمرأة عراقية من قبل عناصر محسوبة على الجيش.. هذا النفي أو التأكيد كان ينطلق من دوافع تجهيلية تتقصد خلط الأوراق من أجل أن لا تظهر الحقيقة.. فالحقيقة في مثل هذه القصص هي آخر الأشياء المفكر بها..فكرة الاغتصاب تعد ولا شك فكرة غير مقبولة من قبل أي شعب في العالم ولكنها في عراق اليوم أريد لها أن تكون مفتاحاً آخر يفتح باباً جديداً من أبواب العنف.. وإذا ما عاد المتابع للتصريحات التي أطلقها السياسيون العراقيون أيام تلك الواقعة، القصة، المزاعم ألخ.. فستجد أن جهنم قد فتحت أبوابها فعلاً لالتهام المزيد من الأجساد العراقية. هل علينا هنا استدعاء أمثلة مشابهة كانت تجابه بالصمت التام أيام الحكم الديكتاتوري؟؟؟ يبدو أن ذلك ليس مهماً اليوم، فجند الجهالة هم أنفسهم من سيتكفل بالرد على مثل هذه الادعاءات!!!

الأمثلة لا حصر لها والمؤسف أنها تصل إلى النهاية ذاتها، وهي: تعطيل الدولة...
إننا نعلم تماماً إن انجازات مهمة، بل وكبرى، كانت تحققت في السنوات الأربع الماضية، ولكن ذلك لم يمنح الدولة ومؤسساتها الحضور المطلوب في مفاصل الحياة العراقية مما سبب تفاقماً في الأحداث التي تصب في تنمية فضاء الخرافة... الخرافة التي صار كثيرون يعدونها بديلاً مقنعاً لهذه الدولة الوليدة.. هكذا ظهرت على أرض الواقع الجماعات التي تنادي بإقامة إمارة العراق، بل أن تلك الجماعات أعلنت فعلاً امارة الفلوجة وامارة سامراء وغيرها في مناطق عراقية فيما أعلنت جماعات أخرى في مناطق أخرى ظهور ما سمي بجند السماء.. الإمارة وجند السماء وجهان لعملة واحدة أسمها: فضاء الخرافة!!!

والبداية سهلة للغاية: ينبري عاطل عن العمل والفكر معاً، بل عاطل عن الحياة لإعلان نفسه إماماً، وكيلاً لإمام، أو نائباً لله، هذا الاعلان لا يمكن مناقشته أو تفنيده من قبل جموع الجهالة، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنه اعلان يتحرك في منطلق امتلاك الحقيقة وفي منطقة هلامية ضبابية القطع فيها ليس مؤكداً، من يعلن نفسه إماماً أو ما شابه فإنه يعلن ايضاً امتلاكه للحقيقة، هي نقطة حساسة للغاية.. الحقيقة لا تمتلك ولكن الكثير من رجال الدين، وخاصة صغارهم، لا يخجلون من اعلانهم عكس ذلك.. ثم تتلقفهم جموع الجهالة اليائسة باعتبارهم مخلصين ووكلاء عن حاجب الجنة وتبدأ الحكاية التي غالباً ما تنتهي بالمزيد من الدم.
جند الجهالة يصنعون فضاء الخرافة:

لم يكن من الممكن لأحداث العنف في العراق أن تنشط وتستمر لو لم يكن صناع هذه الأحداث قد استطاعوا أن يشتروا المئات من جند الجهالة في العديد من المناطق العراقية... وبالطبع لم يكن عامل الفقر والبطالة هو العامل الوحيد والحاسم الذي تحكم بأهواء ومصائر جند الجهالة هؤلاء بل قدرة صناع أحداث العنف على تأسيس فضاء الخرافة في أذهان أولئك الجند وعوائلهم فآمنوا برسل الموت غليهم وتبعوهم... قصة ساجدة الريشاوي تصلح مثالاً بارزاً هنا. فالريشاوي عراقية من مناطق الأنبار الغربية كانت على موعد مع رسل الموت الذين استطاعوا، كما يبدو، بسهولة مفرطة تأسيس فضاء الخرافة في ذهنها، ومن قبلها في ذهن عائلتها، زوجها.. هكذا تم تجنيدها لتكون وعائلتها عناصر في جيش جند الجهالة، وكانت مهمتهم هذه المرة خارج الحدود العرقية، المملكة الأردنية الهاشمية تحديداً، قضى في غزوة عمان، بتعبيراتهم، زوجها وآخرين ووقعت هي في يد السلطات التي حكمت عليها بالاعدام... ساجدة الريشاوي ستقف على منصة الاعدام لتتوج الأفكار التي ملئت رأسها، تلك الأفكار المؤسسة من فضاء الخرافة اياه...
ويبدو الأمر على أوضح صوره مع مثال آخر: جحافل جند السماء التي كادت تنقض على مدينة النجف الأشرف، هذه الجحافل التي كانت تضم بالاضافة للمئات من الرجال والنساء العشرات من الأطفال العزل، وقيل حتى الشيوخ!

الأردن بالنسبة للريشاوي وجماعتها أرض الكفر والنجف الأشرف بالنسبة لجند السماء ارض البداية لظهور المهدي المنتظر. في المثالين نقف أزاء مطلق غير ممسوك، يقوده رجال خرافيون قادمون من غياهب العدم، وفي الحالتين موعد مع الجنة!! كيف استحكم هذا المنطق لولا أرضية الجهالة التي هيأت المناخ اللازم له للاستحكام؟!
كان يمكن لساجدة الريشاوي أن تعيش حياتها بأمان وسلام حالها حال ملايين النساء في المعمورة: تعمل، تعشق، تتزوج، تنجب، تربي أولادها وتصبح أماً تركع الجنة تحت أقدامها، وهو المنطق الممسوك، القابل للحياة والديمومة، وهو أيضاً منطق البشرية كما فطرت عليه... إنه منطق الوجود بعبارة بسيطة. ولكن فضاء الخرافة الذي ملأ عقلها عطل ذلك كله لصالح فكرة غيبية جاءتها من مستنقع الجهالة الذي كانت تعيش فيه. لا يختلف الأمر كثيراً مع جند السماء بل يتطابق كما نزعم كلية.

وبالمقابل، ماذا فعلت الدولة الوليدة في مجابهة ذلك كله؟
من المؤسف أنها لم تفعل الكثير، أو أنها لم تفعل شيئاً على الإطلاق! فالنخب الوطنية المتنورة ما زالت تشكو الاهمال، ما زالت هذه النخب غائبة في معادلات المحاصصة وإن حضرت فإن حضورها تحميلي تجميلي ليس إلا... أما إذا أرادت هذه النخب أن تأخذ زمام المبادرة بنفسها فالأمر معقد للغاية بسبب المخاطر الجدية التي ستتعرض لها، وهي مخاطر أثبتت الأحداث خطورتها باستهداف جند الجهالة للعشرات من الطاقات العراقية المفكرة والمستنيرة في دأب مفضوح لتكريس فضاء الخرافة في العقل العراقي وتعطيل قدرة التفكير العلمي... إنها محنة ولا شك!
هل هذه هي نهاية الحلم؟

وعود على بدء، فما يحدث في عراق اليوم هو مخاض الولادة، ليس مهماً بعدها شكل هذه الولادة، أو أنها ستعجب هذا الطرف أو ذاك... فالاحتمالات على الساحة العراقية كلها أصبحت واردة، ومن أجل التعايش مع هذه الاحتمالات علينا أن لا نؤمن بالثوابت، أو تلك التي كنا نعتقد أنها ثوابت. وحتى لا تحرف هذه العبارة الأخيرة نسارع إلى القول بأننا تربينا على الكثير مما أعتقدناه ثوابت، ومن ذلك حدود العراق الحالية على سبيل المثال... عبارة الثوابت تلك إذن لا علاقة لها بالدين أو الأخلاق... ومن الطبيعي أن ردة فعلنا أزاء انتشار فضاء الخرافة ستحدد بقوة ملامح تلك الاحتمالات، الوليد العراقي، مع التأكيد مرةة أخرى على أن ما يجري اليوم على ارض الواقع لا يبشر بخير على هذا الصعيد(مكافحة فضاء الخرافة).
إن من أولى مهام الدولة الوليدة، كما نزعم، العمل على اشاعة نظام تعليمي وتربوي متطور في محاربته لفضاء الخلاافة عند عموم الشعب، وخاصة أوساط الشباب فيه، وتنمية الفكر العلمي الذي يبعد هؤلاء عن الفكر الضال، الظلامي الذي حصد ويحصد أرواح المئات من الابرياء العراقيين. ما نحتاجه حقاً اليوم هو مظام تعليمي يعيد الاعتبار للثقافة الحرة، ولمكوناتها الجمالية من سينما ومسرح وتلفزيون وغناء ونحت وشعر ورواية وقص ألخ، والخروج من ثقافة الكهوف التي، وللأسف الشديد، ثمة بيننا من يروج لها وبقوة.
العراق ما زال مؤهلاً لأن يكون نقطة البداية، أو نقطة الأمل.
*******

شاعر عراقي مقيم في أديلايد
www.abdalkalikkaten.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف