كتَّاب إيلاف

يهود العراق ذكريات وشجون (11)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الوالد إبراهيم مير معلم، العراق يفترس أبناءه

وبعد رحيلنا إلى إسرائيل بقي الوالد مخلصا لوطنيته العراقية، كان في الأربعينيات من القرن الماضي بعد الفرهود إذا جاءه فلاح أو أحد أقرباء أبو علوان ليطلب منه سـُلفة، يقول له "سأقرضك المال ولكن لا لشراء زوجة جديدة تعيد لك شبابك، بل سأشتري لكأنا بنفسي أدوات المهنة التي تريد احترافها، من نجارة وحدادة وحلاقة وميكانيك وغير ذلك، سأقرضك بدون فايز (ربا)، أعد السلفة متى ما تستطيع تسديدها ولو بالتقسيط". وكان الوالد يفخر بأن بعض من أسلفهم أصبحوا أسطوات من ذوي المهن الناجحين لا من متعددي الزوجات. سألته ذات مرة، لماذا تقوم بمساعدتهم؟ فأجابني "هؤلاء الفلاحون العراقيون هم من ذوي الكرامة ولهم عزّية نفس، ألا تتذكر كيف عاد أبو علوان من زراعة حديقة بيت خال أمك ولم يطالب بحقه وقال لك بأنه "مسح ايده بالحايط" ورِجَعْ بلا ما يداعيهم، فإذا احترمتهم وساعدتهم فسيخلصون لك مدى العمر ويدافعون عنك حتى آخر قطرة من دمهم، أما إذا احتقرتهم وخنتهم فيصبحون كالأسود الكاسرة ويمزقون خصمهم إربا، إربا بدون رحمة، ألا تذكر كيف دافع عنا وأخلص لنا أبو علوان أيام الفرهود وقبلها وبعدها". كان والدي يحب حقا هؤلاء الفلاحين أباة النفوس ويقول إن الحكومة تهملهم وملاك الأراضي يستغلونهم، يجب أن نعلمهم ونعودهم على العمل الشريف". كنت أقول لنفسي، لعله يريد بهذه الطريقة ردّ الجميل الذي صنعه معنا أبو علوان وأتعجب كيف يشتري بماله أدوات المهن التي يختارها الفلاح المبطل دون أن يوقع على اتفاقية معه. قال لي لا تخف فهم أمناء ويعتقدون بالثواب والعقاب، أسلفت أحدهم ولما استحق موعد وفاء دينه، أخذ يضحك مني ويقول "إي يهودي تريد حقك، أنصحك روح اقبض من دبش، والشفته كلله"، أجابه والدي "سويتلك معروف وتمزق عليّ، زين اسلمك بيد الله وانشوف"، جاءني بعد شهرين وهو يعتذر "خاطر الله إبراهيم، اعذرني، والله بعد ما أسويها، من اليوم ألما رجعت الدين لسه الشيطان لاحقني أبتوثية، صدمت ابني سيارة، الحرمة تكرم طرحت، وراسي دايخ من هذاك اليوم لليوم، اندعي لله ايخلصني من هل بلاوي". أخذ الوالد الدين وقال له "متعرف الله واقف على الحق، بعد لا تسويها، دروح خلف الله عليك". وبالرغم من هذه الحادثة وأمثالها كان الوالد يأخذنا أيام الربيع الجميلة لنزور علوان الذي تزوج واشترى له والدي هدية وهي عدة صالون حلاقة أخذ يديره في كوخه بالرخيته، كان الوالد يخبرنا بأن نتهيأ لزيارة العائلات التي زودها بمعدات صنائعهم ويقول، "من الآن والى أن نعود في المساء إلى البيت سيصبح اسم ريمون، وهو اسم يهودي "يصيح" (واضح وصريح) باسم "عبد الرحمن" وننادي أخوكم "مراد" الذي تشم منه رائحة اليهودية باسم "وليد"، أما سامي، فيبقى على اسمه الإسلامي. لم أكن اصدق أن هذه التمثيلية ستنطلي على هؤلاء الفلاحين الذين يعرفون اليهود من لباسهم النظيف وبنطلونهم القصير ومن أحذيتهم، وليس من لهجتهم فقط. ثم كان يزودني ببعض العانات (قطعة نقدية من ذات الأربع فلوس) ويقول لي سأطلب منك في بعض الأحيان تسليفي بعض القطع منها أمام البلامجية وغيرهم ممن أتوسم في وجوههم الغدر والشر والعونطة. وعندما نصل إلى حافة ترعة أو رافد ونحتاج إلى التعدية بالقارب وبعد أن نجلس في "البلم" يسأل الوالد البلامجي، "أبني اشكد حقك؟" ويمد يده إلى جيبه ثم يقول بصوت مرتفع، "ولك سامي ترى نسيت الجزدان (محفظة النقود) بالبيت، عندك كيم قرش؟" فيقول البلامجي "عمي ما يخالف، انت ضيفنا وعلى احسابي"، فيقول الوالد "لا يابا، الحمد لله الولد شايل كم قرش، ميصير، هذا شغلك ولازم تاخذ حقك". كنت أعجب دائما من أين للوالد هذه الحكمة في الدفاع عن نفسه بهذه الصورة من الحرامية وقطاع الطرق في هذه الأماكن البعيدة التي لا يتجاسر على الدخول إليها سوى من له خفارة وسلاح. ثم نعود من زيارتنا بعد أن يتفقد عمل هؤلاء الذين أسلفهم ومدي نجاحهم في عملهم الجديد، محملين بالتعروزي والخيار والطماطة وفراخ الدجاج تعوضا للقرض. ولم يكن والدي الوحيد الذي يحسن هذه التمثيلية للحفاظ على ماله وسالمته، فقد أخبرني أنور كوهين زوج جاكلين بنت خالي حاييم انه عندما كان يسافر إلى إيران كان يأخذ في جيبه "سجدة" من حجر كربلاء تستخدم للصلاة، فإذا شك فيه شيعي بأنه "يهودي نجس"، يخرج حجر "السجدة" من جيبه ويفركها ويقول: "سبحان الله ،فيها رائحة التفاح" ويقبلها ويرفعها إلى جبينه ويعيدها إلى جيبه. فقد تعلم التقية من الشيعة إلى حد أنه كان يشاركهم الصلاة إذا دعي إليها، تقية وحفظا لحياته.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف