كتَّاب إيلاف

النخبة والسياسة في العراق الملكي (7/8)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الحلقة السابعة: مشكلة الموصل

لم تقتصر التهديدات التي تعرض لها العراق على التدخل في شؤونه الداخلية، وفرض القرارات عليه من قبل بريطانيا. بل عانت البلاد من تفاقم الأوضاع السياسية. إذ كانت السلطة تطالب وبشكل دائم من قبل العناصر الوطنية، بضرورة العمل الحثيث من أجل إعلان المجلس التأسيسي وإصدار الدستور، والانتهاء من التشكيلات الدستورية، التي تعهد بها الملك فيصل الأول، وكانت من شروط بيعته. وإزاء المداخلات السياسية هذه، برزت مشكلة المطالبة بالموصل من قبل تركيا، ووفق اعتبارات وحجج قدمتها. مما كان لها أبلغ الأثر على الأوضاع السياسية في العراق، وكان لها صداها في الوسطين الرسمي والشعبي، إذ أن المطالبة بولاية الموصل تعني اقتطاع مساحة واسعة وكبيرة من البلاد. ومما فاقم الأوضاع تعقيداً، أن بريطانيا توجهت نحو جعل قضية الموصل، كورقة ضغط لإمرار صفقتها السياسية، بل إنها عمدت لمساومة الجانب العراقي، والإيغال بالمطالبات إلى الحد الذي بلغ الابتزاز.

حرص الملك فيصل الأول على الإفصاح عن رأيه حول قضية الموصل، حيث أشار إلى أن السلاح الذي يجب أن يستند إليه العراق في الدفاع عن قضية يكمن في اتحاد كلمة الشعب: "بالواجب المتحتم على الأهلين في هذه الأيام الخطيرة وهو الاعتصام بالاتحاد والاتفاق في سبيل مصلحة البلاد. فليعلم الجميع أن الانقسام يودي بحياتنا الاستقلالية" (158). وكان الملك قد توجه نحو حشد جميع الجهود الرسمية والشعبية، إذ استنكر على عبد المحسن السعدون تقديم استقالة وزارته في ظل الأوضاع التي كانت تمر بها البلاد، حيث أشار في رسالته إلى السعدون في 10 كانون الثاني 1926: "فهل أنتم مفكرون فيما يحدثه انسحابكم في مثل هذه الأزمة التي لها ما بعدها من الوهن في موقفنا داخل البلاد وخارجها، وتقوية خصومنا علينا؟" (159).

وكان لأهمية قضية الموصل في فكر الملك، أن ربط مسألة إنهائها بالعديد من القضايا التي تهم البلاد. حيث خاطب مجلس الأعيان قائلاً: "وهنالك مشاريع أخرى ذات أهمية عظيمة لابد أن يأتي دورها في القريب العاجل، وتعرض في حينها على مجلسكم الموقر، ومتى انتهت قضية الحدود بيننا وبين جارتنا تركيا، واعتقد العالم بصحة السلم في الشرق الأوسط" (160). فالمسألة في نظره لا تعني نزاعاً حدودياً بين جارين، بل هي قضية تهم الاستقرار الدولي في منطقة هامة ورئيسية ممثلة بالشرق الأوسط. ولم يغفل الملك من الإشادة بالموقف الشعبي الذي أكد على ارتباط الموصل بالعراق، وأنها جزء لا يتجزأ منها: "ولا يسعني أن أتطرق إلى بحث آخر، قبل أن أظهر ابتهاجي وثنائي على ما أبرزه أبناء البلاد عامة، وسكان الألوية الشمالية خاصة، من الغيرة الوطنية، والتمسك بالوحدة العراقية، في كل مواقفهم، ولاسيما عندما كانت اللجنة الأممية بين ظهرانيهم" (161). فالموصل قضية الملك الرئيسة، فما يتمخض عنها من نتائج،إنما مرتبط بمستقبل العراق وكيانه، حيث يشير: "إن مسألة تعيين الحدود الشمالية كانت، ولم تزل، موضوع اهتمامنا الرئيسي، وذلك لما يترتب على حلها من النتائج الخطيرة التي يتوقف عليها مستقبل البلاد بأجمعه" (162).
تناول الملك فيصل مسألة الموصل من مختلف جوانبها، حيث أشار إلى الحقوق التاريخية العربية في مناطق عمدت تركيا إلى سلبها، وطالب بضرورة منح الحقوق القومية للعرب القاطنين في تلك المناطق: "هل نسي الأتراك ديار بكر وأرضه وماردين عربية في جوهرها فيحق للعراق والحالة هذه أن يطالب بتلك المنطقة إذا طالب الأتراك بولاية الموصل بسبب وجود قليل من التركمان في أربيل وكركوك، ولكن العراق لن يقدم هذا الطلب بل يرجو أن يمنح الأتراك عرب الأناضول الحريات الشخصية التامة التي يتمتع بها أتراك العراق" (163). والحرص على الإفصاح عن الأوضاع والحريات العامة التي تتمتع بها الأقليات في العراق، إنما تمثل حالة إيجابية، تكون في المحصلة لصالح العراق. والموصل في فكر فيصل ليست مجرد قطعة أرض متنازع عليها. إنما تمثل قضية هامة وخطيرة، تمس مختلف شؤون البلاد، حيث كانت الإشارة إلى المساوئ الاقتصادية التي تهدد البلاد في حال ضياعها: "إذا جرد العراق من الموصل فسيكون مستقبل البلاد الاقتصادي في أسوأ حال، ويكون الدفاع عنها غالي التكاليف، وشاقاً، وإذا انفصلت الولاية عن العراق توجه ضربة شديدة" (164).

اجتمعت الإرادة الوطنية حول ضرورة ربط الموصل في العراق، حتى أن جميع الجهات الرسمية والشعبية كانت قد عبرت عن رأيها، مقدمة الحجج والبراهين الدامغة، فعلى صعيد وجهة النظر الرسمية. قال نوري السعيد: "إذا لم تبق الموصل مع العراق، لا يمكن أن تتألف حكومة عراقية، ولا يمكن النظر في المعاهدة العراقية البريطانية" (165). والسعيد في قوله هذا، لا يطلع التصريحات على عواهنها، بالقدر الذي كان يوضح لبريطانيا، مصيرية قضية الموصل وارتباطها الأكيد والشديد بالقضية العراقية عموماً، فهي في رأيه مسألة وجود. أما جعفر العسكري فكان رأيه يكمن في ارتباطه هذه القضية باستقرار الأوضاع العامة، وبروز تأثيراتها على الأوضاع الاقتصادية في البلاد: "فهذه مسالة الحدود الشمالية هي حديث النوادي السياسية وهذه مشاريع اقتصادية يتوقف أصحابها من الشروع في العمل إلى أن تتوضح الحالة السياسية وهذا العراق وطنكم أمامكم ترونه كأنه في أرجوحة يذهب تارة ويأتي تارة أخرى بدون أن يستقر في مستقره" (166).

استنفرت الحكومة العراقية جميع جهودها لشرح رجحان حقها التاريخي والاقتصادي والعرقي في ولاية الموصل، وحشدت كل الأدلة لتقديمها إلى لجنة عصبة الأمم. حيث أشار البيان الذي وقعه عبد المحسن السعدون: "إن الحكومة العراقية واثقة من أحقية القضية العراقية، وأنها تعتمد كل الاعتماد على عدالة ونزاهة وعدم تحزب عصبة الأمم واللجنة المنصوبة من قبلها.. وأن الحكومة العراقية عارفة بمسؤولياتها في هذا الأمر في لزوم المحافظة على اللجنة ومن يرافقها" (167).

وكانت المعارضة الوطنية قد عبرت عن رأيها الصريح إزاء "الموصل" والتي وصفها النائب امجد العمري: "الموصل هي رأس العراق ولا عراق بدون الموصل، ولا أعني بالموصل نفسها بل وأقضيتها الستة مع السليمانية وكركوك وأربيل وملحقاتها فإنها يجب أن تبقى عراقية" (168). فيما كان موقف بعض النواب، قد وضح في رفضهم لمناقشة أية مسألة أو قضية، ما لم يتم الانتهاء من قضية الموصل. حيث قال النائب حسن الشبوط: "بما ان مشكلة الموصل مهمة فإني لا أوافق على كل شيء يصدر في أمر المعاهدة ما لم تنته مسألة الموصل" (169).

وانطلاقاً من وعي القوى الوطنية بأهمية جمع الكلمة وتنسيق الجهود المطالبة بضم الموصل إلى العراق في عمل تنظيمي واضح. اجتمعت إرادة الوطنيين في الموصل لتأسيس أحزاب سياسية، ركزت جهودها لشرح مسألة الموصل، وأخذت على عاتقها الاتصال بلجان التحقيق الدولي ورفع صوتها المطالب بالاستقلال والوحدة الوطنية. فكان أن تم الإعلان عن تأسيس حزب الاستقلال العراقي في 1 أيلول 1924، وجمعية الدفاع الوطني في 26 كانون ثاني 1925، والحزب الوطني في نيسان 1925 (170). على الرغم من آنية العمل الحزبي وارتباطه بالدفاع عن مسألة محددة. فإن النشاط الذي بذلته أحزاب الموصل، أسهم في تنبيه الأذهان، وجمع الجهود الوطنية لمواجهة أية دعوة انفصالية. وكانت البرامج الحزبية التي تم الإعلان عنها قد تجسدت في هذا الاتجاه. حيث أشارت جمعية الدفاع الوطني أن هدفها الرئيس: "المحافظة على ولاية الموصل بحدودها الطبيعية لكونها عراقية وجزءاً لا ينفك من العراق وأن كل من ينتمي إلى ولاية الموصل هو عضو طبيعي فيها" (171). فيما أشار حزب الاستقلال العراقي إلى أهمية معاضدة ومناصرة بريطانيا للعراق في سبيل دعم قضيته: "وأنه يعتمد على عطف العالم المتمدن ولاسيما الشعب البريطاني على قاعدة المصلحة المتبادلة والمساواة بين الشعبين العراقي والبريطاني" (172). أما الحزب الوطني فإنه أوضح في منهاجه الحزبي: "التمسك بالوحدة العراقية وطلب الاستقلال التام" (173).

وجهت الصحافة العراقية عنايتها نحو مسألة الموصل، حيث تم تناولها بموضوعية ودقة. فأشارت جريدة الاستقلال إلى: "أن الشعب يلح على حكومته الموقرة بخصوص إرسال وفد أو مندوب خبير من أبناء الوطن المخلصين ليحضر الجلسات والمذاكرات المتعلقة بالموصل التي هي من العراق بمثابة الرأس من الجسد ولا نظن بوجود منصف ينازعنا في ادعائنا هذا" (174). والجريدة بطرحها هذا، إنما توجه عناية الحكومة نحو التنبه والحذر إلى ما يحيط المذاكرات من مناورات سياسية قد تعمد لها تركيا للفوز بالقضية على حساب العراق. والواقع أن الوسط السياسي العراقي كان واعياً للمناورات التركية، وفي هذا كتبت جريدة الأمل: "حتى ولو حاول الترك إغراءها بامتيازات يمنحونها إياها في هذه الولاية لأن ما تناله بريطانيا من صداقة العراق أعظم وأكثر فائدة لها مما تصيبه من الترك المعروفين بتقلبهم وتلونهم وقلبهم على ظهرهم المجن لأصدقائهم عند كل فرصة" (175).
الهوامش:

158- فيصل بن الحسين في خطبه وأقواله، ص235.
159- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج2 ص32.
160- محاضر مجلس الأعيان، الاجتماع غير الاعتيادي لسنة 1925، ص7.
161- نفس المصدر، ص9.
162- نفس المصدر، ص8.
163- جريدة العراق، 30 مايس 1923.
164- جريدة العالم العربي، 18 كانون أول 1925.
165- مذكرات المجلس التأسيسي، ج1 ص 85.
166- مذكرات المجلس التأسيسي، ج1 ص 407.
167- مذكرات المجلس التأسيسي، ج1 ص 34.
168- مذكرات المجلس التأسيسي، ج1 ص 430.
169- عبد الرزاق عبد الدراجي، جعفر أبو التمن ودوره، 228.
170- جريدة العالم العربي، 27 كانون ثاني 1925.
171- جريدة العراق، 19 أيلول 1924.
172- جريدة العالم العربي، 29 أيار 1924.
173- جريدة الاستقلال، 10 كانون ثاني 1924.
174- جريدة الأمل، 18 تشرين أول 1923.
175- عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج1 ص68.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف