جسر الحديد إنكطع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كل من ولد في بغداد وطاف بأقدامه العارية أزقتها المتداخلة متنقلا من شمالها الى جنوبها و من غربها الى شرقها يواصل الحفاظ في ذاكرته على بعض ملامحها التاريخية التي ترافقه حيثما حل في ثنايا هذا العالم الحافل بالمفاجآت والعجائب. وهذه الملامح تشكل قلب بغداد التاريخي وما ألحق به مع بداية القرن العشرين من معالم الحداثة مثل محطة بغداد التاريخية التي كان من المفروض أن تستقبل Bagdad Bahn، حلقة الوصل المفترضة بين الغرب والشرق والمتحف الوطني، حيث أستقرت كمية كبيرة من آثار العراق القديم، سَرق القسم الأكبر منها من قبل كلاب مسعورة أنطلقت في ظل تحرير العراق من الطاغية صدام حسين لتقضي على ما تبقى من الهوية العراقية التي كان النظام الدموي البعثي قد مسخها أثناء هيمنته على البلد، ومعالم أخرى تنتشر هنا وهناك في هذه المدينة التي لا تشيب رغم ما يلحق بها من دمار حاليا وفي الماضي ومن ضمن هذه المعالم ما أتفق سكان بغدا على تسميته بـ "جسر الحديد"، وهو جسر الصرافية التي طالته أيادي المجرمين القتلة الذين ما عادوا يكتفون بدماء العراقيين وغيرهم من الأبرياء، بل راحوا يتطاولون كذلك على الرموز الحضارية لهذا البلد، كما فعلوا سابقا في أفغانستان من خلال تدمير تماثيل بوذا وتحويل نساء البلاد الى أشباح مبهمة تختفي تحت حجاب يمكن أعتباره اكتشافا شيطانيا.
لقد توج الجلاوزة حملتهم ضد التراث العراقي الثقافي بتدمير شارع المتنبي، رمز التنوع الثقافي والحضاري في العراق، بعد أن زرعوا الدمار في سوق الشورجة التاريخي الذي كان يجمع التاجر العراقي المسيحي باليهودي والمسلم، يحميهم بظلاله من شمس الظهيرة القاسية موفرا لهم مساحة كبيرة للتنافس على إرضاء الزبائن من مختلف الطوائف والأقوام. وربما سيستهدفون غدا المدرسة المستنصرية والقصر العباسي والسراي وغيرها من رموز بغداد المهمة بهدف تحويل "دار السلام" الى صحراء يحققون فيها احلامهم القذرة تحت عباءة الدين مع حلول الظلام ونحر العقول، بما لايقتصر على العقول الحية، بل يشمل كذلك عقول الموتى في نتاجات الثقافة العربية الإسلامية مثل المعري وابن سينا وأبن رشد وحتى الغزالي في مراحله الأولى وغيرهم من المفكرين والأدباء الذين لم يقتصر تأثيرهم على الثقافة العربية، بل وجد امتداداته في ثقافة عصر النهضة الآوربية.
ولنعد الى جسر الحديد. لقد كتب الكثير عن هذا الجسر وتاريخه المرتبط بتاريخ العراق الحديث، إلا أن الجوانب الذاتية لهذا الحدث لم تجد موقعا لها في أغلب ما كتب. المحزن في الأمر أنهم يسرقون طفولتنا وشبابنا ويدمرون ما تبقى من ذاكرتنا الجمعية كـ "بغداديين". أنهم قتلة الذاكرة الذين يحملون أحزمتهم الناسفة الى أقصى زواياها لتخريبه. ما علينا أن نفعل بمواجهة هذه الحملة؟ لنقل الرجوع الى الذاكرة؟
لقد مرت على "جسر الحديد" ملايين الأقدام العراقية منذ بنائه فى الثلث الأول من القرن العشرين وكان رمزا لوحدة هذه المدينة الممتدة على جانبي نهر دجلة بمختلف مكوناتها. لا شك بأن العديد من أبناء جيلي مازال يذكر الأغنية العراقية -الدويت- "يا عين موريتين ياعين مورية جسر الحديد إنكطع من دوس رجليه"، تلك الأغنية المعبرة في وجهة نظري عن التماسك القومي في العراق بعربه وأكراده وأقلياته الدينية والأثنية. كان طريقنا الى هذا الجسر يبدء من أكاديمية الفنون الجميلة ويمر بساحة عنتر و بحدائق البلاط الملكي ليصل الى كورنيش دجلة الملئ بالمقاهي المختلطة للطلاب والطالبات ليمضي باتجاه باب المعظم، حيث كان موقع السجن المركزي، مكمن "اللصوص والقتلة"، ومرة بعد أخرى كنا نندهش مثل الأطفال بمواجهة هذا الكيان الحديدي الذي يربض على جانبي تهر دجلة ويدعونا لعبوره مشيا على الأقدام، إذ كان يحتوي إضافة الى معبر السيارات والقطارات على معبر خاص للمشاة. كان الجسر ينحني على العاشقات والعشاق مثل أم حنونة وهو يحميهم من حرارة الصيف ورطوبة الشتاء ولم تكن تترك عليه أقدام المارة أي أثر، حتى جاء مجرم بصقته الصحراء في وسط مدينة تزينت طيلة تاريخها بقلائد الحضارات المختلفة ليصب حقده الأسود ليس على البشر فقط وأنما أيضا على كل ما ينتمي للحضارة والإنسانية. ومن ألمؤسف أن يجري كل هذا تحت أنظار عدد كبير من المثقفين العرب دون أن يرفع أحدهم صوته محتجا على تدمير القيم الحضارية، بل مازال أغلبهم يتلذذ بكل وقاحة بإطلاق تسمية "المقاومة" على كل هذه الجرائم بحق البشر والأرض. لقد أصبح من الواضح لكل من لا يريد إغلاق عينيه عن الواقع وجود حملة عنيفة ضد الجذور الثقافية والحداثية للمجتمعات العربية، وقد بدت هذه الحملة في شكلها الأكثر وضوحا وعدوانية في العراق بعد تحريره من النظام القمعي الدكتاتوري، ولا شك بأنها لن تبقى محصورة على العراق، بل ستشمل وبالتدريج كل المساحة الثقافية العربية أو ما تبقى منها في ظل هيمنة الأنظمة الدكتاتورية، إذا لم نجد الحد الأدنى من الشجاعة لمواجهتها ولتسمية الأشياء بأسمائها في كل زمان ومكان.