كيف نرمم خراب الإنسان العراقي ؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
العراق المتميز بثرواته منذ بدء الخليقة، والعراق الغني بما حباه الله به من انهار وأهوار وأرض خصبة وثروات معدنية وتنوع جغرافي وطبيعة ساحرة وجبال وعقول انارت للبشرية طريقها وحضارة سادت ثم بادت. العراق الذي كان يطعم الجياع ويتصدق علي البلدان الفقيرة ويتبرع للاخوة والأشقاء ويتسابق في منح الدول الفقيرة والمنكوبة هباته السخية، من ماله وتموره وطعامه ونفوطه وعقوله البشرية.
وتدور عجلة الزمن من دولة أور وسومر وبابل والمناذرة والحيرة والفتح الاسلامي والدولة الأسلامية الأموية والعباسية وهولاكو ودولة الخروف الأبيض والأسود والبويهيين والأخشيديين والعثمانيين ومملكة العراق والجمهوريات المتعاقبة وانتهاء بانقلاب البكر ــ صدام السيئ الذكر والذي كان نهاية عهود الخير والرخاء والرفاهية.
وبالرغم من تكدس المليارات من الدولارات في خزائن الدولة وفي جيوب المتسلطين عليها، وبالرغم من الاغداق الفاحش للمال العام وبعثرته علي النماذج المنافقة التي لاتستحق سوي الاهمال وعدم الالتفات اليها، وبالرغم من الانفاق المجنون والاستحواذ علي الخزينة، فقد كان المال العراقي يكفي لأن يعيش الناس برفاهية ويتنعمون بحياتهم مهما كان الزمن رديئاً.
كانت الأرقام بالمليارات حين كانت ميزانية الدول النفطية بالملايين، وأصبحت الدولة العراقية متخمة بالمال. لكن الرئيس البائد استطاع ان يبدد ثروات العراق بشكل لايصدق، بحيث وضع نصب عينيه كيف يتم أفقار العراقي واذلاله تحقيقاً لأمراض نفسية مسيطرة علي عقله الصغير، وأن يجعل العراق محتاجاً وفقيراً دائماً، فأنفق المليارات التي كان لها أن تعيد ليس بناء العراق وأنما ايجاد أسس وركائز لمستقبل جميل للأجيال العراقية القادمة، فأشترى الذمم والضمائر والمواقف، وزين له انه استطاع إن يكسب معركته ضد شعبه، فأضاع بذلك كلا الطريقين فلا شعب العراق احترمه وأحبه، ولا استطاع إن يترك اثرا أنسانيا بعده يمكن أن يحسب له، وفوت فرصة تأريخية يمكن له إن يذكره التاريخ العراقي الحديث بما يليق بالحاكم الوطني، لكن أن تتم عملية أسقاط الدكتاتور والعراق غارق فوق أذنيه بالديون التي ما بلغتها دول من الدول حتي الفقيرة منها، ولم يتعرف الناس لحد اللحظة علي قدرة السلطة البائدة علي اخفاء وسرقة المليارات، واختفت تلك المليارات المتوزعة في أصقاع الأرض على أشخاص وشركات كانوا يشكلون القاعدة والرصيد في معركته ضد شعب العراق، فغادرها وترك بناته يتمتعن بجزء منها غير إن الحقد يأكل ضمائرهن فينفقن تلك الثروات على عمليات القتل والأنتقام من شعب العراق، وترك الدكتاتور بعده سجلا في الأنفاق الغبي والمجنون علي عجلة الحرب المسيطرة علي عقله و التي سحقت العراق أكثر مما سحقت غيره، ومع بقاء عائلة الطاغية وزبانيته وخدمه متنعمين بجزء من هذه الثروات حيث ان العراق بقي دون ميزانية منذ اكثر من عشرين عاما قبل السقوط بعد ان تحولت الخزينة الي جيوب عائلة الدكتاتور، الا ان بلوغ مديونية العراق هذه الأرقام المرعبة وغير المعقولة خيانة وطنية ما وصلتها الا خيانة صدام للانسان العراقي في مقابره الجماعية وسجونه والقضاء عليه وعلى مستقبل الأجيال العراقية القادمة.
وليس فقط مديونية العراق وايصال العراق الي ما تحت خط الفقر، انما التخريب الذي عم المجتمع ومفاصل الحياة في العراق، اذ ليس من المعقول أن يصل الرقم الي 816 مليار دولار ما يحتاجه العراق لأعادة أعماره، فأي تخريب هذا ؟ وأي خيانة هذه يقترفها الرئيس البائد وسلطته المجرمة. تري ما هو حجم المتهدم من فرص في مستقبل الحيــــــــاة العراقية الرصينة والعريقة؟ وكم أنفق ليجـــــــعل الحياة خراباً وجحيماً؟ وكم أنـــــــفق علي من لايستحق الانفاق؟ وكم هي الجهات التي سرقت من اموالنا وحلالنا واعمارنا وانتزعت بسمة أطفالنا وضحكات أولادنا؟
كيف استطاع إن يزرع الرعب والخوف في قلوب العراقيين حتى باتوا مرعوبين داخل بيوتهم ؟ وكيف استطاع إن يزيل تلك العلاقة الحميمية بين الجيران وبين اهل المحلة ليحل محلها التوجس والخوف والخشية من تقرير أو موقف تنتهي بت حياة العائلة ؟ وكيف استطاع إن يحول الشعب الى جيش من المخبرين والعسس والمراقبين ؟ وكيف استطاع إن ينزع اللحمة العائلية ويشتت الناس ؟ وكيف استطاع إن يجعلهم ارقاما جامدة يموتون حين يريد ويشردون حين يرغب ويبتسمون حين يأمر ؟
تري كيف نستعيد زماننا العراقي البهيج الذي سلبه صدام البائد من اعمارنا وأحالها كئيبة وكالحة ومغبرة ومظلمة؟ تري نستعيد اعمارنا التي سرقها الطاغية منا ومن أيام أطفالنا ؟ تري كيف نرمم ما هدمه الطاغية علي مدي سنوات القحط والبلاء التي سيطر بها علي العراق في غفلة الزمن وسهو الرجال؟
وأليس من حقنا أن نتساءل ماذا سيكون العراق لو لم يكن الطاغية ؟ ولو لم ينحدر الزمن الي الحضيض ليصبح صدام أحد رؤساء العراق؟
ومن يستقرأ التاريخ لن يجد مثيلاً للطاغية البائد مطلقاً، فلم يحدث أن أصر انسان علي خراب بلده ودمار اهله وقتل شعبه.
ترى هل قرأ التاريخ عن رئيس يتبرع لبناء قرية في تركيا وبلده يعاني من الفقر والحرمان وقرى العراقيين محرومة من ابسط مستلزمات الحياة الكريمة ؟ وهل كتب التاريخ عن رئيس يتبرع لبناء ملاعب لمدن أجنبية ويعاني بلده من عدم وجود ملاعب للاطفال والكباروبحاجة ماسة لمرافق حيوية يفتقر لها العراق ؟ وهل سجل التاريخ أن يتبرع رئيس بمال بلاده لاقامة مهرجانات للغناء والرقص وشعبه يعاني من الجوع والبطالة والحزن ؟ وهل سجل التاريخ لرئيس ينفق الملايين من الدولارات للاحتفال بهزيمته في كل معركة من هزائمه العديدة ؟
إن الكرم والمواقف الانسانية تكون بعد إن يكون اهل الدار شبعانين ومستورين، فليس من حق احد إن يجعل العراقيين محتاجين وهو يوزع المال الذي لايملكه اعتقادا منه إن تلك المواقف ستشتري الناس وتجعلهم خانعين له ابدا، ان التبرع والعطاء بعد إن يشبع اهل الدار ويكتفون ويتبرعون بما يزيد عن حاجتهم الضرورية، فليس من المعقول إن يكون العراقي مطاردا ولائذا بدول العالم يبحث عن الملاذ وسبل العيش وصدام يوزع الهبات وكوبونات النفط على الغير، وليس من المعقول إن يقم صدام ببناء ملعب في قرية أيطالية والعراق يفتقد لملعب يليق به، ويتبرع صدام بالمليارات للسود في الولايات المتحدة الأمريكية وأبناء العراق الفقراء في حاجة ماسة للدواء والغذاء.
ساهم صدام في أهانة العراق والعراقيين، وكرس ايام حكمه لأذلالهم وتحطيم معنوياتهم وتكسير مواهبهم وابداعهم، وساهم صدام في خراب روح العراقي ودمر منظومة الأعراف والقيم والتقاليد التي توارثها وتعلمها من الأجداد ومن تراث العراق الأصيل، فبات معتقدا انه ينقل اعرافه وتقاليده عليهم في حين انه خسر العراق وتحول من ذليل الى اسم رديء يلعنه العراق والعراقيين كل لحظة خراب روحي أو نفسي، مادي أو معنوي.
وأخيرا هل كان صدام واولاده يحملون ما اكتنزوه من مال العراقيين بالدولار حين هربوا الى الجحور وتم العثور عليها، ولم تغنهم ولم تحميهم.
الخراب المادي يمكن معالجته وترميمة، والخراب المادي يمكن إن يستعيد معه العراق عافيته وان يستعيد تحسين وضعه الأقتصادي وتمكنه من الحلول بأقتدار وسط منظومة الدول النفطية، بعد إن تزال الغمة عن الأمة، وبعد إن يشبع السراق والجوعى من المال السحت الحرام في هذا الزمن الغريب، وبعد إن تكف المجموعات من سرقة نفطه وثرواته لأصابتها بالتخمة، وبعد إن تنحسر عمليات الإرهاب وتندحر تلك القوى المظلمة والظالمة، وبعد إن يستعيد العراق انفاسه، ولكن من يعيد تلك النفوس المنفتحة ومن يستعيد تلك اللحمة الأجتماعية العميقة وذلك الاخاء المتخم بمشاعر الاخوة والنخوة وقيم الخير وأعراف المدن والقرى الطيبة ؟
ماهو الزمن المطلوب حتى يدرك علماء الاجتماع والنفس في هذا البلد الحاجة لاستعادة تلك الايام وتلك النفوس الطيبة والمتواضعة والمتآلفة والحميمة بغض النظر عن دياناتها ومذاهبها وقومياتها ؟ فيقدموا الدراسات والتحليلات التي تشخص اسباب الخلل.
كم نحتاج من أعمارنا لنعيد ماخربته الدكتاتورية وما خلفته ورائها حتى بعد سقوط نظامها وموت الطاغية ورحيله عنا الى الأبد ؟
كم وكم وكم ؟؟ تلك الأسئلة المفتوحة التي تبقى من أجل إن نرمم الخراب النفسي قبل المادي، ومن اجل إن نستعيد الأخوة العراقية، وان ننزع عنا تلك الأحقاد المزروعة في صدورنا، وان نزيل الغل الراكس في أرواحنا منذ زمن الطاغية، وان نعي الحياة المشتركة بعد الخراب الصدامي، وان نقتنع بالمصالحة الوطنية سبيلا وحيدا لأستعادة مثل تلك القيم، ودون تلك المصالحة وأستعادة الحياة العراقية الخالية من الأحقاد والضغائن، مع ممارسة ديمقراطية حقيقية نخطوها خطوة خطوة، نعبد بها طريق الديمقراطية الطويل، نتعثر به أو نتوقف غير إننا نبدء بطريق الديمقراطية العراقي، وهي تجربة ستكلفنا الكثير لكنها ستستقر في ارواحنا لنعبد بها طريق الديمقراطية الطويل، لانبخس احدا ولانستهين بأحد، ولكل منا رأيه المحترم في البناء، ولكل منها موقفه وقناعاته، ولكل منا طريقته التي يقنع بها الأخر، طريقا ديمقراطيا في بناء الأسس ورصف حجر الطريق الجديد تحيط به قيم الأخوة والمحبة والتسامح، مبتعدين كل الأبتعاد عما غرسه صدام في النفوس، متخلصين من أرث الطغيان والدكتاتورية وزمانها المرعب.
أن نمسح لغة التخوين والألفاظ التي لاتليق بأخلاق العراقيين من قواميسنا، وان نلغي تلك اللهجة التي نحط بها من قدر الأخر ونستخف به، وان نتعلم لغة أخرى تليق بالزمن الجديد والعراق الجديد، وان نساهم جميعا في إرساء تلك القيم التي كانت سائدة وعمل صدام على إلغاؤها.
إن نمد ايادينا الى كل اخوتنا ومن نستطيع إن نعيد له تأهيل وضعه وان نلم بعضنا لبعض، وان ننشر قيم التسامح، وان نشرع سوية في تأسيس لبنة العراق الجديد، ونسعى جميعا لأسقاط ماغرسته الدكتاتورية من قيم بائدة وشريرة في نفوسنا.
وأن نجتث الأحقاد والكراهية ونزعات الشر بديلا عن أجتثاث الأفكار مهما كانت والتي تنهيها الممارسة اذا لم تصلح للحياة العراقية أو لاتنسجم مع تطلعات العراقيين.
أن نبدل الطائفية بالديانات الانسانية الجميلة، وقيم تلك الديانات التي تدعو للمحبة، وأن نبدل التعصب القومي والديني في الأنتماء للعراق والأنسان، وان نلغي من قواميسنا حق الغاء الأخر واقصائه وأعدامه دون ذنب أو قرينة، وان نتحلى بقيم الرجال التي تحلى بها اباؤنا وأجدادنا،