شيء عن قناة الحناجر الغليظة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أُشيع عن موشي دايان، أنه قال في بداية الاحتلال، قبل أربعين عاماً، بأنّ اليهود الإسرائيليين، سيبدأون بالخوف على مصائرهم، حقيقةً، فقط حين ينتظم العرب في الوقوف على محطات الباصات ! كنا أيامها، وبعدها، نعمل داخل إسرائيل، وكنا نرى اليهود، في كامل النظام وهم ينتظرون الباصات، بينما نحن العمال العرب، نتدافع وأحياناً نتعارك بالمناكب، حين يقف لنا الباص العربي، حتى لو كان هذا فارغاً، وحتى لو كنا نحن قلّة. فالنظام شيء لم نتعلّمه لا صغاراً ولا كباراً. فكيف لنا بتعلّمه الآن !
ما ذكّرني بمقولة دايان، في هذه الحقبة من زماننا العربي، شيء آخر لا يمتّ للمقولة بصلة ظاهرية، ولكنه، أكيداً، يمتّ لها ويمتّ في الباطن. فالحنجرة الغليظة، التي هي من معالم مواطننا العربي، والفلسطيني بالأخصّ، تنتمي لا شكّ إلى ذات الفوضى العربية وعدم الرغبة في النظام. كلاهما يصدر عن منبع واحد. وكلاهما يشير إلى العقلية الواحدة.
فإن سأل سائل : ما مناسبة هذا الكلام القديم المكرور، فأقول له : رويدك واصبرْ عليّ ! فلسوف أحدّثك عن قناة فضائية تعشقها وتتابعها. قناة لها ما قبلها وما بعدها. فهي حد فاصل بين زمنين وعصرين.
إنها قناة الجزيرة، كما لا شك خمّنتَ يا سيدي. القناة الأولى في العالم العربي، التي فسحت مكاناً في زمانها الثمين للغوغاء والعوام. فأشاعت، تالياً وبالنتيجة، ثقافتهم ونظرتهم إلى الحياة والأحداث. لتعمّمها بعد ذلك على الجميع، من الماء إلى الماء، إلا من رحم ربي ومن استنجد بالعقل وبأعطيات العقل.
قناة بدأت جيدة بل ممتازة، لزوم لفت النظر وشدّ الانتباه، فلما تحقق لها هذا الهدف غير النبيل، أبانت عن وجهها الحقيقي ووجوه من خلفها، فوقفت مع الطغاة. ووقفت مع المتأسلمين. وقناة جعلت من بن لادن والظواهري نجوماً ولا نجوم هوليوود.
لقد سطّحت الوعي العربي فوق ما هو مُسطّح. وسخّفته فوق ما هو مُسخّف. في حين كان يجب، لو تسامت النوايا وتمّ الإصغاء للغة العصر، أن تفعل العكس : أن ترتقي بالعوام، وأن تقول ما يجب أن يقال، حتى لو أغضبهم ذلك، ونفّرهم منها. فتلك هي وظيفة أي وسيلة إعلام متحضّرة : قول الحقيقة، مهما تكن هذه قاسية ومرعبة. وإلا فالخيار الثاني الذي لا خيار غيره : هدهدة مشاعر الغوغاء، ودفن الرؤوس في الرمال. وهو ما تفعله هذه القناة الصحراوية بامتياز غير نظيف ولا شريف.
كنا قبل ميلادها، لا نعرف غير التلفزيون العربي الرسمي. وغير روايته الواحدة الوحيدة للأحداث. الرواية الكاذبة العارية عن الحقيقة جملة وتفصيلاً. فلما جاءت هذه، قلنا : حسناً. ها هم بنو يعرب يلحقون بالعالم المتحضّر، ويصير لهم إعلامٌ عليه العين. بيد أنّ الجزيرة، سرعان ما خذلتنا، وسرعان ما خلطت الحابل بالنابل، لتكون فوضى ويكون بؤسٌ ولا تكون حياة ! فهي استعانت بطاقم البي بي سي، وبسواه من الإعلاميين المهنيين [ كما يقال ] ليس من أجل تطوير الإعلام العربي، والذهاب به نحو قضايا وبلايا عصره، وإنما لكي تخلط الأوراق، وتدغدغ المشاعر، فتستنهض في العرب، أردأ ما لديهم وهو زعيق الحنجرة الغليظة.
ولمّا كانت الحياة تشبه المسرح، وليس العكس. فقد أخذ الناس يتشبّهون ببرامج الحوار في الجزيرة. هي أشاعت الصوت الحيّاني، وهم لم يكذبوا خبراً : صار الواحد فيهم لكي يكسب قضية صغيرة مع جيرانه، يدبّ عليهم بالصوت الحيّاني. فالأعلى صوتاً هو الذي يكسب. شاع هذا النمط من الحوار الجزيري بين الناس، عوامهم ومثقفيهم. ولمَ لا ؟ ألم نكن، زمان، نقلّد الممثلين والمغنين في السينما والمسلسلات ؟ فلماذا لا نقلّد الآن فيصل القاسم أو أحمد منصور أو الرجل ذا الشعر الأبيض ؟
إنّ قناة الجزيرة بهذا الصنيع غير البديع، ساهمت في تكريس التخلّف العربي. ساهمت فيه كما لم تحلم حتى إسرائيل. فلا شيء أجدى لإسرائيل مما يُشيع ويقدّس ثقافة العسكرة والضرب في الفاضي، والصراخ بأعلى الصوت. ولا شيء أجدى لإسرائيل ممن يقلب الحقائق، فإن لم يقلبها، ضبّبها وزيّفها، فلا يتسنّى حينئذ للمواطن العادي، أن يمسك بخيوطها المتناثرة.
لقد ساهمت الجزيرة، أكثر من غيرها، بما لها من تأثير شعبوي كاسح، في عسكرة الانتفاضة الثانية التي بدأت في العام ألفين. كما ساهمت، أكثر من غيرها، في إشاعة حب الموت لدى الفلسطينيين. وفي الاستهانة بالحياة مطلق الحياة. فصرت ترى الطفل من فلذات أكبادنا، يذهب إلى حدود المستوطنات، ويقف على مبعدة، رافعاً الحجر العبثي، أو قطعة من الحديد الصاج، أمام حارس المستوطنة المدجج بالسلاح. فيقول له هذا ساخراً : هل تريد " خبر عاجل " أم خبراً عادياً ؟ فإن ردّ عليه الطفل " خبر عاجل " سلّط عليه المنظار، وقتله في رأسه. وإن قال أريد خبراً غير عاجل، أطلق عليه الرصاص في رجليه أو يديه !
هذه القصة حدثت غير مرة وفي غير مكان على امتداد الجغرافيا الفلسطينية. وحين سمعت بها من أولادي المسالمين، لم أصدّق. وذهبت إلى " هناك " حيث مكان صناعة الحدث، ورأيت بأم عينيّ، ويا ليتني ما رأيت !
الأطفال يقلدون قناة الجزيرة، والجزيرة ماضية في غيها. أما الإسرائيليون فرابحون على الجهتيْن.
طبعاً ثمة فضائيات أخرى سلكت نفس الطريق. لكن الجزيرة بتأثيرها الكاسح، وبدخولها لكل بيت تقريباً، وبتفضيل الناس لمشاهدتها، أثّرت فيهم أكثر مما فعل سواها. أثّرت وبالذات في الأطفال والفتيان والمراهقين [ هذه الشرائح العمرية الأكثر فعالية ومشاركة وخسارة في الانتفاضة ]. وإني لعلى يقين، بأنّ الكثيرين منهم، ما كان لهم أن يموتوا أو يعوّقوا لولا أفضال الجزيرة والشيخ القرضاوي عليهم ! فهؤلاء حرّضوهم وضمنوا لهم الجنة، فقط إن استشهدوا أو ماتوا أو عوّقوا. لذلك كانوا يذهبون لموتهم العبثي المجاني، وكأنّ غايتهم هي الموت أو الإعاقة، وليس شيئاً آخر. فالموت لذاته : الشهادة لذاتها : الإعاقة لذاتها، كانت هي الهدف وهي الغاية وهي الوسيلة جميعاً في آن واحد.
لقد شكت لي عدة أمهات عاقلات من تأثير الجزيرة الكاسح على أبنائهن. فهي من تعطيهم المجد في الدنيا، والجنة في الآخرة. طبعاً بالتوازي والتكامل مع مهمة الجوامع والمساجد والأشياخ. أشياخ الإسلام السياسي بالذات والتخصيص. أشياخ الإخوان المسلمين.
هذا ما فعلته قناة الجزيرة بنا في الأراضي المحتلة. سواء قصدت أم لم تقصد. فالنتيجة واحدة : الإعلاء من شأن الثقافة الحربجية، وتسخيف شأن الثقافة والمقاومة السلمية. وليس لإسرائيل من صنيع أفضل من هذا : ففي ظل موازين قوى مختلّة تماماً، ما أجمل أن يندفع الخصم العاري إلى المواجهة العسكرية، حتى بلحم الصدر والكتفيْن ! حينها ستكون النتيجة محسومة. وحينها ستتراكم هذه النتائج الكارثية، يوماً بعد يوم، وصولاً وانتهاءً بانهيار الخصم، مهما كابر ومهما رفع من درجة صوته.
وهو الأمر الذي وصلنا إليه الآن، بالتمام والكمال. شعب في حالة انهيار كامل، وعلى الأصعدة كافة. شعب منهك مبتوت الحيل مفرّغ من طاقاته ومن خزينه الاستراتيجي، ويوشك على الموت، لولا أوروبا الموحدة، التي ما إن يوشك هو على الموت، حتى تلحقه هي بتنقيط بضع قطرات من الماء في حلقه !
وشعب من كثرة ما نفخت فيه الجزيرة، صار يقدّس السلاح وثقافة السلاح، حتى ولو استخدمه ضدّ شقيقه.
كما شعب، من كثرة ما نفخت فيه الجزيرة وسواها، صار يجوع ويشتري قطعة السلاح. ويجوع ويشتري الرصاصة الباهظة الثمن، ويجوع ويجوع، حتى وصل الحال ببعض أبنائه أن عملوا مع أمراء الحروب ورجالات المافيا، في خطف مواطنيهم الفلسطينيين، ومواطني الدول الأخرى، مقابل فدية مالية، وآخرهم الصحافي البريطاني، صديقنا في الملمات، ألن جونستون. ما يسيء لقضيتنا وما يبعد الأصدقاء عنا، وما يجعل العالم يفكّر الآن، في احتساب قطاع غزة، المنطقة الخامسة الأخطر في العالم.
فمن هو المستفيد من كل هذه المآسي سوى إسرائيل وسوى قناة الجزيرة وغيرهم ؟ إنّ امتثالية شعبنا في عمومه، لما تقول هذه القناة ولما تخفي بين السطور، هو سبب مركزي، من جملة أسباب لما نحن فيه من انكشاف ومن هوان. ورغم ذلك، رغم ذلك، ما زالت هذه القناة، حين يتعلّق الأمر بالشأنين الفلسطيني والعراقي تحديداً، تستضيف المتأسلمين والقومجيين الفاشيين، ليصدّعوا رؤوسنا بمعزوفاتهم البايخة، تلك التي عفا عليها الزمان والمكان.
نعرف أنّ بعض الدول الصغيرة والهامشية تبحث لها عن دور في التاريخ ! لكننا نربأ بها وبهم، أن يكون هذا الدور المريب على حساب شعوب المنطقة ومصالح المنطقة.
لقد حاربت الجزيرةُ صوتَ العقل والعقلانية في محيطها العربي. وها نحن نحصد النتائج. فإن قال لي قائلٌ : ولمَ تُحمّل الجزيرة فوق ما تطيق، أقول له : عليك الانتباه يا سيدي. ففضائية مثلها لها من التأثير، إضافة إلى تأثير المساجد في بلادنا، ما لا تحلم به جامعة أو مدرسة أو نظام تعليمي بكامله. وما لا يحلم به مئات بل آلاف المثقفين العرب العقلانيين.
لذلك، فإن كانت الجزيرة تدري ما تفعل فتلك مصيبة، وإن لم تكن فتلك مصيبتان.