أدبُ البيوت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحسبُ أنّ من يقرأ عنوان مقالي هذا، ربما سيتبادر له أنني جانبتُ التعبير الصحيح، لغوياً، وكان من المفروض أن يكون العنوان " آداب البيوت "؛ بإعتبار أنّ للبيوت حرمتها، وأنّ من وصايا الرسول للمؤمنين أن يدخلوا البيوت من أبوابها.. الخ. ولكن مهلاً، عزيزي القاريء ! تابع متن المقال، ولكَ أن تحكمَ بعدئذٍ ما إذا كان الحال كذلك. في واقع الأمر، فإنني مضطر لإزعاجكَ مجدداً، بالتصريح أنّ المسألة تتعلق فعلاً بـ " الأدب ". أعرفُ، عزيزي، أنكَ لا بدّ وأن تنفخ بضيق صبر، متسائلاً : " وهل ستضيفَ جنابكَ لنا شكلاً آخرَ، جديداً، من الأدب، نحن الذين سئمنا من الأشكال الأكثر جدّة؛ كأدب التاريخ وأدب المدن وأدب قلة الأدب !؟ ". على أنه ثمة " أدب السجون " أيضاً؛ مما لا يجب أن ينساه المرءُ. إنه فضلاً عن ذلك، إسمُ برنامج تبثه إحدى الفضائيات الخليجية، المقرّبة من القيادة الدولية للمقاومة والجهاد المقدس. هذا البرنامج، سبق له أن عرض عدة حلقات عن معاناة الكتاب والصحفيين في المعتقلات، هنا وهناك من دول الشرق الأوسط. ولكن القائمين على القناة تلك، ربما تلقوا توبيخاً من القيادة العالمية، الموسومة، لأنّ سجون الدولة العبرية، العدوّة، بدتْ في تلك الحلقات أشبه بالفردوس الرباني بالنسبة لجحيم سجوننا العربية وذئابها، وآدابها !
فيما أكتبُ المقال هذا، يتزلزل سقفُ البيت فوق رأسي. نحن أهل المشرق، بطبيعتنا، نخشى " الفوق " كائناً من كان. شجعانٌ أشاوس نحن ولا شك؛ بيضٌ مواضينا حمرٌ وقائعنا.. الخ. هذا في البرّ فقط. أما حينما تحلق الطائرات، فوقنا، فالفرار سيّد المراجل جميعاً ! جيراني، وهمُ سويديون ـ أو أشباههم لا أدري حقيقة ـ مصرون والحالة تلك على مشاركتي الكتابة. بطبيعة الحال، فإنهم يجهلون اللغة العربية؛ لا بل ويبدو أنها مُسمّة ما أن تسري في أمعائهم.. أعني، في أسماعهم ! وإذ يجتمع لديّ أحياناً منَ الأصدقاء منْ يتكلم، معاً، بالعربية والكردية، فالأرجح أنّ جيراني أولئك، الفرنجة، لا بدّ أن يتبادر لوهمهم أنّ بيتي هوَ أحد معاقل القيادة الدولية للمقاومة والكذا وكذا. عدوانية جيراني المزعجين، غير مفهومة بحال؛ اللهمّ إلا من باب ذلك الموجب، المقاوم. أو أن الأمر، كما راح يتهيأ لذهني، المشوش، ذو مسوّغ جدير بالإقناع : فالنقد الحديث ـ بلا مؤاخذة ـ يؤكد أنّ الإبداع عملية مشتركة بين الكاتب والقاريء. وها أنا هنا، بفضل أولئك المزعجين، أسجلُ فتحاً جديداً في النقد؛ بالبرهنة على أنّ الكتابة هيَ عملية مثلثة، بين الكاتب والقاريء والجار غير القاريء ! من جهته، كان دستويفسكي يقول : " الكتابة تنقذ المرءَ من الجنون ". يا سيدي، ومن الجريمة أيضاً. صدقوني، لو أنّ أحداً قد ابتليَ، وعلى مدى أعوام وأعوام، بما ابتليتُ به من جيران مزعجين، لكان حرياً به الآن إقامة مؤبدة في السجن. سجون السويد، كما يُشاع لديكم، شبيهة بفنادق خمسة نجوم. ربما لهذا السبب، تعتقدون بأنني بطران على النعمة. لا، هذا لم يدُر بذهني قط. المسألة أخلاقية بحتة. يعني بصدق وإخلاص وضمير، يجب أن أكون ممتناً لأولئك الجيران، الذين شاركوني ليسَ بعملية الكتابة حسب، بل وخاصة في إكتشاف نظرية جديدة، نقدية، فضلاً عن تأسيس نوع آخر من الكتابة؛ ألا وهوَ " أدبُ البيوت ".
نوهتُ في المستهل بأدب السجون، وها أنا أربطه بما أسميته " أدب البيوت ". فلطالما قرأنا قصائد التركي ناظم حكمت، الذي يُعدّ أشهر الشعراء السجناء في قرننا الماضي. وشهرة هذا الشاعر، متأتية خصوصاً من سيرته في السجن، اليومية، وربما أكثرَ من قصائده نفسها. يبدو أنّ سلطات بلاده آنئذٍ، أرادت تعكير شاعريته المُستلهَمة من شيوعيّته العنيدة، بأن جعلته في عنبر واحد مع سجناء الحقّ العام من رعاع وسرسرية. لماذا لا تقول، أنّ الرجل إستطاب صحبة أولئك الأصناف ـ ممن يوصفون ماركسياً بـ " حثالة البروليتاريا " ! قصائد شاعرنا، المهرّبة من سجنه ذاكَ، أكبر دليل على زعمنا بتوفق تلك الصحبة، الموصوفة. وكذا الأمر، فيما يخصّ قلة حظ قصائده، اللاحقة، التي كتبها في خارج السجن؛ في موسكو، تحديداً، التي نفيَ إليها بعدما أطلقوا سراحه. لدينا أيضاً مثالٌ آخر، لشاعر سوريّ من قرننا الحالي، منفيّ في السويد حالياً، على إثر خروجه من سجنه الطويل، الممض. كان من سعدنا أنّ قصائده، السجينة، قد تمّ تهريبها إلى الخارج لتطبع هناك وتترجم إلى لغات اخرى. إذاً، ورغم قساوة المعتقل، في هذا المثال وذاكَ، بيدَ أنه أتاحَ للشعراء أن يتواصلوا بإلهامهم، وبغض الطرف عن أصالة ما كتبوه أو قيمته. بالمناسبة، فشاعرنا السوريّ ـ السويديّ، ذاكَ، كان قد تنقل في الواقع بين سجون عدة. في كل مرة، وهوَ في طريقه إلى سجن جديد، كان يداخله أملٌ بأنه سيكون أفضل حالاً من سابقه. على أنّ آماله كانت سرعان ما تتبدد، على عتبة الواقع المرير، المشين : فالسلطة الأمنية، هيَ هيَ؛ ولا جديد في الأمر. صدقوني، أيها القراء الأعزاء، بأنّ هذا شبيه بحالي هنا مع " السلطة السكنية " في مدينتي السويدية : في أول الشهر القادم، سأنتقل إلى منزل آخر. ولكن رحلة عذاباتي لا بدّ أنها ستتجدد، ومع جيران جدد.
من حقكم طبعاً، ما لو نفختم بي ضجراً، متسائلين : " أدب السجون وفهمنا حكايته، فماذا عما تزعمه بخصوص أدبكَ، البيتيّ ؟ ". حسنٌ، ها قد وصلنا لموضوعنا، أخيراً. إسمي ـ والكِبَرُ لله وحده ـ تعرفونه؛ إنه في جيرة عنوان المقال، على كل حال : وأنا في جيرة من ؟ لا داعي لتكرار مأساتي ! المهم، أنّ إسمي لم يوح مرة ً للقراء بأنّ صاحبه شاعر ماعر. إذا كان إسمي، المتواضع فعلاً، يوحي بالقلاقل والمشاكل ـ كما يتجلى، أحياناً، بالتعليقات المرفقة بمقالاتي ـ فهذا ليسَ ذنب صاحبه، صدقوني ! منذ فتوتي، كان لي حظ قرض الشعر، ولقد طبعتُ مجموعتين من قصائدي. لديّ علاوة على ذلك ثلاث مجموعات اخرى غير مطبوعة، ولا توجد إمكانية لنشرها أو حتى مراجعتها. نعم، في هذا المهجر، ومنذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، إندثرتْ حياتي شخصياً تحت أنقاض برجَيْ بابل، النيويوركييْن ! فديتكَ، كيف لكَ أن تحظى بما يقتضيه القصيدُ من شروطٍ، إنسانية قبل كل شيء، ما دام أهلُ البلد، الأرقى في المعمورة، ينهالون على رأسكَ بطرقاتهم ليلاً نهاراً ـ كشرطيّ بهراوة غليظة : في هذه الحالة، لا حرجَ عليكَ فيما إذا إنهلتَ، بدوركَ، على رؤوس القراء بقلمك المحمرة عينه، ثأراً ممن شردكَ في منفى الشمال، الصقيعيّ؛ المنفى غير المرحب بثقافتكَ وأصلك وفصلك، وإسمك المعروف ! أرجوكم، إفهموني. هذا ما عنيته بـ " أدب البيوت ". إنه أدبٌ مهجريّ، طارئ، كما سلفَ القولُ. وما يربطه بـ " أدب السجون "، أنّ هذا الأخير هوَ إبنٌ شرعيّ لحالة الطوارئ، المؤبدة، التي شردتنا ومرمطتنا.