كتَّاب إيلاف

أزهار الساكورا.. السعادة.. والتجربة اليابانية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي باليابان

نحتفل هذه الأيام في اليابان بمناسبة جميلة وسعيدة وهي عيد تفتح أزهار الساكورا. فترتدي جميع الحدائق والأشجار حلتها البيضاء، وتمتلئ بالزهور الخلابة، وتنتعش القلوب بالأمل والسعادة. وليأذن لي القارئ العزيز لأن أنتهز هذه المناسبة لأناقش موضوع السعادة.
السعادة، كلمة صعبة الشرح، ولكنها شعور إنساني جميل، وحالة توازن مفرحة بين الجسم والعقل والروح والنفس. ويحتاج الإنسان لتوفر حاجيات فيزيولوجية ونفسية لخلق حالة التوازن هذه. فالغداء والملبس والمسكن وتوفر الأمان هي حاجيات فيزيولوجية أساسية للبقاء. ويغذي ألإنسان تواصله الاجتماعي بالعلاقات العائلية والصداقات والمعارف، كما يحقق ذاته بالعمل فيرضي طموحاته من خلاله، ويثبت شخصيته فيبدع ويبرز في المجتمع. ومن الضروري أن يتلازم كل ذلك بتوفر الصحة الجسمية والعقلية والنفسية والروحية، لتنعكس هذه الميزات بالايجابية على شبكات التواصل في المخ وتؤدي لإفرازه مواد كيماوية تنتج منها نشوة السعادة.
ومن المعروف بأن السعادة ليست الثراء، فكثير من المجتمعات المتقدمة حققت الكثير من الثراء الاقتصادي، ولكن لا تعتقد بأنها وفرت السعادة لشعوبها. ويقيس رجال الاقتصاد درجة ثراء وإنتاجية الدولة بقيمة الناتج المحلي الإجمالي(GDP). كما يعكس مؤشر جيني (GI) مستوى عدالة توزيع الثروة، فإذا كانت 100% فيعني ذلك بأن جميع أموال البلد في حوزة شخص واحد، وإذا كان %0 فيعني ذلك بأن الثروة موزعة بالتساوي بين جميع أفراد الشعب. فكلما قلة النسبة زادت عدالة التوزيع. وتعتبر اليابان من أفضل الدول في التوزيع العادل للثروة وتقدر النسبة 24.9%، وأما الولايات المتحدة 40.8%. ويتحدث علماء النفس والاقتصاد عن الرخاء العام (GWB)، وهي توفر الصحة والرفاهية والسعادة معا. وقد بدأت المجتمعات المتقدمة بتوفير الثراء لشعوبها، وتبعتها بعدالة توزيع هذه الثروة، ومن ثم حاولت توفير الصحة والرفاهية والسعادة معا.
ويعتبر الوطن العربي من الدول الأخذة في التطور، ونحتاج لتذكر السعادة حينما نخطط للتطور المستقبلي، ولا فائدة من التنمية إن لم تترافق مع سعادة شعوبنا. ولتهيئة شباب المستقبل للسعادة، من الضروري أن نوجهه تربية أطفالنا وتعليمهم للوصول لهذا الهدف النبيل. وسنسلط الضوء على هذا الموضوع من خلال مقال لأستاذ فاضل وخبير في شؤون بلاده، ورسالة لقائد عربي مسلم يناقش الخطط التربوية والتعليمية المستقبلية لكي تبرز الابتسامة والفرحة على قلوب شباب المستقبل.
لقد نشرت جريدة أخبار الخليج يوم السبت الموافق الحادي من شهر أبريل من العام 2006 رسالة من جلالة ملك مملكة البحرين بعنوان "الملك يوجه نداء القلب والعقل للشباب، ابتسامة شبابنا غالية..... لأنها ابتسامة المستقبل." وفي اليوم التالي قرأت مقالا في جريدة اليابان تايمز اليومية بتاريخ الثاني من أبريل سنة 2006 "الثراء فشل في الإسعاد" للبروفسور الياباني تاكامتسو ساوا أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد بجامعة رتسوميكن باليابان. ولو حاولنا ربط المقالين معا لوجدنا بأنهما يطمحان لسعادة الإنسان، فجلالة الملك يطمح لتهيئة جيل مستقبل سعيد بابتسامته ونجاحاته، والبروفسور يبحث لليابانيين عن السعادة بعد تحقيقهم للثراء. ويعتقد العلماء بأن السعادة كلمة تجمع بين علم الاقتصاد وعلم النفس، وهي قمة النجاح الاقتصادي والسمو النفسي.
وليسمح لي القارئ العزيز لنتفحص معا التجربة اليابانية بعد ما حققته من نجاحات اقتصادية رائعة، وتنشد الوصول للسعادة، وطرق المحافظة عليها. ويعتقد اليابانيون بأن الثراء المادي لا يكفي، بل يحتاج الإنسان إلى الثراء النفسي، ليكملا معا سعادته. فقد كتب البروفسور يقول " تطور الدول يقاس حتى ألان بالإنتاج المحلي الإجمالي للفرد، ولكن ذلك لا يقيس مدى التطور الاجتماعي و سعادة الشعوب....وقد كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد باليابان منذ نهاية الأربعينيات حتى الستينيات خمس(20%) ما هو علية اليوم. فقد كان اليابانيون فقراء وواجهوا أوقات عصيبة ، ولكن معظمهم كانوا سعداء، مشغولون بالدراسة والعمل وتطوير حياتهم. وقد يكون من الصعب أن نصدق اليوم بأن حلم العائلة اليابانية وسعادتها، من نهاية الخمسينيات حتى بداية الستينيات، يقتصر على تلفزيون أبيض أسود وثلاجة وغسالة. وتطور ذلك الحلم في نهاية الستينيات إلى تلفزيون ملون وسيارة ومكيف هوائي." وينتقد البروفسور بعض الشباب الياباني فيقول " وهناك نسبة من الشباب بين الشباب الياباني اليوم الذين هم لا يعملون ولا يدرسون ولا يتدربون، والذين يتنقلون من وظيفة مؤقتة إلى أخرى، وهم في ازدياد حاد."
ويحاول البروفسور تاكامتسو ساوا أن يعرف السعادة في نظره فيقول، "وفي اليابان هناك علاقة ضئيلة بين الدخل الشهري، والاستهلاك، والسعادة. وحياة البذخ وحدها لا تعطي الإنسان الإحساس بالسعادة.....وبنظري السعادة تأتي من الإحساس بالمشاركة الاجتماعية والالتزام والتعاطف، وجميعها مرتبطة بالتفاعل مع الآخرين. وبكلمة أخرى السعادة تنبعث من الإحساس بالوجود ضمن المجتمع وهي نتيجة العمل الجاد للوصول لأهداف سامية. فالتزام الإنسان بهدف ومحاولة العمل على تحقيقه خطوة بخطوة، يحتاج للتركيز، ويعطي الإنسان سببا للحياة والشعور بالسعادة. وخلال سنوات النمو الاقتصادي، كان شعب اليابان سعيد بالعمل الشاق لتحقيق مجتمعه المنشود."
وكما يشرح البروفسور تعريفه للتعاسة، "التعاسة أسهل في التعريف من السعادة. وإذا كانت السعادة تنتج من المشاركة المجتمعية، فالتعاسة تنبعث من حالة الإقصاء الاجتماعي. وخير مثل لذلك هو البطالة المفروضة. والمجتمع المليء بالبطالة هو مجتمع مليء بالتعساء. فهناك إعداد كبيرة من الأفراد في بعض المجتمعات المتطورة لا تغطيها تأمين الخدمات الصحية وبمعنى آخر معرضين
للإقصاء من الخدمات الصحية، وهؤلأ أيضا تعساء. وهدفنا في القرن الواحد والعشرون خلق مجتمعا بعيدا عن إقصاء أي فرد في المجتمع."
وباختصار أكد البروفسور الياباني بأن السعادة هي نتيجة لالتزام الإنسان بهدف ومحاولة العمل على تحقيقه. والسؤال الهام عزيزي القارئ كيف يهيئ المجتمع الشباب ليتعلم الالتزام بهدف مجتمعي نبيل ويساعده على تحقيقه؟ ونجد الجواب على هذا السؤال في الرسالة التالية من جلالة ملك مملكة البحرين للشباب، "الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل...ومن الضرورة معالجة مختلف المشكلات والاحتياجات التي يحسون بها....وباستطلاع الإمكانات والأفاق المتاحة في عصرنا للأجيال الشابة، يمكنننا أن نساعدهم على اقتناصها وارتيادها بالتربية والتعليم والتدريب، في مشروع متكامل لنظام تربوي وتدريبي ليواكب العصر."
والسؤال عزيزي القارئ ما هو المشروع التربوي الذي يمكن أن ينشأ الشباب الملتزم بتنمية وطنه؟ ونجد الجواب في تكملة رسالة جلالته، "ويحتاج تربية النشء على ثوابت الهوية الحضارية لتراثه الإسلامي السمح، وعروبته المنفتحة على الجميع، وكيانه البحريني كنموذج إنساني نعتز به للتعايش والتسامح والتحاور ويرسخ الولاء الوطني للأجيال الشابة....وتزويد النشء بثقافة عامة للتطور الحضاري للإنسانية بما يزرع التفكير العلمي والعقلي السليم لدي الشباب ويعزز نضجه السياسي. ومن أوجب الأوليات "تحديث العقل" في هذه المرحلة وعدم الاقتصار على التحديث المادي...فإلمام النشء بتقنية المعلومات حتمي، ولكن لابد من موازنته بثقافة في الإنسانيات، ليمتلك توليفة الإبداع بين العلوم والآداب..والإعداد المهني المتقدم والمجزي، والذي لا يلتزم بالضرورة للدراسة الجامعية إلا للمستعدين لها، وذلك لتلبية الطلب في سوق العمل التي أصبحت مخرجات التربية في العالم المتقدم تضعه في مقدمة أهدافها....وطالما آمنا إن اسعد البلدان، وأكثرها حظا هي التي يشارك الشباب بإصرارهم على التجديد والتغير، فنحن حريصون كل الحرص أن يشعر شباب البحرين بفرح الحياة." ويتفق جلالته مع البروفسور الياباني بأن سعادة البلاد ومستقبلها هي مسئولية الشباب الذي يطمح في التجديد والتغير ليحقق أهدافا يستطيع من خلالها أن ينمي بلده ويسعد شعبة بالهناء والرخاء.
نلاحظ بأن اليابان قد حققت الكثير من الثراء، ولكن تعمل جاهدة للوصول للكمال بشعبها بتوفير رخاءه وسعادته. وفي وطننا العربي نحاول أن نهيئ شبابنا لتحديات العمل الهادف المنتج، والوقاية من البطالة الحقيقة والمقنعة التي هي الإقصاء الحقيقي للمواطن وسبب تعاسته وشقاءه. فلنكتشف الفرص المتوفرة لشبابنا، ونساعدهم لكي يحققوا أهدافهم من خلال خطة تربوية متكاملة تتعامل مع تحديات عصر العولمة. وقد أكد جلالته بضرورة الاهتمام بالعلوم الإنسانية، والتراث الإسلامي السمح، والعروبة المتفتحة والتي تتعامل مع الأمم الأخرى بمبادئ حقوق الإنسان.
وما أكثر حاجتنا اليوم لتحديث العقل وتجديد دوره، مترافقا بتطوير أسلوب التفكير وأبرار الذكاء الذهني والاجتماعي والروحي والعاطفي. ويكرر اليوم علماء الغرب مقولة، خطوة تطور في التكنولوجيا ترافقت معها خطوة للوراء في الإنسانيات، وقد خلق المشروع التربوي المقترح التوازن اللازم بين العلوم التكنولوجية والعلوم الإنسانية. كما تطرق جلالته لأهمية الدراسة الفنية التكنولوجية. فمن المعروف في مجتمعاتنا عقدة الشهادات الجامعية، فبعض الكليات تخرج أجيال وبدون الخبرات التي يحتاجها المجتمع، والإعداد المهني، الذي عادة لا يحتاج إلى دراسة الجامعة، هو الطريقة الناجحة لتوفير العمالة اللازمة لمشاريعنا المستقبلية في الصناعة والتجارة.
ومن الجدير بالذكر بأن الطلبة في اليابان، بعد أن يكملوا تسع سنوات من الدراسة الإجبارية، يلتحق 98% منهم بالمدارس الفنية الصناعية أو الثانوية العامة. ويتوجه 40% منهم بعد ذلك ليكملوا الدراسة الجامعية لتخصص في مجالات الطب والهندسة، والحقوق، والتعليم، أما الباقي (60%) فيكملون دراستهم بالتدريب في الكليات التكنولوجية لتهيئتهم لدخول سوق العمل بالشركات والمصانع المختلفة. ويوجد في اليابان أكثر من ستة ملايين شركة ومصنع، أكثرها (90%) تعتبر صغيرة أو متوسطة، وهي التي توفر قطع الغيار اللازمة للمصانع اليابانية العملاقة. وتبحث المصانع اليابانية عن شباب ذو مهارات فردية لا شهادات جامعية. والسؤال عزيزي القارئ متى سنبدأ العمل بتوجيه تعليمنا في الوطن العربي لتهيئة جيل مستقبلي سعيد بتفاعله مع العصر، يطور إنتاجية المجتمع ويحافظ على قيمه ورخائه، ومستعد لتحديات العولمة القادمة؟ والى لقاء سعيد.

سفير مملكة البحرين باليابان
Khalil.rasromani@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف