كتَّاب إيلاف

في مديح الخالة السويدية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من تسنى له، مشكوراً، قراءة مقالي "أدب البيوت"، ربما يذكرُ أنّ إشكالاً، مفترضاً، كان قد تربّصَ بعنوانه. ولكيَ لا يتكرر الأمرُ هنا، مع هذا المقال، أبادرُ على الفور إلى تأكيد حقيقة بديهية: ما دامت سورية هيَ "وطني الأم"، فالسويد بهذه الحالة هي بمثابة "خالتي"! وزوجة الأب، ليست ظالمة دائماً، أليس كذلك ؟ وعلى كل حال، فإنني إقتبستُ هذا العنوان من رواية بالإسم ذاته، لماريو بارغاس يوغا؛ الروائي البيروفي، الرائع. وروايته " في مديح الخالة "، لا شأن لها طبعاً بالسويد؛ اللهمّ إلا من ناحية واحدة ـ بحسب ذمتي، الواسعة: فكل أديب، كائناً من كان، حينما يشرع في إعداد رواية جديدة، فإنه يتساءل في سرّه ما إذا كانت المسكينة ستفوزُ برضى عباقرة الأكاديمية، السويدية! وكاتبنا، بارغاس، هوَ علاوة على ذلك من المرشحين، المزمنين، لجائزة نوبل. أما كاتب هذه الأسطر، المنكوشة الشعر، فإنه في موطن الجائزة، نفسها؛ مواطنٌ يحمل جنسية السويد وباسبورتها، ولا يحلمُ على مدار الساعة سوى بإنجلاء كابوسه، المقيم: أن يحظى بسعادة ليلة واحدة حسب، تضمه وولديْه الصغيريْن في غرفتهما؛ في بيتي بالذات، الذي حرما منه لأكثر من عاميْن. سفر جيراني خارجاً، في إجازات قصيرة، كانت هيَ المرات النادرة، المحظوظة، التي سعدتُ فيها بضمّ طفليّ هذين، دونما قلق. وتشديدي على المفردة الأخيرة، مبعثه حقيقة أنه في الحالات الاخرى، المغامرة، كان عليّ قضاء كل ليلة معهما، دونما ان تغمض عينايَ لساعة واحدة؛ وأن أستقبل خلالها رجال البوليس وشركة السكن، دفعة تلوَ الاخرى.

السويد، فردوس الله في أرضه. لا ريبَ في ذلك ولا مظنة. إنها جنة للأطفال، بشكل خاص. بكاء طفل، يزلزل بلدنا الأوروبيّ، الأكثرَ تحضراً، أكثرَ مما يفعله "تسونامي"، الآسيويّ. ولن أنسى ما حييتُ، تلك الليلة قبل أكثر من عشر سنوات، حينما أفاق إبني البكر وكان رضيعاً وقتها، لشأن من شؤونه، الخاصة جداً. ألا تقول أنّ بكاءه لهنيهة هيّنة، قد أزعجَ جيراننا، السويديين. دُهشتْ أمه، حينما أفاقت مجدداً وعلى رنين الهاتف، هذه المرة. كانت دورية الشرطة، على الطرف الآخر من الخط. وقد طمأنتهم هيَ بأنّ طفلنا " عملها "، وأنّ كل شيء الآن على ما يرام. وهم بدورهم إعتذروا بكل أدب على الإزعاج. هذا كان قبل عقد من الأعوام. بيدَ أنّ الوضع إختلفَ، جذرياً، إثرَ " غزوة نيويورك "، المباركة: فلم نعد نحظى بأدب أحد من أهل البلد، بوليساً كان أم مواطناً عادياً. وحتى " الأدب "، بمعناه الإبداعيّ، أضحى عبثا هنا، في بلد " نوبل " الآداب! صرنا بنظر أهل البلد، بالمفرد والجملة، جنوداً في جيش إبن لادن ـ كإرهابيين وذابحي نعاج بشرية، بإسم الله: ما عادَ يشفع للواحد منا علمانيته ولا ليبراليته؛ فكل ذلك، عند الأوربيين، هوَ مجرد إخباتٍ وتدليس. فوسائل إعلامهم كانت تركز على حقيقة، أنّ أفراد خلية " هامبورغ " كانوا قد دأبوا، قبيل غزوتهم، على الإخلاد لمواخير المدينة، بإعتبار أنّ نساء الغرب، الكافر، ما هنّ إلا سبايا وغنائم للمؤمنين. وأذكر من ناحيتي، أنه في شركة الميديا، الخاصة، التي عملت فيها على مدى أربعة أعوام، فقد كانت علاقتي مع زملائي، السويديين، على ما يرام. إنما تغيّر كل شيء، بعد أحداث 11 سبتمبر، وراحت الأعينُ الزرقاء اللون، ترمشني طوال الوقت بنظرات متوجسة، مرتابة: " بماذا يفكر، هذا الرجل الغامض ؟ ولمَ بصره، الأسود، لا يفارق رقابنا!؟ ".

السويد، فردوس إذاً. إنه كذلك فعلاً، ولكن لأصحابه وليسَ لنا. كنا وسنبقى، أبداً، مواطنين من الدرجة الدنيا. في مبتدأ حلولي هنا، كان أول ما تسلمته من مدرسة اللغة السويدية، عبارة عن كتاب بالعربية، يشرح فيها طبيعة الحياة في هذا البلد ثقافة ومجتمعاً وعاداتٍ وسياسة وقوانيناً. كما أنّ الكتاب إحتوى بعض النصائح للأجانب، لكي يندمجوا ويتمثلوا في المجتمع. أهم تلك النصائح، أنّ عليك أن تكون بشوشاً دوماً والإبتسامة لا تفارق ثغركَ؛ خصوصاً إذا ما صادفتَ جاركَ، السويديّ، أمام مصعد العمارة، أو ـ بلا مؤاخذة ـ في حجرة القمامة. إبتسمْ يا هذا.. فيبتسمُ لكَ جيرانكَ، وكذلك أساتذتكَ في المدرسة ومسؤولو أوراق إقامتك في البوليس وإدارة الهجرة وأرباب عملك لاحقاً وو. المحظوظون، من الأجانب، المتسلقون مراتب الوظيفة والوجاهة، كانوا بالضرورة من ذوي الوجوه البشوشة. الأحزاب السويدية، يميناً ويساراً ووسطاً، تحتاج أصواتنا في الحقيقة ـ وليس إبتساماتنا؛ نحن الذين نتكاثر كالسمك، في شبه الجزيرة الإسكندينافية هذه. ولا بأسَ بعد ذلك بهذه النائبة في البرلمان، من أصل كرديّ، أو ذلكَ الوزير في الحكومة، من منشأ تركيّ. إكسسوارات، يعني! إبتسم دوماً، ومهما يكن مزاجكَ. أما إذا كنتَ ـ لا قدّرَ الله ـ مثل كاتب هذه السطور، المتجهّمة، لا يضحكُ وجهه للرغيف بائتاً كان أم طازجاً؛ فالويل لكَ ثمّ الويل في بلد البسمة الخالدة، هذا: فلن يشفع لكَ عندهم أيّ إعتبار، وكل شيء سيكون لديهم سواء. وبدلاً من أن يتبسموا لك، فإنهم سيهزؤون بك حدّ القهقهة. كما جرى معي، حينما صارَ عليّ أن أستقبل، دفعة وراء الاخرى، موظفي شركة السكن ومن ثمّ البوليس والتحقيق، بسبب مشاكلي المؤبدة مع الجيران المزعجين: " مفهوم، مفهوم.. إنكَ كاتبٌ، ورسام فضلاً عن ذلك ؟.. هاهاها! وهوايتك الوحيدة، هيَ زرع الزهور في حديقة المنزل ؟.. هاهاها! ".

ربّ متسائل، أصابه ما أصابكم من ضجر وقنوط، سينفجرُ بيَ: " ولمَ يا أخَ العرب ضننتَ على بني الأوادم أولئك، ببسمة شاردة.. كيما تخلص وتخلصنا!؟ ". ربما سأثير غضبكم مجدداً، إذا ما حلفتُ بأغلظ الإيمان أنّ الموضوع لا علاقة له ببسمة أو وحمة. نعم، ولديّ أكثر من دليل على ما أذهب إليه. إلا أنني سأكتفي بواقعة واحدة حسب، حصلت مؤخراً. فإبنة أختي، التي حضرت مرة من " ستوكهولم " لزيارتنا أين نقيم نحن في " أوبسالا "، كان لي معها دردشة طويلة حول أوضاع الأجانب هنا، وخصوصاً الجاليات الإسلامية. كنتُ قد طلبتُ مساعدتها بشأن معاناتي مع الجهات الرسمية، وغير الرسمية، على خلفية قضيتي، الموصوفة آنفاً. وإذا بها تكاد أن تجهش بالبكاء، حينما راحت بتنهدة إثر أختها تروي لي معاناتها الشخصية مع زميلاتها ـ أو بالأصح، رفيقاتها ـ في مقر البرلمان السويديّ. إنها متفرغة للعمل هناك، بصفتها ككادر متقدم في الحزب المحافظ، الحاكم. في كل مرة، لما يتعيّن عليها مخاطبة إحدى هاته الرفيقات، السويديات، فلا بدّ أن تنقلب هذه الأخيرة إلى شبيهة فيفي عبده المسلسلات المصرية؛ فتتصنع موقفَ المصدوم؛ مجّحظة عينيها، مرجّفة أرنبة أنفها، مهدّلة أذنيها، مرخية يديها، مغمغمة بإرتياع مصفرّ: " أوه، أوه! لماذا تثورين عليّ هذه الثورة، كأنني عدوّة لك!؟ ". إبنة شقيقتي هذه، إسمها " شيرين "، بالمناسبة ( أيْ: حلوة، بالكردية ). وهيّ فتاة جميلة فعلاً، وفضلاً عن ذلك تمتلك خفة ظل وموهبة في الدعابة وتقليد الآخرين، بحيث أنها في صغرها كانت أشبه بـ " الكوميديان ". كانت في أشهر الرضاعة، حينما إنضمت إلى متاع هجرة أبويْها: فهيَ والحالة تلك، متأصلة في المواطنة السويدية، لهجة ومسلكاً وهنداماً وعقلية. ومع هذا، ألا تقول أنها ـ كخالها، محسوبكم المغضوب! ـ تحتاج أيضاً لشهادة حسن سلوك في الإبتسام والبشاشة.

Dilor7@hotmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف