كتَّاب إيلاف

في القاهرة: قتل المثقف فرحي، فتضامن معي سيد القلم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

استقبلت عامي الجديد مفزوعاً حين صحوت على صوت طرقات مرتبكة حيث باب غرفتي في أحد فنادق القاهرة. فتحت الباب. وجدت يداً ممدودة ووجهاً مبتسماً تختلط إيحاءاته بين الفزع والفرح. نظر في عيني وقال:
- هات البُشارة يا بيه
- عن أي شيء جئت تبشرني يا سامي؟
سألته وأنا في حيرة من أمري. قال والابتسامة المرتبكة ما زالت مرتسمة على محياه:
- خلاص، صدام إتعدم .. أصابني الذهول، حاولت أن الملم نفسي ولكن عبثاً. اتجهت صوب الخزانة باحثاً عن أية ورقة نقدية أضعها في يد المُبشِّر العظيم في هذا الصباح الذي لم أعرف له طعماً بعد. انصرف موظف الفندق وهو يتحسس الورقة الخضراء التي دسستها بيده وانا خجل، على الرغم من قيمتها الجيدة. كانت البشرى أعظم من كنوز الدنيا، لقد نال المجرم جزاءه، لقد بدأ العالم بأول أيام عامه الجديد دون أن يشارك الجلاد بسطاء الناس استنشاق هواء العراق، ماتت الشعارات الكاذبة التي جوعتْ وشردتْ الملايين من الشعب العراقي بحجة القومية والدفاع عن العروبة.
خرجت إلى الشارع كي أستقل تاكسي توصلني إلى وسط البلد، كان لي موعداً مع زميلة لي تطوعت لمساعدتي في إتمام " مراسيم " طباعة روايتي، ولكن الوقت مازال مبكراً، اشتريت علبة من الحلوى بعد وصولي إلى وسط البلد، ورحت أوزع محتواها على المارة من الناس، في تلك الأثناء، لاحتْ لي زميلتي الصحفية المصرية التي كنت على موعد معها، قابلتني مبتسمة وعيناها تشعان فرحاً، كانت تراني أوزع الحلوى باضطراب واضح، وقفت إلى جانبي وهي تسمع هطول الأسئلة الممتزجة برائحة عطور للحلويات الخارجة من أفواه مشغولة بالقضم.
كل سنة وأنت طيب يا باشا .. إيه المناسبة يا بيه؟ ( ثم يستدرك متذكراً) أه النهار ده عيد، كل سنة وأنت طيب ... ربنا يخليلك إلى جالك ( يقصد أنه عرف بنباهته بأني رزقت طفلاً ) .. ربنا يفرِّح ألبك ( قلبك ) على طول .. كل سنة وانت طيب يا بيه .. أنتَ منين يا فاندم؟ .. الكثير من الأسئلة والتمنيات أمطروها علي، ولكني لم أجيب على أي منها سوى ذلك السؤال الأخير الذي وجدت نفسي على أثره ودون دراية مني أجيب بفخر واضح:
- من العراق
- ربنا ينصركم على أعدائكم .. قال الرجل ذلك ومضى بطريقه يمضغ قطعة الحلوى، ولكن جوابي وصل إلى مسامع الآخر الذي كان بقربه. أقترب مني وسألني:
- هل عرفت بأنهم أعدموا صدام صباح اليوم؟
- نعم عرفت
- بذمتك ده مش حرام؟ .. يعدموا زعيم الأمة العربية؟
قال ذلك وهو يتفحص قسمات وجهي مستطلعاً ردة فعلي. كنت على وشك أن أجيبه لولا صوت زميلتي التي قالت لي على الفور:
- ما إتجاوبش على السؤال، سيبو إيغور، ما تخادش ببالك! .. انصعت لكلام زميلتي وطلبها، ولم أجب على سؤال الرجل. شعرت بالشفقة على ذلك الرجل المسكين، حسبته بسيط غير متعلم، وعزيت غرابة سؤاله إلى أميته وعدم اهتمامه بالسياسة.
انتهت حفلة توزيع الحلوى فسحبتي زميلتي طالبة مني أن نحث خطانا إلى الصيدلية القريبة، فهناك شيء تريد شرائه. دخلنا الصيدلية ووجدنا فتاة جميلة تفيض بحيوية واضحة ويظهر عليها زهو مهنتها. تذكرت نوع من المراهم كنت قد نسيته في كوبنهاجن، سألتها فيما إذا كانت صيدلانية أم موظفة في الصيدلية، فأجابت معززة زهوها، بأنها خريجة الصيدلة وهي صاحبة الصيدلية، عندها انتبهتْ للهجتي العراقي فسألتني:
- هل أنت حزين لإعدام صدام حسين بهذه الطريقة البشعة وبصباح عيد الأضحى؟
- بالعكس، أنا فرحان جداً .. قلت ذلك فبادرت زميلتي بالإضافة:
- قبل قليل وزع الحلويات على المارة في الشارع بهذ المناسبة .. فتحت الشابة الصيدلانية عينيها تعجباً وقال:
- ياه!! للدرجاتي!!؟ بس ده حرام، يا راجل!! ذول ذبحوه صباحية عيد الأضحى!! يعني زي الخروف!! .. ارتفع حامض الغضب بدمي وشعرت بدوار في رأسي، ولكني كظمت غيظي وقلت:
- وماذا عن مئات الشبان العراقيين الذين أعدمهم صدام في الأعياد وغيرها، والذين أمر بعدم تسليم جثامينهم لذويهم دون أن يدفعوا ثمن إطلاقات الرصاص التي استقرت بأجسادهم ورؤوسهم لتسلب منهم أرواحهم وأحلامهم؟
أجابتني الفتاة ببرود مربك لاحظته على كلماتها حيث قالت:
- أنا عن نفسي لم ألاحظ هذا عندما عشت في العراق طيلة تسعة أعوام. هل تعرف أني عشت في العراق؟ في مدينة الموصل، تسع سنوات درست خلالها الصيدلة؟ كنت مرتاحة جداً، وكانت تلك الفترة، أجمل فترة عشتها في حياتي على الإطلاق!! .. شعرت بذلك الكم الهائل من الأنانية وحب الذات والتفكير بالمصلحة الخاصة إلى حد السذاجة الذي تتمتع به تلك الفتاة. نظرت في عينيها مشمئزاً وقلت سائلاً:
- أنت صيدلانية!! هذا يعني أن وظيفتك تحتم عليك التفكير بجدية في الروح البشرية الشاكية من الأوجاع، حتى تجدين لها أفضل الحلول والعقاقير لتخلصيها من آلامها!!؟
- هذا صيح .. أجابت الفتاة، فقلت لها:
- فماذا سيكون حكمكِ على شخص أغتصب ثلاث فتيات وسبب لهن الآلام والكوابيس وتلطيخ السمعة وبالتالي العيش بطعم كارثة الاغتصاب طيلة حياتهن المتبقية؟ .. أجابتي على الفور قائلة:
- الإعدام طبعاً!!، ولو تم إعدامه عشرات المرات فهذا قليل بحقة .. حينها قلت وكأني وجدت ضالتي لأخذ الثأر من ضميرها الميت:
- فما بالكِ إذاً بشخص أغتصب بلد كامل؟ ألم يغتصب صدام حسين دولة الكويت ويجلب الكوارث لشعبها ويضع الشبان العراقيين تحت رحمة الطائرات الأمريكية؟ .. لم أنتظر جوابها، سحبت زميلتي وخرجت حيث الرصيف. صرت أشعر بانقباض في صدري حتى أني رأيت متخيلاً اصفرار وجهي وتشنج شفتي غضباً، وضعت يدي في جيبي بنطالي ورحت أحدق في اللاشيء. شعرت بسخونة تجري على وجنتي لاحظتها زميلتي الشفافة المترعة بالإنسانية وطيبة الأمهات. ناولتني منديلاً واقترحت عليَّ شرب قدح من العصير. كان بيننا وبين محل العصير بائع أفترش الرصيف بالصحف والمجالات. قررت أن أشتري نسخة من كل جريدة - جوع شراء الصحف العربية يتقاسمه معي أغلب عرب المنافي - وبالفعل اشتريت بعض الصحف على الرغم من ممانعة زميلتي، قالت أن الأخبار في كراريس الكذب السياسية تجلب الغم. طلبت من عامل العصير أن يصنع لنا كأسين من عصير البرتقال، وعلى الفور راح يسألني:
- حضرتك منين يا فندم؟ .. وقبل أن أجيبه صرخت زميلتي بوجهه غاضبة:
- وأنت مالك؟ خليك بشغلك!! .. شعرت بالإحراج لتصرف تلك المخلوقة الوديعة، ولكني أبتسمت لها أخيراً بعد أن فكرت بأنها قد تكون خلصتني من دمعة أخرى، ربما!!
استمر حال الاضطهاد هذا لثلاثة أيام متتالية. كل من يعرف أني عراقي يطرح عليَّ نفس الأسئلة وينتابني نفس الشعور المر والمُهين حتى أني قررت السفر دون أن أتم لقائي مع دار النشر التي وافقت على طبع روايتي، ولكني عدلت عن قراري ذاك بمساعة تلك المخلوقة الرائعة.
بعد انتهاء عطلة العيد، وفي مكتب دار النشر كان هناك جمع من الرجال وسيدتين، يتوزعون على كراسي قديمة ورائحة الحثيث تغلف المكان. ألقيت عليهم التحية، وحين شاهدني مدير الدار نهض من على مكتبه واستقبلني مصافحاً ثم قدمني للحاضرين:
- الأستاذ حسين كاتب وصحفي عراقي .. ثم راح يقدم لي من في المكتب:
- الأستاذ .. شاعر، الأستاذ .. روائي، صحفي، شاعر، صحفية إنجليزية، شاعر، شاعر وروائي، ناقدة فنية ...إلخ. وحين وصلت مصافحاً الشخصية الأخيرة، شعرت بيد تمسك كتفي، نظرت صوب اليسار، التقت عيناي بوجه أسمر مبتسم، كان شاب في بداية الثلاثينيات، تفيض منه حيوية واضحة. انزوى بي جانباً بينما أنشغل الآخرين بمصافحة زميلتي. قال:
- أنا ( .. ) شاعر وصحفي، أعمل في جريدة ( .. ) ونحن بصدد عمل تحقيق صحفي قد يأخذ عدد الصحيفة بكاملها، سيكون عن صدام حسين وأثره على الثقافة العراقية، فهل لديك مانع في إجراء حوار معك؟ .. كنت أتفحصه حيث عينيه وهو يتكلم، وجدته طموحاً وجسوراً، صفتان على كل صحفي أن يتمتع بهما، ابتسمت له وقلت:
- إنه موضوع جميل وخطير جداً، وأنا على أتم الاستعداد لذلك، دعني أفرغ مما جئت لأجله، ثم نتفق على موعد محدد .. وضعت يدي على ظهره واتجهت به صوب مكتب صاحب دار النشر. بقي إلى جانبي وأنا أتفق مع السيد الجالس خلف طاولة المكتب على بعض الإجراءات الضرورية الخاصة بكتابي، وما هي إلا ثواني حتى سألني الشاب الشاعر:
- طيب يا أستاذ حسين، أنت إيه رأيك باللي حصل لصدام؟ هل أنت موافق على الطريقة الحقيرة التي أعدموه بها؟ .. شعرت بسائل مؤلم يسري داخل جسدي بسرعة مذهلة، بدأ يأخذ طريقة من ساقيَّ حتى وصل رأسي فشعرت بغثيان وعدم وضوح بالرؤيا، عرفت حينها بأنني مرتبك ولا أقوى على الكلام، فقلت له جاهداً:
- صدام لا يعنيني كثيراً، لقد انتهى، والذي يعنيني الآن هو العراقي البسيط الذي يذهب مع ساعات الصباح الأولى ليجلب ثمن طعامه ولا يعرف إن كان سيعود سالماً لبيته أم لا .. لم يمهلني فرصة لاسترداد أنفاسي حيث عاجلني بقوله:
-ولكن الذين أعدموه كانوا ملثمين، وأنا متأكد من أنهم أمريكان، هل توافق وأنت العراقي المثقف على إعدام زعيم قومي بهذا الطريقة وعلى يد هؤلاء؟ نحن بصراحة نريد أن نعمل ريبورتاج في جريدتها حول تلك الطريقة البربرية التي أعدم بها زعيم عربي وبطل قومي .. وجدتني في موقف لا أحسد عليه، فلقد نال هذا المتطفل الجاهل من كرامتي ونكأ جرحي الأزلي النازف لسنوات طوالاً. نظرت في عينيه وطلبت منه الجلوس بعد أن لاحظت عيون الحاضرين تتجه نحوي مترقبة بحذر وفضول. وحين أخذ مكانه جالساً، جلست قبالته وقلت له:
- أسمع!! سوف أجيبك على أسئلتك بشرط ألا تقاطعني .. أنت تحاول أن تستفزني، بل فعلت هذا بالفعل. هل تعرف معناً لكلمة " زعيم قومي "؟، أنا شخصياً لا أجد لها أي معنى، هي مجرد شعار تافه، ولا أعتقد بأنك تعرف لها معناً!! ثم أن صدام محكوم عليه بالإعدام، أي أنه سيعدم عاجلاً أم آجلاً، وقد حدث هذا. وأريد أن أسألك سؤال واضح، لو صار حسني مبارك بين يديك وطلبوا منك أن تعدمه، فهل ستفعلها؟ .. أجابني على الفور وبفخر واضح:
- طبعاً سأعدمه، وربما أقطعه بأسناني!! .. فقلت له مقاطعاً خوفاً أن يسهب في أمنيته:
- طيب، إذا كان حسني مبارك لم يحارب دولة جارة لثماني سنوات ويقتل مئات الآلاف من المصرين بسبب تلك الحرب، ولم يحتل دولة جارة أخرى ويدخل بلده في حصار اقتصادي دام لأكثر من عقد، ولم يقترف دفن المصرين في مقابر جماعية، ولم يجلب القوات الغازية لمصر كي تحتلها تحت أية ذريعة، ولم يهجر أربعة ملايين مصري في منافي أرض الله. هو لم يقترف كل تلك الذنوب البشعة وتريد أن تعدمه، فماذا أقول أنا الذي ذقت مرارة كل تلك الجرائم التي أقترفها صدام حسين بكل رعونة؟ لماذا أنت معدوم الضمير أيها الشاعر الضمير؟ لماذا تحاول أن تقفز على جراحاتنا بكل برود وإنسانية معدومة؟ كيف تتجرأ على إلغاء آلام ومعاناة شعب بكامله عن طريق الكذب والتدليس بشعارات كاذبة؟ .. وقف الشاب ثائراً بوجهي وهو يقول:
- هذه اتهامات لا أقبلها، وعلى ما يبدو أنك تلبس القناع مثل أولائك الذين أعدموا صدام .. بقيت على جلستي ناظراً إليه، وحين فرغ من كلمته الأخيرة، قلت:
- واضح عليك أنك إنسان بسيط، تلهث أغلب ساعات اليوم لتلتقط رزقك، أي بصريح العبارة أنك ضحية، تماماً كما أنا ضحية العقول السياسية الكاذبة التي تتباكا عليها الآن، نحن جميعاً ضحايا السياسة وسياسيوها الذي يلعبون بحقوقنا ويبخسوها، وإذا نحن كذلك، أليس من السخف أن نتبنى أفكار من يضطهدنا، هل نحن سذج إلى هذا الحد الذي يدفعنا إلى تبني أفكار وأكاذيب جلادينا؟ .. وقفت رافعاً يدي بوجهه، آمراً بالسكوت، وخرجت من المكتب دون أن أودع أحد.
شعرت بالغربة والوحدة والانكسار. تلبسني الإحباط وفرت الدموع من عيني، ورحت أحدث نفسي وأنا لا أعرف وجهتي. هل من المعقول أن يكون الجلاد بطلاً؟ هل يعقل أن يعد الشاعر والصحفي والمثقف، جلاداً هتك عرض شعبه وبدد خيراته بطلاً شريفاً ومجاهداً مغواراً، أين أنا من كل هذا؟ إلى من ألتجئ كي يستمع إلى جراحاتي.
استمر الوضع معي أيام أخر، مع سائق التاكسي، ونادل البار، وعامل المطعم حتى الزبالين وعمال الفندق. بكيت بمرارة وشعرت أن الإنسان في هذا البلد الذي طالما حلمت بزيارته والعيش والاستقرار بين جناحيه، هو إنسان لا يعرف سوى مصلحته الشخصية، لا يعرف سوى القفز على ضميره من أجل أن ينال مآربه الشخصية. وبعد صراع طويل مع نفسي المتعبة، قررت ألا أحدث أحد بأي موضوع شخصي، وبالفعل التزمت الصمت حتى حان موعد سفري وجلست على كرسي الطائرة متهالك الروح وكل شيء فيَّ يشكو الإحباط. فتحت حقيبتي اليدوية وأخرجت منها كومة الصحف التي اشتريتها صباح هذا اليوم. بدأت أتصفحها هارباً من الصفحات الأولى، باحثاً عن شيء يحتوي شيئاً من الإنسانية، وقع نظري على مقال فأغراني اسم كاتبه الذي أكن له عظيم الاحترام والإعجاب، ورحت أقرأ:
مصــر فـي فوضـى "١" .. بقلم أسامة أنور عكاشة

قررت منذ أسابيع عدة أن أتوقف عن كتابة مقالي الأسبوعي والذي كنت أناقش خلاله ما أراه حادثًا علي الساحة من أمور السياسة والثقافة والفنون ولا أريد أن أضيع وقت قارئ "المصري اليوم" في سرد أسباب قراري وهي كثيرة وأكتفي بذكر أهمها لأنه يتصل مباشرة بما أريد أن أتعرض له اليوم وهو "اليأس"! نعم اليأس! يئست من جدوي الكلام والكتابة..
ووصلت بعد إبحار طال لسنوات إلي شاطئ قفر تملؤه الصخور والهوام ولا يخفق فيه قلب بشر، وقد التزمت بقرار الابتعاد عن السياسة وسفسطة الحوارات البيزنطية عن التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي حتي فوجئت بالمشهد حولي وقد تحول إلي فوضي شاملة ومرعبة لا يمكن تجاهلها أو التعامل معها بالصمت والحياد فقررت التحلل من التزامي ولو لهذه المرة فقط... معتذرًا لكل الأحباء الذين وافقوني علي قراري الأول وكانت حجتهم التي أقنعتني في النهاية أنني روائي وكاتب دراما في الأساس... ويجب أن أظل في هذه المنطقة دون أن أسمح للسياسة- ولو كانت مجرد كتابة مقال- بأن تسحبني خارجها...
وكان السبب المباشر في تفجير إحساسي بالفوضي التي تحيط بي وبالمصريين جميعًا هو مشهد تنفيذ حكم الإعدام في الرئيس العراقي السابق صدام حسين وقد حاولت منذ بدأت "المحزنة" أن أكتفي بالمشاهدة وأكبت داخل عقلي أي اعتراضات أو ملاحظات تجري عكس التيار الكاسح الذي أقام مراسم اعتماد صدام حسين شهيدًا وبطلاً ورمزًا؛ وكان هذا يستلزم أن أعطل ملكة التفكير والمنطق والعقل وكل ما اقتنعت به واعتنقته من رفض النهج الديكتاتوري وحكم القهر والاستبداد سواء كان حكماً ملكياً قبلياً أو جمهورياً عسكرياً أو رئاسياً متوحداً وسواء كان لفرد أو حزب أو جماعة!
وأسوأ ما في الأمر أن يتصل هذا المركب "المازوخي" المرضي القائم علي حب وتلذذ الجماهير "القطيع" بما تلقاه من عسف وإذلال علي أيدي جلاديها- ويختلط بالنعرة الطائفية والمذهبية التي فرضها مناخ التردي والضعف العام الذي أعاد قسمة العرب دينيا: إلي عرب يدينون بالإسلام السني... وعرب آخرين يدينون بالإسلام الشيعي..
هذا الفخ الذي اصطيد فيه الجميع وكانت بداية نصبه في الحقيقة تلك الحرب الحمقاء التي شنها صدام حسين علي جارته "إيران" بتحريض من المخابرات المركزية الأمريكية التي أرادت أن تنتقم من فشلها في إيران ومن المهانة التي لحقت بإدارة كارتر في أزمة الرهائن المحتجزين بالسفارة الأمريكية في طهران التي احتلها الطلاب الثائرون.. ورغبة منها في استغلال تفكك الجيش الإمبراطوري بعد سقوط ملكية آل بهلوي ودخول الخوميني، فأوحت لرجلها في بغداد أن فرصته قد حانت ليضرب ضربته ويجتاح جارته "الشيعية" التي تلاصق مواطنيه الشيعة ويمكن أن تنقل لهم عدوي "الخومينية".
وفور تنفيذ الإعدام في صدام انطلقت حناجر "الهتيفة" وخبراء "التهييج" الحنجوري تصرخ مزلزلة الأرض حول كل المصريين أن اشهدوا على الجريمة البشعة التي قدم فيها جزارو الشيعة في بغداد أضحية العيد الأكبر في صبيحته: رأس القائد البطل الذي تصدي للأمريكان وقال: لا.. للطغيان ! وانتفخت أوداج واحد منهم وهو يجأر زاعقًا: يحيا صدام حسين البطل الشهيد... واستمرت هيستيريا الحزن الديماجوجي تتغزل في مناقب كبير الأشاوس الذي كان صاحب الفضل الأول في تقديم الغطاء للاجتياح الأمريكي والذي هرب وترك عاصمة وطنه مفتوحة بلا طلقة رصاص تدافع عنها بينما كان رجل إعلامه الصحاف مازال يردد هراءاته الجوفاء علي شاشات الفضائيات ويقسم للناس أن النصر قد حل وأن العلوج قد تمت إبادتهم وأن القائد "الضرورة" يعتلي متن الانتصار...
وكما تشدق إبان الحرب التي شنها علي إيران بالمفردات الطائفية التعصبية مفتشًا في جراح الماضي السحيق بين عرب الإسلام والفرس المجوس... وأعلن نفسه بطلاً للقادسية الجديدة، ناسخًا صورة سعد بن أبي وقاص أو المثني بن حارثة الشيباني! انتحل هذه المرة مسوح صلاح الدين الذي يتهيأ لنصرة الفلسطينيين وإبادة "الفرنجة الجدد" من بني إسرائيل في حين أنه لم يجرؤ علي اطلاق رصاصة واحدة ضدهم كما فعل مع إيران مثلاً. والفخ الذي أتحدث عنه لم يسقط فيه عامة المصريين ممن يتم شحنهم منذ أحداث الجنوب اللبناني بالعداء للشيعة والتهوين من شأن حسن نصر الله والمقاومة التي يقودها حزب الله...
لم يسقط في الفخ البسطاء وحدهم بل انزلق إليه النخبة أيضًا ومنهم كتاب نحترم أفكارهم وأقلامهم نحسبهم علي قوة التنوير وكوادر النهضة وكأنهم وقد أرهبهم صراخ "الحناجرة" وغوغائية "الهتيفة" اضطروا للمشي في الجنازة أو التطوح في حضرة الشهيد.. وإن حاول بعضهم إمساك العصا من المنتصف فرددوا في تلعثم وركاكة أنهم ضد الطاغية وحكمه الديكتاتوري للعراق ولكنهم "يأسفون" لبشاعة التنفيذ وسقم الرمز في اختيار يوم العيد... وهرب بعضهم إلي تعليق المسؤولية علي الشماعة الجاهزة "الاحتلال الأمريكي" وتشجع البعض الآخر فتمنى أن يتعظ الطغاة الآخرون في العالم العربي وقد رأوا رأس الذئب الطائر...
وقد نعذر ونرجع الأمر لحالة "الفوضي" السائدة ولكن ما أدهشني وأصابني بما يشبه الصدمة حقيقة هو ما قرأته بأقلام لم أتصور أبداً أن ينزلق أصحابها إلي منحدر المزايدات التي تنافق مشاعر العامة وتلعب علي أوتار التعصب المذهبي كمثل ما قرأته لكاتب صحفي صديق أعرف عنه استنارته وتوازنه ففوجئت بما كتبه منذ أيام وانتهي فيه إلي أنه كان من مؤيدي نضال حزب الله وقائده الشيعي السيد حسن نصر الله ضد إسرائيل في حرب الصيف الماضي ولكنه بعد أن رأي ميليشيا الشيعة تهتف مهللة عند إعدام صدام غير رأيه وقرر إخراج الشيعة جميعًا من ملة الإسلام. حقيقة لم أصدق الحروف التي قرأتها مكونة لهذه الكلمات...
لم أصدق أن يقولها صاحب هذا القلم الذي أعرفه جيدًا... وللحق فإن هناك كثيرين مثله انزلقوا بكتاباتهم إلي نفس المنحدر حتي وقر في ذهني للحظات أنهم يواكبون معزوفة "شياطين الشيعة" التي يعزفها شيوخ السنة الوهابية هناك في المملكة والذين كفروا من قبل حسن نصر الله وكل من يساعده...
وها نحن أولاء نزايد عليهم بتكفير كل الشيعة وتكفير كل من يلتمس لهم عذرًا في إعدام الطاغية الذي نكل بهم وقتل الآلاف منهم إبان سنوات حكمه "المجيد".. وربما يطلع علينا غداً قلم آخر يكفر كل من لم يشارك في الهيستيريا الجماعية التي شقت الجيوب ولطمت الخدود حزناً علي الشهيد الرمز.. الذي سيظل كما قال أحدهم: أعظم أبطال تاريخ العرب المعاصر!.. مرحى... وأهلاً بعرب النصف الأول من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين...
كنت أظن - واهماً - أن حروب الفتنة الكبري قد انتهت بقيام دولة بني أمية ونجاح خلفائها في استئصال كل جذور آل البيت النبوي الشريف... وأن الكارثة التي فرقت المسلمين بين سنة وشيعة قد استقرت في حدود هذا الفصل المذهبي الذي صار قدراً تاريخياً لا راد له وأصبح غاية الأمل هو "التقريب" بين المذاهب لا توحيدها فدون ذلك خرط القتاد كما يقال..
وها هي الأمور تتدهور بشكل يثير الرعب ويجعل رؤية المستقبل مسرجة بضبابية قاتمة... وتلوح الفوضي الدامية في الأفق... وتتدافع الأسئلة الجزعة يأخذ بعضها بمناكب البعض لتطرح أسوأ الرؤى المتشائمة... أتراها بقية فصول الانهيار التام للنظام العربي؟ أم تكون مقدمة لحرب وهابية طلبانية تعيد المنطقة كلها إلي الكهف لتصبح أمثولة تاريخية... وتعيد للذاكرة الإنسانية مذابح العنصرية والصراع الديني ونصنع لأنفسنا "سان بارثلوميو" جديدة لنكون بحق "العرب البائدة" وليس هؤلاء القدامي الذين طوتهم رمال الربع الخالي فكانوا أثرًا بعد عين؟... وللفوضى بقية.. ( انتهى المقال )
سحبت نفساً عميقاً وأغمضت عيني كي أنعم بتلك الراحة العظيمة التي بدأت تتغلغل إلى أعماقي وأنا أقرأ كلمات السحر الشريف الناضحة من قلم هذا الإنسان، كنت أشعر وأنا أقرأ المقال، بيد رحيمة كانت تربت على كتفي مرة، أو تداعب خصلات شعري مرة أخرى. يد تشبه يد أمي وكأنها تقول لي: إن جراحاتك هي ما أفكر بها دائماً، أن آلامك تقض مضجعي، فلا تحزن يا صديقي، فهناك الكثير من الضمائر الحية تعرف الحقيقة تماماً كما تعرف عمق جراحات العراق وشعبه، دع عنك الإحباط وهذا الوجوم الذي يتلبسك وأخلد إلى النوم هانئاً.

halsagaaf@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف