كتَّاب إيلاف

مدخل لفهم الاقليات في الشرق الاوسط: رؤية مستقبلية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

نص المحاضرة الشفوية التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في مؤتمر زيورخ للاقليات في الشرق الاوسط يوم السبت 24 آذار / مارس 2007، والتي اعتمدتها رئاسة المؤتمر ورقة عمل للمؤتمر 24- 26 مارس 2007.

مقدمة
لا ادري هل كان من حسن الحظ، ام من سوء التقدير ان اشارك في مؤتمر الاقليات في الشرق الاوسط الذي انعقد بمدينة زيورخ السويسرية للفترة 24-26 آذار/ مارس 2007 صحيح انني مؤمن بحقوق الاقليات المهضومة في منطقتنا كلها، ولكنني ادرك بأن الاكثريات هي الاخرى تعاني الامرين في تاريخها وحياتها. انني لا اقبل ابدا ان تغدو المناسبة اداة للتشهير وبث الكراهية واطلاق السباب والشتائم لا من قبل المؤتمرين ولا من قبل الاخرين ضدهم!! والحقيقة انني قد استفدت كثيرا الى حد الان مما سمعته لتحديد المواقف الجديدة التي تعّبر عن ارادة هذه " الاقلية " او تلك في مجتمعاتنا المتنوعة، ولكنني بنفس الوقت كنت ضد ما حدث في بعض جلسات المؤتمر من شتائم واثارات وزوابع وتشنجات.. علما بأنني قد انسحبت برفقة بعض الاخوة المشاركين من الجلسة الاولى في اليوم الثاني للمؤتمر بسبب ما ورد في ورقة المؤرخ الاسرائيلي موردخاي نسيم الذي تجاوز فيه حدود اللياقة وحقوق الانسان وقلل من شأن العرب وهاجم اللاجئين الفلسطينيين.. وكانت النتيجة أن الغيت ورقته من اعمال المؤتمر.
دعوني اليوم اقدم لكل المهتمين وللعالم اجمع نص " محاضرتي " التي احرص على نشرها بسبب جعلها ورقة عمل للمؤتمر من قبل ادارته الكريمة في اليوم الاول. كما اشير على كل من يعترض على مصطلح " الاقليات " كمفهوم وواقع، بالقول ان ثمة دساتير عربية قد اعترفت بـ " الاقليات "، وان من الواجب ومن نصوص لائحة حقوق الانسان ان نستمع اليوم الى أصوات الملايين من المنتمين الى اطياف الاقليات اكثر من اي وقت مضى، لنرى ماذا يريدون؟ ونحدد ما الذي يطمحون اليه.. سواء في علاقاتهم مع " الدولة " او في شراكتهم مع " المجتمع " ما داموا مواطنين لهم التصاقهم بارضهم وترابهم ومشاركتهم لنا المصير الواحد. ان اهتماماتي بهذا " الموضوع " ترجع الى سنوات طويلة خلت، وقد نشرت تفصيلات معرفية عن بعض الاقليات، منها عن المسيحيين العراقيين والسوريين من اليعاقبة السريان والكلدان والآثوريين وعن الصّبة المندائيين وعن المارونييين اللبنانيين والجنوبيين السودانيين وعن الاكراد والامازيغ والارمن والجراكسة والشيشان والدروز والنصيرية العلويين والزيدية اليمنيين والاقباط المصريين والافارقة وعن التركمان المتنوعين واليزيدية والشبك والمتاولة والقبائل والشلوح والبدو وبقايا المماليك والكراغلة والطوارق والاباضيين والصعايدة والشراكوة والدارفوريين والموريسكيين وجاليات من الخواجات الاوربيين والكاوريين.. الخ (ويضاف الى هؤلاء جميعا اقليات ايران وتركيا التي لا تعد ولا تحصى).
دعوني اقدم لكم نص " المحاضرة " التي القيتها في مؤتمر الاقليات بزيورخ:

نص المحاضرة
سيداتي.. سادتي
اسعدتم صباحا متمنيا لمؤتمركم كل النجاح والتوفيق، ودعوني ارتجل كلمتي واتكلم اليكم شفاها، فمن عادتي ان ارتجل محاضراتي كوني اختزن الكثير لما يمكنني قوله في هذا " الموضوع " وبتواضع شديد.. وشكرا جزيلا لراعي المؤتمر ومهندسه والشكر موصول الى رئيسه ومنظميه، وشكرا لدعوتكم لي المشاركة فيه من اجل تأسيس منظمة دولية ترعى شؤون الاقليات في الشرق الاوسط، ومن اجل ايجاد أية حلول ناجعة للتصدعات التي باتت تعيشها مجتمعاتنا اليوم.. ومن اجل فتح صفحة تاريخية جديدة تراعى فيها الحقوق وتؤسس فيها الضمانات وتتحقق فيها التعايشات وتنبّث روح المحبة بين كل الفئات السكانية والاجتماعية.
أتذكر ان واحدا من اساتذتي عندما كنت اعد شهادة الدكتوراه قبل اكثر من ثلاثين سنة.. والذي سأبقى اجل ذكراه الطيبة، وهو المستشرق والمؤرخ الراحل البرت حوراني عندما كان يحادثنا عن تاريخ المجتمعات في الشرق الاوسط بكلية سانت انتوني، كّنا نجد في احكامه واستنتاجاته رؤى حقيقية للمستقبل.. كان علينا التوغل في فهم ما كان يقوله ويطلقه من هواجس مخيفة، اذ صدقت رؤيته في الكثير مما قاله، وتحققت في الذي كان يتوقع حدوثه في المستقبل المنظور، والذي افتتحته سنة 1979 بأحداثها المريرة التي اعتقد انها غيرت ملامح الشرق الاوسط باجمله.. ولم يطل به الزمن ليرى ما كان يتوقعه من سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية.. اذ احفظ له تعليقه عندما جاءه احد الزملاء بقصيدة كتبها الشاعر الراحل نزار قباني وهو يعلن مديحه للزعيم الايراني السيد آية الله روح الله الخميني، فكان ان ضرب كفّا بكف، وقال: من هذه النقطة الفاصلة ستبدأ تحولات جد صعبة في مجتمعات المنطقة كلها.. وستعصف بها المقادير والنازلات للاكثرية من السكان والاقليات الدينية فيها.. أما توقعاته بشأن سقوط المنظومة الاشتراكية، فكان يعلنها مرارا وتكرارا، اذ كان يعلّق قائلا: لا تفرحوا يا اصدقائي الاعزاء وطلبتي النجباء، فستدخل منطقة الشرق الاوسط وسط بحر العواصف الهائجة كونها انقسمت سابقا ومنذ ايام الحرب العالمية الثانية وامتدادا على ايام الحرب الباردة بين معسكرين، اي بين مؤيد للنظام الرأسمالي وبين مؤيد للنظام الاشتراكي!!
لقد جنيت المنطقة حصاد عام 1919 بتأسيس كياناتها السياسية المعاصرة، وعاشت لثلاثين سنة في ما بين الحربين العالميتين تشكّل المؤسسات والقوانين والاجهزة على انماط مدنية معلمنة صرفة في ظل وجود انتدابات واستشارات وسلطات بريطانية وفرنسية واسبانية وطليانية، ولكن من دون ان تعالج ضرورات المجتمع والانسان والقوميات والاقليات. واننا بعد ثلاثين سنة من العام 1919 سنجني الثمار العفنة على امتداد زمن ليس بالقصير نتيجة مفصلين تاريخيين مهمين جدا، اولاهما كان في العام 1949 وثانيهما حدث في العام 1979، واذا كانت دول المنطقة اشبه بكيانات مغلقة وهي هزيلة لا تقوى على الحياة لوحدها، فان مجتمعاتنا وريثة تقاليد وافكار وقيم مشتركة وبدت في القرن العشرين بطيئة التحولات وهي تعيش بكل اصناف نسيجها المتنوع اصعب الحالات نتيجة تصادم التناقضات.
وينبغي القول ان نقصا فظيعا يعم منطقتنا كاملة في علوم السوسيولوجيا والانثربولوجيا والميثولوجيا وغيرها.. اذ لم تزل مجتمعاتنا تجهل بعضها بعضا، ولم يزل المجتمع الواحد في اي بلد بالمنطقة يجهل قسماته جهلا كبيرا، بل وحتى من يتولى الزعامة في اي بلد من المنطقة يجهل جهلا مطبقا سوسيولوجيات مجتمعه الذي يحكمه.. وهذا كله قاد ولم يزل يقود الى المزيد من الخطايا والاخطاء، بل والكوارث المرعبة التي ترتكب ليس في حق الاقليات فقط، بل في حق الاكثريات ايضا! وهذه نقطة ينبغي ان يعرفها الجميع، فالمعاناة لا تقتصر على الاقليات فقط في دول هزيلة لم تتطور ابدا مؤسساتيا، بل تشمل الاكثريات ايضا، وربما تكون القسوة ضد الاكثريات اكثر ايلاما وفظاظة ومرارة!! او ان تقع الاكثريات تحت سطوة الاقليات! ومن اجل ان نعالج كل المشكلات الطارئة والمزمنة ينبغي تطوير العلوم التي ذكرتها، والتحرر من اية قيود سياسية او غير سياسية في دراسة مجتمعاتنا قاطبة ومن دون اي اجندة سلطوية او رقابية في عموم الشرق الاوسط.

معنى الاقليات
نحن نجتمع اليوم في زيورخ لمعرفة شؤون الاقليات في الشرق الاوسط، ولكننا نحن ابناء تلك المجتمعات القديمة من ابعد الناس عن فهم موضوع " الاقليات " في منطقة الشرق الاوسط، بسبب عدم فهمنا تاريخ المنطقة بالكامل فهما علميا اولا، وبسبب عدم معرفتنا لطبيعة " الاقليات " التي تحتضنها منطقتنا بجغرافياتها المتنوعة وبيئاتها المتعددة ثانيا. وينبغي علينا ان لا نجازف ابدا بالتوغل في اطلاق الاحكام في هذا " الموضوع " الذي يعتبر احد ابرز الموضوعات حساسية.. ما لم تكن لدينا معلومات وحقائق رقمية وتحريرية واخبارية واحصائية وحتى شفاهية لأنها تمس التنوع داخل البنية الاجتماعية الواحدة. ولعل أصعب ما يواجهه الدارس انما يكمن في ما خلفّته لنا ترسبات التاريخ وبقاياها الماضوية في العقليات والذهنيات لدى الافراد.. فضلا عما تنتجه المعاملات في دواخل المجتمعات. ان اغلب الاقليات في مجتمعاتنا هي قديمة وعريقة وجدت على الارض منذ الاف السنين وعاشت في خضم الاكثريات على مر تاريخ طويل، ولا يمكن لكائن من كان ان يستأصلها من بيئاتها واوطانها ابدا..
كما واود ان اسجل هنا حقيقة لا يدركها الكثير من الناس، خصوصا بعد ان سمعت البارحة راعي المؤتمر الاستاذ المهندس عدلي ابادير وهو يقرن بين الاقباط في مصر والاكراد في العراق، اذ لا يمكن مقارنة اولئك بهؤلاء، فالاقباط ينتشرون في كل ارض مصر وهو وطنهم اذ لا بديل لهم عنه، وهنا يكمن الاختلاف، اذ ان الاكراد يستوطنون منذ القدم مناطق الجبال التي كانت تسمى بـ " جبال الاكراد " منذ القدم، ويعتبرونها وطنهم الحقيقي، فضلا عن اختلافات اخرى.. وهذا ما ينطبق على تناقضات تعيشها اقليات اخرى عرقية او دينية او طائفية، فهي اذن لا تشترك في مبادئها وقيمها واهدافها وطموحاتها، فلكل اقلية من الاقليات السكانية تاريخها وتنوعها داخل وطنها ومعاناتها وتناقضاتها بل وانقساماتها ايضا.. بل وان ثمة مجتمعات في المنطقة تعيش بعض اقلياتها في اطار اقليات اكبر، وثمة ملل ونحل متصارعة داخل البنية الاقلياتية الواحدة.. ناهيكم عن اختلاف اقليات مذهبية عن اقليات طائفية هي نتاج الصراعات الفكرية والدينية والعقائدية والسياسية والتاريخية عبر احقاب من التاريخ..
وهنا ادعو قبل ان يجازف اي باحث في ابداء اية " احكام " الرجوع الى تواريخ ما يدرس ويعقد مقارنات ويستخلص معلومات بعيدا عن اي تعصّب.. وهنا ادعو ايضا الى ان يجري العمل بمصطلح " الاقليات " بشكل طبيعي ما دامت دولنا ذات نظم مدنية معلمنة وثبتت في دساتيرها مصطلحات " الاخوة القومية واحترام الاقليات السكانية "، واقترح ان يضاف اليها أيضا مصطلح " الاصول "، كما اقترح ان اية معالجات تتم في مجتمعات الشرق الاوسط لمشكلات الاقليات لابد ان تستفيد من تجارب مجتمعات متمدنة وان يتم التعامل مع اقلياتنا كما تّم التعامل مع الاقليات في تلك " المجتمعات "، مثل: كندا واستراليا ونيوزيلندا وسويسرا.. وغيرها دعوني افّسر تنوعات الاقليات في بنيويات مجتمعات المنطقة وعلى درجة من الاختصار.

المعاناة على امتداد جيلين اثنين
لقد درس كارل مانهايم طبيعة التأثيرات السياسية والادارية والسلطوية على سايكلوجية المجتمعات في القرن العشرين وخرج بنتائج ممتازة جدا، ولابد لنا ان نعاين ما يحدث في مجتمعاتنا على ضوء المتغيرات التي حدثت فيها خلال السنوات الخمسين الماضية من القرن العشرين. ان متغيراتنا الاجتماعية كانت جذرية وتتضمنها تحولات سالبة، وخصوصا منذ بعيد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد منذ العام 1949، تبلورت ظواهر تاريخية جديدة في مجتمعاتنا العربية والايرانية والتركية بفعل تنامي النزعة القومية، وهنا أركّز على القومية العربية في بلداننا العربية، وانتقالها من مجرد جماعات ونواد وملتقيات وأدبيات في الخمسين سنة الاولى من القرن العشرين الى احزاب وتنظيمات وايديولوجيات وسياسات وحروب في النصف الثاني منه.. فكان ذلك كافيا لاحداث هزّات غير منظورة لدى الاقليات السكانية. كان هناك صمت مطبق لم يندفع بأي شكل من الاشكال ازاء تمدد ظاهرة تاريخية خطيرة تأخذ لها طابع عقائدي شوفيني، فكانت ان عدّت مصدر خطر بالنسبة للاقليات جميعا، وان ذلك " الخطر " عّد من الاخطار الحقيقية.. وهذا ما تلمسناه لدى الاقباط في مصر وردود فعل الاكراد في العراق وعند المارونيين في لبنان ومواقف الامازيغيين في بلدان مغاربية واضطرابات الجنوبيين في السودان.. الخ
ان الاقليات مهما كان نوعها وخصوصا الاقليات العرقية الاثنية والدينية الطائفية ستشعر انها زوارق ورقية في بحر متلاطم الامواج. لقد بقيت تلك " الظاهرة " القومية تمجدّها الملايين، وتندفع بكل شعاراتها وهياجاتها وخطاباتها الفاضحة من دون اي شعور بالذنب ازاء الاقليات التي فرضت عليها الظاهرة القومية العربية من دون اي شعور بامتهان ارادة الاقليات المختلفة التي ترى فيها اداة اقتلاع لها من الجذور. ان ثمة مجتمعات داخلية هي رافضة لا محالة لكل الاهداف القومية العربية.. لقد شغل المد القومي العربي قرابة ثلاثين سنة من حياة المنطقة، وأثر تأثيرا بالضد من خلال احزابه وتنظيماته المؤدلجة بالاقليات التي فضل بعضها السكوت والصمت المطبق، وقام آخرون بالتعاون، بل نجد في تجارب بلدان عدة ان يسجل الالاف من الاكراد والتركمان والارمن والآثوريين والمندائيين وغيرهم اعضاء في احزاب قومية عربية، وهم يدركون على مضض بعض النزعات والممارسات الشوفينية التي تحركها!!
وصولا الى العام 1979 الذي انطلقت فيه الثورة الدينية في ايران، وانتشار شعار ما اسمي بـ " تصدير الثورة "، علما بأن مبادئ اي ثورة تحررية تستلهمها الشعوب الحرة ولا يمكن ان تصدرها الانظمة المقفلة، فكانت هناك جناية تاريخية قد ارتكبت بحق كل المنطقة التي كان عليها ان تبقى منظوماتها السياسية بعيدة عن تجليات " الدين " او موبقات " الطوائف "، وكم كنت اتمنى على امتداد قرابة ثلاثين سنة ابقاء " الدين " ذخيرة اجتماعية بكل سموه وتجلياته وخلوده عند كل الناس. ولقد قام المئات من الكتّاب العرب منذ مطلع الثمانينيات ومنطلقين من مصر بالذات بنشر مصطلح " الصحوة الاسلامية " الذي كنت ـ كما ازعم ـ من اول منتقديه عند مطلع الثمانينيات من القرن الماضي انتقادا عنيفا. وقلت: هل كانت المجتمعات الاسلامية بكل حيويتها ومصداقيتها نائمة حتى تصحو؟ وقلت: ان الضرب على هكذا اوتار سيثير مشاعر مضادة لدى الاقليات الدينية وحتى عند تنوعات الاكثريات الطائفية والمذهبية، وسيبدأ دمار مجتمعات الشرق الاوسط، بل وانه سينّمي خطر الاحزاب الدينية المتطرفة على حساب الحيادية والواقعية والمدنية والفصل بين السلطات!! واذكر ان الاخ الاستاذ الناقد رجاء النقاش اجابني برسالة لم ازل احتفظ بها منذ العام 1982، يعتذر فيها عن نشر بعض مقالاتي النقدية التي سجلت فيها اعتراضاتي ضد كتابات الاخ الدكتور علي الدين هلال الذي قال بأن الثمانينيات ستحسم حياتنا كي ننطلق من خلال تلك " الصحوة "!! مستندا على بدايات الظاهرة الجديدة قبل تفاقمها في رحم مجتمعات أخذت تنتقل بشكل لا يصدّق من الظاهرة القومية الى الظاهرة الدينية لتأخذنا الاخيرة لثلاثين سنة ستختتم في العام 2009.. ولقد شهدنا جميعا ما الذي جنيناه بعد كل الذي صنعناه بحق انفسنا.. واعتقد ان ملامح جيل جديد سيرسم مطالع ومعالم ثلاثين سنة قادمة!!

التعايش التاريخي
ليس باستطاعتنا ابدا ايتها السيدات ايها السادة ان ننكر على مجتمعاتنا كاملة حالات التعايش التاريخي التي عاشتها معا من دون اي احساس بالاضطهاد والمرارة من قبل الاكثريات ازاء الاقليات اجتماعيا، او حتى من قبل حكم الاقليات على الاكثريات.. مع قناعاتنا بأن انظمة الحكم واساليبها في القهر الجمعي لا يمكن اقترانها او حتى مقاربتها بما كانت عليه اساليب المجتمعات الاخرى في التعايش والرفقة. هنا، لابد ان اقول بأنني لا استطيع ان اعطي لنفسي الحق في ان اتدّخل بشأن اي اقلية من الاقليات في مجتمعاتنا، اذا وجد هناك من يقّدم عنها من ابنائها افضل ممّا اقدّمه نفسي انا.. ولكن علينا أن نعرف بأن المجتمعات هي غير الدول والسياسات وان العلاقات الاجتماعية هي غير ما تقرره مراكز القوى السياسية والسلطات.. وان ما يفهمه ابناء الارض الواحدة بمختلف اجناسهم وطوائفهم واديانهم عبر مراحل التاريخ هي غير ما تتسّلط به العسكرتارليات والادارات الاجنبية والبيروقراطيات الحاكمة..
علينا ان نعترف اعترافا تاريخيا بأن الابناء البررة من الاقليات قدّموا خدماتهم ومجهوداتهم لحضارة العرب ودول المسلمين، فهل يمكن لأحد ان ينكر دور الادباء والشعراء المسيحيين الرائع في العهد الاموي، وهل يمكن لأحد ان ينكر دور الاطباء والمترجمين والادباء المسيحيين والصابئة في العصور العباسية، وهل يمكن لمؤرخ ان ينكر ادوار الترك والكرد والعجم والقوقازيين وغيرهم على امتداد دول العصور المتأخرة.. ولا ننسى دور اليهود في الصيرفة والتجارة والتعليم ابان عهد الدولة العثمانية.. وأخيرا، هل يمكننا ان ننفي ادوار ابناء الاقليات وخصوصا الاباء اللغويين والمؤرخين والموسوعيين النهضويين المحدثين في تأسيس ما اسمي بالنهضة العربية الحديثة على مستوى الصحافة والترجمة والمعاجم والاقتصاد والمال والحركات الادبية وبلورة الاتجاهات المعاصرة؟؟ وهل يمكننا ان ننكر ادوار رجالات جدد في المعرفة والعلوم والصحافة والطب والفلسفة والتربية.. وجلهم من ابناء الاقليات؟ هل يمكننا نكران ادوار ساسة آخرين منهم في منظمات واحزاب وقوى سياسية جديدة انتشرت في القرن العشرين؟
لقد كانت هناك تعايشات بين الاديان الثلاثة وبين الاجناس المتنوعة في منطقة الشرق الاوسط تحسدنا عليها مجتمعات اخرى، وان كان قد حدثت اضطهادات جائرة، فبسبب سياسات السلطات ازاء المجتمع كله او ذاك! لقد كان هناك احترام متبادل في عصور خلت، وان الانتهاكات التي حدثت لم يشترك فيها اي نسق اجتماعي من الاكثرية ازاء الاقلية، بل وان جملة كبرى من الوثائق تشترك في شراكات في الاراضي والاملاك والبيوت والاسواق.. لقد وقفت الملل المسيحية الشرقية في بلاد الشام كلها مثلا مع المسلمين ضد الصليبيين، بل وامعن الصليبيون في اضطهاد المسيحيين العرب الشرقيين قبل المسلمين! كانت هناك زيجات مشتركة بين العرب والكرد والتركمان او بين الامازيغ والعرب او بين الاسبان والعرب او بين الاتراك والعرب وانتج ذلك طبقات من المولدين والكراغلة والشاوية والمعربين الاربزيد والقره غوليين.. وغيرهم من الذين بقوا من دون اية دراسات انثروبولوجية ولا ثيولوجية ولا سوسيولوجية على امتداد القرن العشرين.. كانت هناك علاقات ثقة وامانة متبادلة بين التجار في السوق الدولية والاقليمية والمحلية سواء كانوا من اليهود ام المسلمين ام المسيحيين.. كان هناك اعتماد في مجتمعاتنا على ابناء الاقليات في المهن والحرف والطب والعطارة والحدادة والنجارة والصيرفة والبناء والتجارة وحتى في الزراعة بالارياف التي تزدحم بفسيفساء الاقليات.. كان هناك تبادل منافع بين ابناء الاقليات والاكثريات في مجتمعاتنا.. ولا يمكن لكائن من كان ان يلغي التاريخ ليقف على ما هو جار اليوم، فيصبغ تاريخنا بالاحتقار والضعة والكراهية.. ربما في تاريخنا مثالب لا تحصى، ولكنها ليست اجتماعية بالضرورة.. وان حدثت مشاكل هنا او هناك، فان مجتمعات الدنيا كلها لا تخلو من مشكلات تحدث لاسباب عارضة طارئة او مستديمة ومزمنة. انني واثق تمام الثقة عندما اقول بان الاقليات قد ساهمت مساهمة حيوية وفعالة في صناعة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لعموم الشرق الاوسط، فان لدي ما يمكن توثيقه علنا.. عندما نقرأ تاريخ اليهود والمسيحيين في مجتمعاتنا العربية، نجد ان كلا منهما قد اختارا طريق المهن والتجارة والحرف عن قناعة تامة، اذ ان الطرفين قد ادركا بأن لا مجال لهما في السياسة والادارة والجيش.. وهذا ينطبق على اقليات وطوائف اخرى تجد نفسها في حالة ويراها الاخرون في حالة اخرى. ان تاريخ التعايش الاجتماعي بين الاكثرية والاقليات في مجتمعاتنا يوّضح لنا برغم كل ما حدث من مشكلات ان الاقليات الدينية والعرقية قد حافظت على كنائسها ومعابدها واديرتها وعلى طقوسها وتقاليدها وعاداتها من دون اي افناء لها.. كالذي حدث في مجتمعات اوربية في العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث مثلا.. كما ان الاقليات العرقية قد حافظت هي الاخرى على لغاتها وثقافاتها واساليبها في الحياة في منطقتنا مقارنة بما حدث لشعوب اوربية قديمة سحقتها السياسات التي اتبعتها الامبراطوريات الجائرة في تضاعيف العصور الوسيطة المتأخرة.. وعلينا ان نسأل: كيف ذابت مقومات قومية وعرقية اثنية وثقافية اجتماعية لشعوب مثل الاسكوتلنديين والايرلنديين والغال والوندال.. الخ

متغيرات نحو الاسوأ: محن الاقليات
ان المتغيرات في العلاقات نحو الاسوأ قادت بالضرورة الى المزيد من الاضطهادات في مجتمعاتنا ابان القرن العشرين.. وان المتغيرات قد حدثت ـ ويا للاسف الشديد ـ على ايدي الثوريين القوميين 1949- 1979، وعلى ايدي المتطرفين الاسلامويين 1979- 2009. واعتقد ان جيلا قادما من الباحثين عن الذات سيحيا صامتا متمزقا بين 2009 ـ 2039.. الى حين تبلور جيل قادم لما بعد ثلاثين سنة، اي لما بعد 2039 باستطاعته ان يحيا ليرسم طريق مستقبل جديد ويفتح صفحة تاريخية جديدة من خلال تبلور ظاهرة تاريخية جديدة، ربما سيتفاهم الناس على اسس مدنية في اطار قانون مدني ودستور مدني ومجتمع مدني ومؤسسات مدنية!
ان الاقليات في عموم المنطقة سواء في الشرق الاوسط او المغرب العربي (كما تربينا على تسميتها) تلاقي اليوم اضطهادات غاية في البشاعة باساليب دينية او طائفية او شوفينية، علما بأ، الاكثريات تلاقي من اضطهادات ومعاناة هي الاخرى ولكن باشكال متنوعة. واذا كان الصراع سابقا بين انظمة دول سياسية وبين اقليات اجتماعية، فلقد تحّول اليوم الى نسيج المجتمع، اي الى صراعات اجتماعية داخلية.. لقد كانت مجتمعاتنا العربية المختلطة في الماضي بعيدة كل البعد عن المجتمعات العربية المغلقة، وجراء الانفتاح الاعلامي والاقتصادي وبسبب الاجندة السياسية والايديولوجية، فان بعض المغلق يفرض اجندته على المتنوع والمختلط.. فتتأثر الاقليات بفعل سياسات المنغلق!! بل واجد ان اقليات وطوائف كانت منغلقة على ذاتها لقرون طوال، اصبحت ازاء انكشافها مجبرة على الاعلان عن كل مسكوتاتها وطقوسها الغريبة التي تبدو على الشاشة التلفزيونية مفاجئة للجميع!
لقد باتت السلطات تساهم بالقمع والابادة والتهميش والاقصاء وحتى الاستئصال والقتل. ان ما نشهده فى العراق ولبنان ومصر وليبيا والجزائر والسودان سواء بجنوبه او دارفوره يعطينا مثلا ساطعا على مدى التعاسة التي تعاني منها المجتمعات بشكل خطير.. ويمكنني ان استثني في هذا الباب تجربة حياة كل من الجراكسة والشيشان والمسيحيين في الاردن اذ يعتبرون جميعا اقليات متميزة وهم جزء حيوي ومحترم في مجتمع لا يمكن ان يقارن ابدا بغيره.. وينبغي القول ان المجتمع اللبناني برغم انقساماته السياسية، الا ان التربية الاجتماعية، بل وحتى العلاقات التي تنفرد بها البنية الاجتماعية اللبنانية لا يمكن ان تقارن ابدا بغيرها من مجتمعات المنطقة، نظرا لأن المجتمع اللبناني قد كشف عن صراعاته الداخلية منذ القرن السابع عشر، وثمة توازنات سكانية واجتماعية في لبنان اكثر من اي مكان آخر من الشرق الاوسط.

رؤى مستقبلية: اشتراطات التلاقي من جديد
لا ادري هل تنفع اليوم اساليب الديمقراطية للتقليل من فجوة الابتعاد بين الاقليات عن المجتمع باكثرياته؟ انني اعتقد بأن الديمقراطية مشكلة قائمة بذاتها وبالرغم من ايماننا بها ايمانا مطلقا، ولكنها ليست اشكالية زعيم او ازمة نخبة معينة، بل انها مشكلة " مجتمع " ينشطر اليوم على نفسه طائفيا ودينيا بعد ان انشطر بصمت عرقيا وشوفينيا؟؟ ان الانتخابات التمثيلية لا تنفعنا ابدا ولا البيروقراطية التمثيلية في مجتمع اخذ يفتقد لأول مرة ركائزه وحصانته واخذ ينفلت شيئا فشيئا عن مكوناته! انني اعتقد ان العلاج الحقيقي يكمن اصلا بتأسيس مجتمع مدني وقانون مدني وحياة مدنية واساليب مدنية.. تنتفي من خلالها كل التمايزات والتباينات في كل من السياسة والادارة والجيش والقانون.. وان الديمقراطية لا يمكنها ان تعيش في بيئة تضادات، او في غابة من التناقضات.. وفي مجتمع يعبر عن نفسه بالمزيد من الاحقاد والكراهية والضغائن والخبائث..
ان اول خطوة على الطريق احداث (دولنا) و (انظمتنا السياسية) جملة متغيرات جذرية في كل حياتنا من اجل تأسيس نظام حداثة يؤسس لمجتمع مدني. وهو " النظام " يحميه قانون طوارئ جاد ومنصف لمرحلة معينة يسعى الجميع فيها للتغيير الدستوري (اي: لتأسيس قانون مدني عام لأي مجتمع شرق اوسطي)، وان هذا التغيير الدستوري سيؤسس لمتغيرات سياسية وتربوية واجتماعية على اساس مواطنة حقيقية صرفة.. تحترم فيها كل المشاعر وكل العقائد وكل الطقوس وكل العادات وكل التقاليد وكل الثقافات.. وان الذي يحمي الاقليات من غدر الزمن تحقيق مكاسب او تشريع حقوق مضافة لهذه الاقليات باعتبارها من الاصول الاجتماعية القديمة التي تمتلك شرعيتها، او انها من نتاج تاريخ غير مسؤولة عنه ابدا، فالانسان اليوم غير مسؤول عن خطايا تاريخ مضى.. وليس من حق كائن من كان ان يضطهد الانسان سواء كان من اكصرية او من اقلية باسم دين او مذهب او عرق او تقاليد.. وليس من حق المجتمع او الدولة او كليهما معا وباسم اية سلطة كانت اضطهاد الاقليات والطوائف او التقليل من شأنها او تهميشها او اقصائها او تهجيرها.. ان حقوقها المضافة تكمن في فرص العيش والتعايش والتوظيف والحماية والصحة والتربية والتعليم.. الخ
ان ما نطالب به في اي مجتمع عربي او اي بيئة عربية لابد ان ينسحب على كل منطقة الشرق الاوسط بدءا بايران ثم تركيا ثم افغانستان وباكستان وكل بلدان المغرب العربي (= شمال افريقيا). ان من المعيب على المسلمين ان يقللوا من شأن المواطنين من اقليات اخرى ليست على دينهم ليعبثوا بشؤونهم، وليس من حق اي طائفة استئصال الطائفة الاخرى ان كنا ندرك في اي عصر نعيش، وان كنا ندرك قيمة الشعارات التي نرفعها مثل الديمقراطية والمجتمع المدني وليس من حق اي قومية الاستحواذ على ما تريد من دون احترام المواثيق والعهود والحدود.. ومن المعيب على المسلمين ان يتشرد المسيحيون الشرقيون لتحميهم مجتمعات اخرى في الغرب!! ومن المعيب جدا اشعال الصراع الطائفي بين السنة والشيعة العراقيين والسعي للتخندق السياسي باسم هذا الطرف او ذاك!! ومن المخجل ان يعاني كل من الصبة المندائيين واليزيديين والفوليين من خطر السياسات الطائفية والشوفينية والدينية والتعّرض لمخاطر الابادة في العراق! وليس من العدل ان تختطف البنات القبطيات بمصر على ايدي المسلمين!! ولا يمكن ان يغّرم من يسمي اولاده باسماء امازيغية في ليبيا ويتعّرض لقانون مجحف!! ولا يمكن لابناء الاقليات ان يطالبوا بأكثر مما يستحقون وان الشتائم والسباب وان الاحقاد والكراهية لا ينتج عنها الا المزيد من ردود الفعل.. انني ادعوهم الى العقل والمحاسنة والمجادلة بالتي هي احسن.. ان طريق الكراهية لا يودي الا الى التهلكة والخسران.. اناشد كل حكوماتنا ان تسعى جاهدة وبسرعة كبيرة الى محو اي مواد غير تربوية تزرع التطرف والتعصب والغلو والحقد لدى الاطفال والشباب.. وما ينطبق على البلاد العربية ينسحب على بقية دول العالم الاسلامي.. وبقدر ما نناشد الحكومات لتغيير المناهج كاملة نطالبها بتغيير جذري في برامجها الاعلامية وما يقّدم على الشاشات التلفزيونية والفضائيات التي تزرع الانقسامات وتنشر الاحقاد وثقافة الكراهية!

وأخيرا: دعوة الى التلاؤم بالمحبة والحسنى
علينا ان لا نفتح جروح حدثت في الماضي لكي تتقّرح وتغور وتكبر وتكون سببا في اذكاء صراعات لا معنى لها في مجتمعات الشرق الاوسط نحن في غنى عنها اليوم ومستقبلا.. ذلك لأننا بذلك نفتح بحرا من الدم لا يمكن ان ينشف ابدا.. ولنا في العراق مثلا حقيقيا لصراعات ابنائه بعد ان اذكيت من قبل الاغبياء الذين لم يفقهوا التشريعات المدنية وضرورات دستور مدني ولم يدركوا معاني العراق واحتياجاته وليس لهم أي معرفة بتواريخه وتجارب ابناء مجتمعه!
ولا يمكن لأي مؤتمر ـ ولا اقصد مؤتمر زيورخ هذا ـ ان ينجح الا بالاستعانة بذوي المعرفة والمختصين والعلماء ليقولوا كلمتهم الاخيرة بعد الاستماع الى وجهات النظر وترديد مقولات.. كما اطالب كل المتكلمين ان لا يخوضوا في موضوعات لا يعرفون عنها الا ما سمعوه، وان لا يطلقون الاحكام والاراء من دون ارقام ولا احصائيات ولا معلومات حقيقية ولا حقائق دامغة.. فالاحكام لا يمكن ان تطلق هكذا من دون قاعدة معلومات! وآخر ما اطالبكم به ان لا تصفقوا لي الان.. دعونا نصفق معا بعد انتهاء المهزلة!
اشكركم على حسن اصغائكم ومشاركتي التفكير في ما قلت والسلام عليكم.

www.sayyaaljamil.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف