كتَّاب إيلاف

مائة عام من الصراع على هوية ومدنية الدولة المصرية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

فى بداية القرن العشرين دارت على أرض مصر معركة فكرية حول هوية مصر بين دعاة الجامعة الإسلامية وبين دعاة القومية المصرية. كان مصطفى كامل (1874-1908 ) على رأس دعاة الجامعة الإسلامية ،مؤتمرا بأوامر السلطان العثمانى عبد الحميد الثانى 001842-1918 ) الذى كانت تربط مصطفى كامل به علاقة تبعية منحه بناء عليها رتبة الباشوية وهو شاب صغير مكأفاة له على الولاء للمحتل العثمانى.كان السلطان عبد الحميد يريد إعادة بعث سيطرة الخلافة العثمانية على مستعمراتها من خلال ضخ فكرة الجامعة الإسلامية كرابطة تربط بين الدول ذات الاغلبيات الإسلامية والتى كانت ولايات عثمانية أو بالتعبير الصحيح مستعمرات عثمانية.
كان مصطفى كامل يدعو إلى جلاء الانجليز عن مصر وفى نفس الوقت يعمل من آجل إحكام قبضة العثمانيين عليها، وهو يسير فى ذلك على هدى فكرة كانت محور التاريخ الإسلامى فى معظمه وتلخيصها، لا مقاومة لاى غزو أو إستعمار يأتى من دولة إسلامية، وهكذا كانت مصر مرتعا لكل الغزاة من عمرو بن العاص إلى المماليك والعثمانيين ولم يحدث مقاومة إلا للحملة الفرنسية والإحتلال البريطانى رغم انهما كانا أهون إحتلال خلال التاريخ المصرى الطويل.
ولا عجب أن دعوة الجامعة الإسلامية كانت دعوة طائفية مقيتة تحتقر هوية مصر وقوميتها وتفردها وتنوعها الإنسانى وثرائها التاريخى. كان مصطفى كامل من خصوم حقوق المرأة والحريات بصفة عامة ويدعو لنشر التعليم الإسلامى فى المدارس ويخلط بشكل متعمد الوطنية بالدين الإسلامى وحول هذا يقول " لقد قال أعداؤنا إننا نخلط الإسلام بالوطنية، ونتكلم دائما عن المسلمين، ونطالب إدخال الدين فى التعليم، وفسروا ذلك بأنه تعصب ذميم...ولكن لماذا يكون الانجليزى وطنيا وبروتستانتيا فى آن واحد ولا يكون المصرى المسلم وطنيا ومسلما؟" ( خطاب فى 2 يونيه 1900 ).
كانت الجامعة الإسلامية تنطلق من التأييد السياسى للسلطة العثمانية واجتهد هذا التيار كى يجعل من علاقة الدين والمعتقد بديلا للعلاقات القومية ، ولقد عبرت مجلة العروة الوثقى عن هذه الخاصية التى كانت من ابرز خصائص هذا التيار فكتبت أنه " لا جنسية للمسلمين إلا فى دينهم" ، و" أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا فى دينهم واعتقادهم" ، وأن المسلمين تاريخيا " لا يعتدون برابطة الشعوب وعصبيات الأجناس ، وانما ينظرون إلى جامعة الدين، ولهذا لا ترى المغربى ينفر من سلطة التركى، والفرسى يقبل سيادة العربى، والهندى يذعن لرياسة الأفغانى، وأن المسلم فى تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها ما دام صاحب الحكم حافظا لشأن الشريعة ذاهبا مذاهبها ( انظر محمد عمارة: الجامعة الإسلامية والفكرة القومية: نموذج مصطفى كامل، دار الشروق 1994).
ولهذا لاعجب أن يدافع شخص مثل محمد عمارة عن الجامعة الإسلامية فى مقابل الهوية المصرية ويعتبرها كانت طوق النجاة لمصر منحها القوة فى نضالها ضد الإستعمار بديلا عن الإنكفاء على الذات القومية!!!ّ
فانصار " الجامعة الإسلامية" والتى تعتبر مرادفا للمصطلحات المعاصرة مثل " الاممية الإسلامية"، و" الإسلامية الدولية" لا يعتزون بوطن ولا بجنسية ولا بقومية ولا بإنتماء سوى فقط الإنتماء للإسلام وبالرابطة الإسلامية، وهم جاهزون لتأييد أى غزو لبلادهم طالما أن هذا الغزو يأتى من قبل دولة إسلامية ويرفع شعارات إسلامية، وكما كان أنصار الجامعة الإسلامية دائموا التردد على اسطنبول فإن أنصار الإسلامية الدولية دائموا التردد على الرياض وطهران.
ولكل هذا نفر المصريون الوطنيون الاحرار من دعوة مصطفى كامل الطائفية الدينية وتشكل فى المقابل تيار آخر عرف فيما بعد ب " الجماعة الوطنية". عمل هذا التيار على اتجاهين، الاول جلاء الانجليز عن مصر والثانى تأكيد هوية مصر وقوميتها المصرية وتفردها الحضارى مع تدعيم الوحدة الوطنية والمساواة الحقيقية بين المصريين مسلمين واقباط على أرضية المواطنة .
كان على راس الجماعة الوطنية مفكرون بحجم احمد لطفى السيد وطه حسين وسلامة موسى وعلى عبد الرازق ومحمود عزمى وغيرهم الكثير، ونشطاء احرار وعلى راسهم سعد زغلول ومصطفى النحاس وويصا واصف وسينوت حنا وتوفيق دوس وغيرهم.
كان تيار الجماعة الوطنية يرى تقدم مصر فى إستقلالها عن الانجليز والعثمانيين معا وتأكيد هويتها وربطها بمنابع التقدم فى القارة الاوروبية بديلا عن الرابطة الإسلامية الإستعمارية المتخلفة التى كان يدعمها مصطفى كامل ويدافع عنها. وقد عبر أستاذنا طه حسين عن ذلك بوضوح فى كتابه القيم " مستقبل الثقافة فى مصر"، وهو ما كررناه أكثر من مرة من أن تقدم مصر لا يمر عبر الرياض وطهران والخرطوم وكراتشى وكابول وانما عبر نيويورك ولندن وباريس وطوكيو وهونج كونج...الخ.
أنتصر تيار "الجماعة الوطنية" على تيار "الجامعة الإسلامية" إزاء فترة التحديث الليبرالى قبل يوليو 1952 ، ولكن بعد مائة عام رجعنا إلى الوراء خطوات كثيرة ونشبت معركة فكرية أخرى ليس فقط على هوية مصر التى تراجعت كثيرا بفعل الإسلمة وانما المعركة الجديدة على " طبيعة الدولة" مدنية أم دينية، وقد انطلقت المعركة الاخيرة هذه بمناسبة التعديلات الدستورية التى اقرت فى مارس 2007.
بعد حوالى اربعة عقود على دستور 71 الذى دشن ظهور الدولة الدينية الإسلامية ، وبعد اكثر من ربع قرن على تأكيد دينية الدولة عبر تعديل المادة الثانية عام 1980 جاءت معركة المادة الثانية بين انصار الدولة المدنية وانصار الدولة الدينية. ومن الملاحظات الجديرة بالتسجيل فى هذه المعركة ، التى قاها أيضا مسلمون ومسيحيون مثل معركة الجماعة الوطنية تماما، أن الثقل الرئيسى للمعركة فى جانبه القبطى جاء من أقباط المهجر فى الوقت الذى ايد الكثير من رموز الأقباط فى الداخل بقاء المادة الثانية فى تحدى واضح لمشاعر التيار الرئيسى للاقباط. وجاء تأييد الرموز القبطية فى الداخل لبقاء المادة الثانية مدعما بحجج واهية مثل المواءمة السياسية ، والواقعية السياسة ، وأن المادة الثانية غير مطروحة للتعديل ومن ثم المعركة خاسرة ،ولتجنب الحساسيات بين المسلمين والأقباط وكأن هذه المعركة تخص الأقباط وحدهم أو معركة مسلمين واقباط فى حين الواقع يقول إنها معركة جميع المصريين ومعركة الدولة المدنية والمجتمع المدنى، ولهذاعبر الكثيرون من اصدقائى المثقفين المسلمين عن إستيائهم واستنكارهم لهذا الدور من بعض الرموز القبطية التى أيدت بقاء المادة الثانية كما هى واعتبروا أن ذلك يعتبر تعديا عليهم وعلى مدنية الدولة التى هى حق لجميع المصريين ،وكما قال لى مثقف بارز بأن مصر ليست ملكا للأقباط ولا يحق لأى رموز قبطية أن تتحدث بالنيابة عنا نحن دعاة الدولة المدنية، فالخطر من الدولة الدينية أكثر فداحة علينا من هؤلاء الأقباط الذين يتبعون السلطة ويسيرون فى ركابها ويسعون لإرضائها لمصالح شخصية ليس للمسلمين ولا للأقباط شأن بها.
يحق لنا أن نفتخر بأن المبادرة والمبادئة بفتح معركة المادة الثانية على نطاق واسع جاءت من الأقباط تماما كما كانت مبادرة الأقباط وزيارتهم لسعد زغلول من آجل تشكيل الجماعة الوطنية، فقبل زيارتنا، انا وعادل جندى وحلمى جرجس وكمال إبراهيم كان هناك ما يشبه الصمت حول موضوع المادة الثانية وتشرفنا بالتنسيق مع مركز القاهرة لإصدار بيان وقعه حوالى مائتى مثقف مصرى من قمم المثقفين وحفزنا بن خلدون على عقد سيمنار ليوم كامل لمناقشة هذه المادة وحاضرنا فى العديد من المنتديات الثقافية وادلينا بالعديد من الاحاديث...وكانت النتائج مرضية، تم كسر التابو حول مناقشة هذا الموضوع وفتح النقاش على أوسع حدود، صحيح ان المادة الثانية بقيت كما هى ولكن الصحيح ايضا ان المعركة مستمرة ونحن مازلنا فى بدايتها، بل أثبتت التعديلات حالة " الشيزوفرنيا الدستورية" التى تتحدث عن الشئ ونقيضه فى مادتين متتاليتين.
ايضا دور المجتمع المدنى المصرى كان واضحا فى دعم مدنية الدولة مثل مركز القاهرة ومصريون ضد التمييز ومركز بن خلدون وجمعية التنوير والجمعيات الإشتراكية ومنتديات العلمانيين، كما كتب العديد من الكتاب دعما لمدنية الدولة على سبيل المثال وليس الحصر حازم الببلاوى واحمد عبد المعطى حجازى ومحمد السيد سعيد وهالة مصطفى وعبد المنعم سعيد وفريدة النقاش وصلاح عيسى وسعد هجرس وعادل جندى ورفعت فكرى.....حتى استاذنا طه حسين إنتفض ليشارك فى هذه المعركة الهامة، فقد اعادت جريدة القاهرة نشر مقالا قيما له ينتقد دستور 1923 لانه نص على دين الدولة الإسلام واعتبر هذه المادة كانت سببا فى إضطهاد المبدعين واصحاب الرأى ضاربا مثلا بكتاب على عبد الرازق "الإسلام واصول الحكم" ولإضطهاد العلم والعلماء ضاربا مثلا بالموقف من كتابه " فى الشعر الجاهلى".
معركة مدنية الدولة مستمرة، ولان هذه المعركة عادت بنا إلى الذاكرة الوطنية ومعركة هوية مصر التى إندلعت منذ أكثر من قرن من الزمن ، ولاهمية هذه المعركة الفاصلة والمستمرة فقد خصصت جزءا كبيرا من وقتى لرصدها ولتوضيح اثار المادة الثانية على كافة مناحى الحياة فى مصر من المشرع إلى القاضى إلى النظام العام وتاثيرها السلبى على السلوك الجمعى للمصريين وعلى الدولة المدنية وسوف تصدر فى يونيو القادم فى كتاب حتى تتذكر الأجيال القادة هذه المعركة الهامة.
عزيزى القارئ، اعود واذكر بأن العمل السياسى عمل تراكمى ، وأن هذه المعركة كانت ضرورية من آجل إعلان موقف واضح للتاريخ ولزحزحة هذا الصدأ الذى اصاب الكثيرين بالياس من إمكانية التغيير.... ولا يوجد شئ أسمه معركة خاسرة وأنما جولة وسينتصر فى النهاية أصحاب الإرادات الصلبة الحرة الوطنية
والعبرة لمن يضحك اخيرا
magdi.khalil@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف