كتَّاب إيلاف

النخبة والسياسة في العراق الملكي (6/8)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مفهوم الوطنية ووحدة التراب الوطني

ورث العراق مشاكل سياسية متفاقمة، خلفتها له الإدارة العثمانية التي تخبط جهازها الإداري، ووقع تحت تأثيرات الأوضاع التي نالت من الإمبراطورية التي آلت إلى الضعف. وإذا ما كان التقسيم الإداري العثماني قد ركز مقومات الولايات العراقية الثلاث "بغداد-البصرة-الموصل"، فإن حالة الانفصال أو القطيعة بين هذه الولايات لم تبرز اعتباراً من الارتباط بمدينة بغداد التي حظيت بالأهمية والمكانة الرفيعة. ولعل اجتماع كلمة المندوبين في الاستفتاء الذي أجرته الإدارة البريطانية عام 1919، يوضح بجلاء حالة الارتباط هذه: "اخترنا أن تكون لبلاد العراق الممتدة من شمالي الموصل إلى خليج.. دولة واحدة يرأسها ملك عربي مسلم وهو أحد أنجال الشريف حسين مقيداً بمجلس تشريعي وطني مقره عاصمة العراق بغداد" (144). فحدود البلاد محددة ومعلمة في وعي وذهن أبناء البلاد والنظرة إلى المستقبل السياسي والهيئات التي لابد أن يتم لها الإعداد واضحة، بالإضافة إلى استيعاب مكانة مدينة بغداد التي مثلت الوشيجة الوثقى بين مختلف مناطق العراق.
حدثان تاريخيان بارزان كان لهما الأثر الأهم، في إبراز معالم الفكرة العراقية وجمعت الوعي السياسي وحشده بكل قوة، تمثلا؛ في تشكيل أول وزارة وطنية في العراق برئاسة محمد النقيب في 25 تشرين الأول 1920، وتتويج الملك فيصل الأول كملك دستوري على العراق في 23 آب 1921 (145). وإذا ما كانت الإشارات قد حامت حول هذين الحديثين، على أنهما قد ظهرا إلى الوجود، في ظل الإرادة البريطانية. فإن هذا لا يعني أن ما برز على الواقع السياسي قد جاء يسيراً، بل أن ما تحقق كان ثمرة كفاح الشعب العراقي، الذي أعلن ثورة مسلحة عام 1920، وضح فيها مطاليبه وأهدافه الوطنية. وعلى هذا فإن القول بأن بريطانيا حرصت على "خلق الكيان العراقي" يعد تبسيطاً ساذجاً للأمور. فبالقدر الذي قدمت فيه مساعدتها، حاولت أيضاً جعل التباين الجغرافي والعرقي في العراق ورقة للضغط من أجل تثبيت مصالحها.
لم يغب عن وعي الملك فيصل عمق الأخطار التي تهدد البلاد، لاسيما في مجال وحدتها الوطنية. فكان يرشد وينصح في ضرورة التنبه إلى هذا الجانب، وهو في مسعاه هذا إنما كان يؤكد الحرص على الرابطة الوطنية، حتى ليقول: "وإني لا آلو جهداً بأن أستعين برجال الأمة على اختلاف مواهبهم، وتباين طبقاتهم، وتفاوت معتقداتهم، فالكل عندي سواء لا فرق بين حاضرهم وباديهم، ولا ميزة لأحد عندي إلا بالعلم والمقدرة، والأمة بمجموعها هي حزبي، لا حزب لي سواها، ومصلحة البلاد العامة هي مصلحتي، ولا مصلحة لي غيرها" (146). فيصل إذاً كان واعياً لأداء دوره في تدعيم وترصين وحدة البلاد، فطالما هو ملك البلاد جميعها، فعليه أن يلبي طلبات وأماني الجميع، ويوفق بينها، وهو يخضع تصوره السياسي لمنطق التاريخ الذي يعده الدرس والعبرة، فمن خلال مقارنة موقف الأتراك من العرب، إبان العهد العثماني، أشار إلى أهمية احترام الروح القومية غير العربية، وحث العربي للتعاون مع أخيه من القوميات الأخرى تحت راية الوحدة الوطنية: "إنني اعتقد أن من أعظم واجبات العربي تشجيع أخيه الكردي العراقي للتمسك بقوميته، والانضمام تحت الراية العراقية التي هي رمز الجميع.. وبذلك يكون أعضاء عاملين لإسعاد الوطن المشترك. كما أنني لا أشك في أن كل عراقي صميم لابد وأن يشعر بهذا الحس نحو العناصر العراقية كافة" (147). لقد كان الملك فيصل الأول يعي جيداً أن مسألة الأقليات القومية، لابد أن تفجرها بعض الأطراف التي لها أهداف ومطامع في العراق، كورقة ضغط. ولعل موقفه من الأحداث التي دارت في المنطقة الشمالية، "حيث تمرد التياريون على السلطة الرسمية في حزيران 1933"، يوضح بجلاء عمق الضغوط والأعباء التي كانت تقع عليه. إذ يشير في البرقية التي بعثها من قصر بكنغهام في لندن "حيث كان يحل ضيفاً على ملك بريطانيا" على رئيس الوزراء قائلاً: "إن توقيف المار شمعون سيحدث ضجة في الصحف هنا، مما يخرب علينا الجو الصافي والموقع الممتاز الذي حصلنا عليه، وبالنتيجة سيهدم آمالنا بالموفقية في المسائل الكبرى التي بدأنا نعالجها، عالجوا الأمر بحكمة وأبقوا على جميع الإجراءات التي يجب أن نقوم بها لحين عودتي" (148).
كانت الجهات الرسمية ممثلة برؤساء الوزارات والوزراء، واعية لأهمية الحفاظ على حقوق الأقليات القومية. فوزارة عبد المحسن السعدون كانت قد أصدرت بياناً في 11 تموز 1923، حول حقوق الأكراد من أجل تسهيل مهمة الانتخابات للمجلس التأسيسي في المنطقة الكردية أشارت فيه: "إن الحكومة لا تنوي تعيين موظف عربي في الأقضية الكردية ما عدا الموظفين الفنيين. ولا تنوي إجبار الأقضية التركية على استعمال اللغة العربية في مراجعاتهم الرسمية. وأن تحفظ كما يجب حقوق السكان والطوائف الدينية والمدنية في الأقضية المذكورة" (149). فيما أعلن وكيل رئيس الوزراء "جعفر العسكري" في 8 آب 1930، إلى أن الحكومة العراقية: "تتمسك أشد التمسك بوجوب القضاء على أية نزعة ترمي على الإخلال بوحدة الوطن العراقي.. وكذلك ترحب الحكومة العراقية بتقدم جميع أبناء البلاد ضمن الوحدة العراقية بأعظم سرور وبدون تفريق بين كردها وعربها، وبهذه الروح تقدمت في كل مرحلة، وأظهرت استعدادها في ذلك" (150).
لقد أحس رجال الواجهة السياسية، بخطر ارتباط بعض الأقليات بالجهات الأجنبية، والمساعدات التي تقدمها لهم تحت مختلف المبررات. حيث أشار نوري السعيد في مجلس الأعيان إلى أن: "الحكومة العراقي تعترض على تقديم المساعدات إلى الأقليات دون إشرافها، ولابد أن تكون تلك المساعدات مقيدة بشروط تؤدي إلى التدخل في سياسة القطر الداخلية (151). ونتيجة للضغوط التي مورست من قبل بريطانيا على العراق حول جمع الآثوريين النساطرة في منطقة موحدة ومنحهم بعض الحقوق، لم يجد ناجي شوكت الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية، بداً من التصريح للمندوب السامي البريطاني: "إن الحكومة العراقية لا ولم تعترف قط في وقت ما بمستوطن، أو وطن قومي للأرمن في أية بقعة من العراق" (152). أما ياسين الهاشمي فكان موقفه يتلخص في أن من لا يرغب في الاندماج في الوحدة العراقية، عليه أن يرحل عن البلاد أما من كان ولاؤه للعراق، فإنه يبقى فيه: "إن لمصلحة جميع ذوي العلاقة ولهناء الآثوريين أنفسهم ولسمعة العراق، يجب أن يتخذ للآثوريين الذين لا يريدون أن يسكنوا بسلام ويندمجوا بصورة نهائية مع الشعب العراقي مسكناً جديداً في مكان آخر خارج العراق .. أما الذين بقوا على ولائهم للسلطة واحترامهم لقوانينها فهؤلاء يبقون في العراق ويعتبرون عراقيين وعليهم ما على هؤلاء من واجبات" (153). لقد أفرزت الأحداث التي رافقت قضية تمرد بعض الأقليات "كالتمرد الآثوري" تبايناً في الآراء داخل مؤسسة السلطة نفسها، فالملك فيصل الذي كان يعاني من الضغوط البريطانية الشديدة، حاول أن يشرح وجهة نظره لوزارة رشيد عالي الكيلاني: "20 آذار 1933 - 9 أيلول 1933" بضرورة ضبط الأعصاب والتعامل مع الموقف بما يتناسب والأوضاع الدولية المحيطة، إلا أن رأي رشيد عالي الكيلاني كان حاسماً إذ أشار: "ليس لحكومة بريطانيا أن توجه الإنذار لجلالتكم، كما أن إنذارها ليس وارداً بذاته، إذ أن قضية الآثوريين قضية داخلية صرفة.. ومن حق العراق بل من واجب حكومته أن تقوم بتأديبها لإعادة الأمن والنظام في البلاد" (154). إن مرونة الملك فيصل وصرامة موقف الكيلاني لا تعني أن الهوة في الرأي كانت سحيقة فيما بينهما. إذ عندما قدم الكيلاني استقالته إلى الملك بعد عودته إلى العراق، لم يتوان الملك عن تمزيق كتاب الاستقالة والتصريح للكيلاني: "يظهر أنك لا تعرف فيصلاً بعد، كيف أقبل استقالة وزارتك وقد أصبحت موضع ثقتي ورجائي" (155).
عبرت القوى الوطنية عن توحدها وتآزرها، حيث عمدت إلى حث الجهود، لمواجهة الأخطار التي تهدد البلاد. ولعل الموقف الذي اتخذه الوطنيون إزاء الاعتداءات النجدية على حدود العراق الجنوبية، في مؤتمر كربلاء الذي عقد في 20 نيسان 1922. يمثل أبلغ دلالة على وحدة الموقف. إذ أشار البيان الختامي للمؤتمر: "وبناء على ما أوقعه الخوارج الإخوان بإخواننا المسلمين.. قد اتفقت كلمتنا، بحيث لم يتخلف منا أحد، في كل ما تقتضيه مصلحة بلادنا عامة.. وقررنا معاونة القبائل بكل ما في وسعنا واستطاعتنا لمدافعة الخوارج الإخوان ومقاتلتهم، العائد أمر تدبيرها لإرادة صاحب الجلالة الملك فيصل الأول" (156). ومن هذا يتضح جملة من الحقائق، قد برزت في البيان كان أهمها؛ الاتفاق على موقف موحد والعمل على إعلاء مصلحة الوطن، والالتفاف حول شخص الملك فيصل. من جانب آخر أسهم العديد من الكتاب والصحفيين في شرح موضوع الوحدة الوطنية. وفضح الأساليب التي تعمد إلى تطبيقها القوى الاستعمارية، مثل استخدام مساعدة الأقليات للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد. حيث أشارت جريدة العالم العربي: "فعلينا نحن الشرقيين أن لا تخدعنا الدعايات التي لا يقصد منها إلا ابتلاعنا بصورة هينة وعلينا نحن العراقيين أن نقف كلنا كالبنيان المرصوص أمام هذه المناورات وأن نعلم علم اليقين أن المستعمرين وعصبة الأمم.. في نظرهم أننا كلنا العربي والكردي والآثوري والسني والشيعي والمسيحي والصابئي والبدوي والحضري والباشا والحمال والغني والفقير والعاقل والمجنون والحاصل كلنا، من أولنا إلى آخرنا سواء فهم لا يفضلون إلا من يغدى مصالح بلاده لمصلحتهم ومن يحني رأسه متذللاً أمامهم" (157).

الهوامش:

144- و. ث. ع. ن. وثيقة 4 ورقة 6 استفتاء عام 1918-1919.
145- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج1 ص ص 14، 65.
146- نفس المصدر، ج1 ص 68.
147- جريدة العالم العربي، 28 كانون أول 1926.
148- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج3 ص 373,
149- نقلاً عن، لطفي جعفر فرج، عبد المحسن السعدون ودوره، ص ص 108- 109.
150- جريدة العالم العربي، 9 آب 1930.
151- محاضر مجلس الأعيان لسنة 1931-1932، اجتماع 7 جلسة 13، آذار 1932، 220.
152- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج3 ص 186.
153- جريدة الإخاء الوطني، 2 تشرين الثاني 1933.
154- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج3 ص297.
155- نقلاً عن عبد الرزاق الحسنين تاريخ الوزارات، ج3 ص299.
156- جريدة العراق، 15 نيسان 1922.
157- جريدة العالم العربي، 15 آب 1930.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف