كتَّاب إيلاف

عهد مبارك: جمهورية الكباري والأنفاق

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

إذا كان يحق لمحبي ناصر أن يفاخروا بإنجازات رجل ربما لم يحالفه التوفيق في تحقيق أحلام كبيرة لسبب أو آخر، لكن هذا لا ينزع عنه إخلاصه لقضيته واستماتته في الدفاع عنها، وقد حقق في سبيل هذا إنجازات هامة ليس من العدل تجاهلها، ومنها مثلاً تحديث بنية المجتمع، وانتزاع فتيل الطائفية منه، وحشد الجماهير خلف حلم كبير، ومواصلة مسيرة محمد علي طريق الارتقاء بمصر وتعزيز مكانتها الإقليمية .
وإذا كان أيضاً يحق للمؤمنين برؤية أنور السادات الثاقبة، أو بالأحرى التي أكدت الأحداث التي جرت بعد وفاته أنها كانت سديدة، خاصة على صعيد إبرام اتفاق للسلام مع إسرائيل، هو الأوثق والأهم إقليمياً، في إطار الدفاع عن مصالح مصر في استرداد سيناء، بعد انتصار غير مسبوق على إسرائيل كان هو السبب المباشر لإنهاء حقبة الحروب التي دفعت مصر ثمناً فادحاً، ومهما كانت فداحة الثغرات التي باغتت السادات كما حدث في "الدفرسوار" أو على الصعيد الداخلي حين أخرج مارد الإسلام المسلح من قمقمه، ليكون السادات بذلك قد سدد ثمن خطيئته حين سقط مضرجاً في دمائه على رؤوس الأشهاد .
لكن ـ وآه من لكن وأخواتها ـ فإن جماعة المنتفعين بعهد الرئيس مبارك السعيد، ربما لن يجدوا الكثير مما يباهون به أمام محكمة التاريخ، لدرجة أنهم قد يضطرون إلى الحديث عن كوبري أكتوبر ونفق الأزهر، فضلاً عن مترو الأنفاق، وكل ما له علاقة بالكباري والأنفاق من إنجازاتٍ، حولت القاهرة إلى مدينة عشوائية عجيبة، أقرب ما تكون إلى خطيئة عمرانية كبرى"، تثير الرعب واليأس والغثيان .
ويتجاوز مفهوم "جمهورية الكباري والأنفاق" في عهد الرئيس مبارك حدود معناه المباشر ليدشن ما نزعم بضمير مرتاح أنها "سياسة عهد"، إذ تمكن من خلق واقع اجتماعي غير مسبوق، لعل أخطر ملامحه تلك الحقيقة التي يجمع عليها المصريون ـ سراً وعلانية ـ ومفادها، أنه لا يمكن لأي مصري أن يحقق هدفه، إلا من خلال "كوبري" أو "نفق"، بغض النظر عن طبيعة ذلك الهدف، فلا فرق أن يكون رخصة حزب أو صحيفة أو حتى رخصة بناية أو سيارة، وبصرف النظر أيضاً عن مشروعية هذا الهدف .. فالمهم هو أن تتجه النية إلى الرضا والموافقة، وحينها يجد المرء كل أبواب الخير وقد فتحت أمامه، وذللت كافة الصعاب، وصار المستحيل ممكناً .
أما حين تتجه النوايا إلى الرفض والاستبعاد، فكفانا الله شرها، إذ يجد المغضوب عليه كل الأبواب وقد أوصدت دونه، بما في ذلك باب بيته، لأنه إذا خرج للتسلية مع أصدقائه قد يجد نفسه متهماً بالتآمر لقلب نظام الحكم، وحتى إذا اكتفى بالتسكع في الشوارع قد لا يعود إلى منزله ثانية، ويتبخر كما حدث لرضا هلال، ترى هل لا زال يذكره أحد ؟
..........
ولعلنا لا نبالغ حين نؤكد أن إنجاز أي معاملة في مصر لم يعد الآن ممكناً دون اللجوء إلى وساطة أو رشوة، فضلاً عن براعة المجتمع المصري في اختراع مسميات لطيفة للمحسوبية والبذل والبرطلة، فالأولى يطلق عليها "السند" و"الضهر"، والثانية هي "إكرامية" و"دخان"، حتى أصبح "حق الدخان" سلوكاً يومياً معتاداً في كل مفاصل الجهاز الإداري للدولة، والأسوأ من هذا أنه تسلل حتى إلى بعض أنشطة القطاع الخاص، المتصلة بتقديم الخدمات للجماهير، كشركات الهواتف والمدارس الخاصة وغيرها
وبالطبع تفضل غالبية المصريين إيثار السلامة، ودفع "حق الدخان" لقضاء مصالحهم، اختصاراً للوقت والجهد وابتعاداً عن شر الإهانة والمعاملة السيئة، لكن في المقابل هناك قلة تستخدم وسائل أخرى، وسيناريوهات لا حصر لها، لكنها لا تخرج عن إطار التسلل عبر "نفق الرشوة"، أو القفز من أعلى "كوبري السلطة"، لتصل إلى غايتها سواء بدأب النملة في شقوق الأرض سعياً للعيش، أو بمخالب النسر حين ينقض على فريسته .
وكان بديهياً أن تشوه هذه المعايير الفاسدة روح المصريين لتتعمق في نفوسهم قناعة مؤداها ان العلاقة بين السلطة والناس تقوم على الانتهازية والمحسوبية وعدم الصدق مع النفس، وبالتالي عدم الصدق في التعبير وعدم الإحساس بالانتماء والإحباط الذي يتولد عن البطالة والتعليم المتدهور والغلاء المتزايد وعدم وجود المسكن وتدهور الصحة فهناك نحو 12 مليون نسمة في أماكن عشوائية لا يتمتعون بالحد الأدنى من أساسيات الحياة، وبالطبع ليس من الحكمة أن نتوقع من هؤلاء الالتزام بأية معايير أخلاقية .
جرت بالفعل خلال العقود الماضية عملية "تجريف" شريرة للشخصية المصرية، وقد انتزع منها أجمل وأنبل ما فيها، حتى أوشكت على التصحر، وبدت طبقة صخرية ملساء حادة، حتى أمسى المصريون يتشاجرون لأتفه الأسباب، تحكمهم ذهنية الزحام، وتسود بينهم روح التعصب والتشنج
وبالتالي أصبحنا ـ نحن الجالية المصرية في مصر خلال هذا العهد الميمون ـ نتحدث كثيراً وباستفاضة مملة عن المعاني النبيلة لكن لا نمارسها بصدق، فنتقيأ كلاماً منمقاً يبدو جميلاً عن التسامح، بينما نحن أكثر شعوب المنطقة تشنجاً، ونريق أنهارا من الحبر في الحديث عن المواطنة، بينما صرنا أبعد ما نكون عن ممارستها أو الإيمان بها بشكل جدي، والمثير للدهشة هنا أننا حين كنا نمارسها فعلاً، لم نكن نتحدث عنها، بل لم نكن نعرف هذا التعبير أساساً .. فماذا حدث في هذا العهد "المبارك" ؟
ما حدث في ظني ـ وليس كله إثم ـ أن الاحتيال لم يعد لعبة الأشقياء والخارجين عن القانون فحسب، بل أصبح الآن "لعبة شعبية" في مصر، وصار "أسلوب حياة"، فهناك أعداد لا حصر لها من رجال الأعمال المحتالين، لكنهم يتوارون خجلاً أمام أعداد الساسة المحتالين، ومن يدور في فلكهم من أبواق ومكبرات صوت، يطلق عليهم ـ احتيالاً ـ كتّاباً ومفكرين وصحفيين وفنانين .. وباختصار "تشعبلت مصر" .

..........
مرة أخيرة إذا كان يحق لعشاق الزمن الناصري أن يباهوا بصحفيين وكتاب من وزن محمد حسنين هيكل، وفنانين من طراز عبد الحليم حافظ، كانوا حول ناصر، كما يحق أيضاً لأنصار السادات أن يفاخروا بكتاب من وزن موسى صبري، وفنانين مثل ياسمين الخيام قبل أن تصبح داعية، فإن "رجال المرحلة" لن يجدوا أمامهم إلا صحفيين من طراز سمير رجب، وفنانين من فئة "شعبولا" و"اللمبي" و"بوحه" .
باختصار شديد جرت عملية "شعبلة" كاملة لمصر، ولأن الناس على هوى مطربيهم. صار هناك شباب "شعبولات". وصحافيون "شعبولات". ومطربون وممثلون وأطباء وحتى وزراء "شعبولات". وتشعبلت الشوارع والحارات. تشعبلت النساء والحدائق. باختصار صارت "الشعبلة" قانوناً وسياسة وفناً وصحافة وأدباً وطريقة حياة كاملة .
وبهذه التضاريس النفسية، وتلك الذائقة القبيحة، يكون المواطن المصري العزيز أنجز خطوته الأولى نحو "الشعبلة"، وليس عليه بعد ذلك سوى أن يترك ذاته للتفاعل بمرونة مع شتى مظاهر "الشعبلة" التي باتت تحاصر المصريين. لكن عليه ألا يكترث بالمنطق. أي منطق، فمن سمات "الشعبلة" التعايش مع العبث .
والله غالب على أمره
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم،
Nabil@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف