العفيف الاخضر: مسلم أوروبي مصلح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة : الناصر بن رجب
قدم البروفيسور مناحم ميلسون في 10/12/2006 بمناسبة المؤتمر الدولي حول الإسلام في أوروبا؛ المنعقد في الجامعة العبرية بالقدس، محاضرة عن وجهات نظر المفكر المصلح العفيف الأخضر حول مسألة الاندماج، المعارضة للرؤية الطائفية الأثنية التي يتبناها البعض من مسلمي أوروبا. وفيما يلي نص محاضرة البروفيسور مناحم ميلسون.
مدخل : سيرة قصيرة
العفيف الأخضر هو مثقف تونسي يعيش في باريس. إنه أحد كبار المثقفين العرب المصلحين في الحقبة الراهنة. فصوله تظهر بانتظام في الجريدة الالكترونية "إيلاف"، قبل أن تتناقلها عشرات المواقع الأخرى ذات الاتجاه الإصلاحي. نقده ضد الإسلاموية والإرهاب الإسلامي واضح ولا تساهل فيه.
نشرت "إيلاف" بيانا وقعه مثقفون عرب من بينهم العفيف الأخضر، بشكل عريضة موجهة إلى الأمم المتحدة تطالبها بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة الأشخاص والمؤسسات المحرّْضة على الإرهاب.
خصوصية هذه العريضة هي أن كتابها لم يكتفوا بالحديث عن الإرهاب والإرهابيين بعبارات عامة، بل أنهم أعطوا أسماء بعض رجال الدين الإسلاميين، المتهمين بالتحريض على الإرهاب، ممن تجب ملاحقتهم في إطار هذه المحكمة. من بين هؤلاء الأخرين يوجد الوجه البارز والنجم الإعلامي الشيخ يوسف القرضاوي أحد أعيان رجال الإخوان المسلمين.
لم يكن مفاجئا إذن أن تصف الحركة الإسلامية التونسية الممنوعة "النهضة" التي يقودها الشيخ راشد الغنوشي، العفيف الأخضر بالرّدة، ممّا فهمه عدد من الإسلاميين دعوة للقتل.
ولد العفيف الأخضر سنة 1934 في عائلة ريفية فقيرة في الشمال الغربي لتونس. بين أطفال أسرته التسعة، سبعة ماتوا في طفولتهم لم ينج منهم إلا إثنان : هو نفسه وأحد إخوته (...) تعلم القرآن في قريته. وفيما بعد التحق بالجامعة الزيتونية الدينية، حيث الدراسة المجانية ومنحته منحة صغيرة وسكنا. ثم درس الحقوق ومارس المحاماة لعدة سنوات.
وفي عام 1958 كان محاميا لأحد المعارضين التونسيين الذي حاول اغتيال بورقيبة، وقد أدين وأعدم. اثر ذلك حدّد البوليس إقامته. وفي عام 1961 هاجر من تونس إلى باريس حيث التحق بجبهة التحرير الجزائرية. وبعد ثلاثة شهور ذهب إلى الجزائر المستقلة ليصبح أحد المقربين من الرئيس بن بلّه وفي 1965 فرّ من الجزائر وقضى سنوات عديدة تائها بين أوروبا والشرق الأوسط. وفي ختام سنوات 1960 كان العفيف الأخضر يوجد بالأردن في علاقات مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفي سنة 1970 ذهب إلى بيروت حيث أصبح وجها بارزا في أوساط اليسار ويطيب له أن يقول أن الجوع هو الذي جعل منه اشتراكيا. إلا أن الحرب الأهلية اللبنانية أحدثت خلافا بينه وبين رفاقه من اليسار لم يستطع الأخضر أن يقبل أن يراهم يساندون القوى التي كانت تهدد الديموقراطية الوحيدة في العالم العربي : لبنان. عندئذ عاد إلى أوروبا ثم إلى باريس حيث يوجد حتى الآن.
ظهرت في سنة 2005 دراسة على العفيف الأخضر نشرت في بيروت وعمّان تحت عنوان : "محامي الشيطان" (دراسة في فكر العفيف الأخضر). مؤلف الكتاب، د شاكر النابلسي، المفكر السياسي الأمريكاني الأردني، يقول بأنّه استعار عنوان كتابه من أحد مقالات الأخضر التي يعرّف فيها نفسه كمحامي للشيطان، أي أنه ليس فقط مستعدّا لنقد الحسّ العام، بل على استعداد أيضا، في بحثه الدائم عن الحقيقة، لنقد قناعته الخاصة.
التربية العربية الإسلامية تحوّل المسالم إلى عدواني والعدواني إلى إرهابي
تنطلق رؤية العفيف الأخضر للإسلام ومسلمي أوروبا من رؤياه الشاملة للعلاقة بين الدين والدولة من ناحية، ومن قناعته بضرورة إصلاح الإسلام من ناحية أخرى. وهذا ما تلخصه مداخلته التي قرئت بالنيابة عنه في المؤتمر الذي عقدته مؤسسة تحديث الفكر العربي في بيروت من 30 أبريل إلى 2 مايو 2004، ركزت المداخلة على ضرورة إصلاح التعليم في العالم العربي، والتعليم الديني على وجه الخصوص، وفي كل المراحل.
التركيز على إصلاح التعليم هو في الواقع محور هام عند العفيف الأخضر. محاكاة لمقولة جان بياجيه الشهيرة : "تحوّل المدرسة الفرنسية العبقري إلى موهوب، والموهوب إلى ضعيف"، قال العفيف الأخضر : "تحول المدرسة العربية الإسلامية المسالم إلى عدواني، والعدواني إلى إرهابي".
يرى الأخضر أن السبب الرئيسي وراء اعتماد النخبة العربية الإسلامية هذا الضرب من التربية الدينية هو بحثها عبثا عن تعويض شرعية الإنجازات الإجتماعية والديموقراطية التي افتقدتها، بتربيّة دينية قديمة ولاعقلانية.
العلمانية عند الأخضر هي أساس كل مجتمع سليم. إنها شرط ضروري ولكن غير كاف لهذا المجتمع. وهو يعرّف العلمانية بأنّها الفصل بين الدين والسياسة، ويفرق بين ثلاثة أنواع من الدول في العالم الإسلامي : الدولة الدينية، الدولة العلمانية، الدولة التي هي بصدد الإنتقال للعلمانية. إذا كانت الدولة الدينية، كما يقول، كانت حاضرة في كل مكان في مسيحية القرون الوسطى، لم يبق منها اليوم إلا الفاتيكان. وبالمقابل، فإن الدول الدينية الإسلامية عديدة : منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، العربية السعودية، السودان، وحتى 2002 أفغانستان الطالبانية : معظم الدول الإسلامية الأخرى هي بصدد الانتقال إلى العلمانية.
يعرّف الأخضر الدولة الإنتقالية من الدينية إلى العلمانية، بأنها دولة، رغم أنها في الواقع تطبق بعض الممارسات العلمانية غير أن دستورها مازال ينصّ على أن الشريعة هي المصدر الأول للتّشريع. في هذه الدولة الإنتقالية، يعامل النساء وغير المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية وأحيانا من الدرجة الصفر من المواطنة.
وهكذا فإن المرأة ليس لها الحق في الترشح إلى الإمامة العظمى "رئاسة الدولة" ولا حتى إلى أي وزارة من وزارات السيادة. السبب في ذلك أن المرأة مازالت في عديد من الدول الإسلامية معتبرة كقاصرة مدى الحياة و "ناقصة عقل ودين" كما يقول حديث. أما المواطنون غير المسلمين فمازالوا في هذه الدول في الواقع يعاملون كأهل ذمّة.
مثل باقي البشرية المسلمون محكوم عليهم بالحداثة والعلمانية.
يعتقد الأخضر أنه ليس بإمكان البلدان العربية الإسلامية عدم تبنّي العلمانية إلى ما لانهاية. التاريخ يتجه إلى العلمانية. وهذه الأخيرة تميز اليوم الحداثة السياسية.
مثل باقي البشرية المسلمون محكوم عليهم بالحداثة والعلمانية.
الفصل، بين المقدس والدنيوي، كما يقول الأخضر، هو نتيجة للحداثة. وكلما رجعنا القهقرى في التاريخ، فإننا نجد حالات الفصل بينهما نادرة، لأن القاعدة هي أن المقدس والدنيوي متداخلان، خاصة لدى القبائل البدائية.
الرق النفسي عند الإسلاميين لأسلافهم (النبي، الصحابة والتابعين) يشل عقولهم مثلما تشلّ عبادة الأسلاف عقول القبائل البدائية.
العقل الإلهي الموروث من الأسلاف هو كل شيء، أما العقل البشري فهي لا شيء كما يقول الأخضر. لقد فشلت العلمانية حتى الآن، كما يقول، في شق طريقها إلى العالم العربي وذلك جوهريّا لأن الإسلام لم يعرف بعد الإصلاح الديني الضروري عكسا لليهودية والمسيحية في أوروبا الغربية. فقط الدين الذي خضع للإصلاح هو الدين العصري المؤهل لقبول الفصل بين الدين والدولة وحصر نفسه في المجال الروحي، تاركا للدولة حصرا وظيفة تدبير المجال الدنيوي. يشكل جبن النخب السياسية، كما يقول الأخضر، السبب الثاني لفشل العلمانية في العالم العربي. رغم أن الإسلام لم يخضع للإصلاح في تركيا فإن المسلم كمال أتاترك ألغى الخلافة، وعلى أنقاضها شيّد دولة معتزة بهويتها العلمانية.
يركز الأخضر على دور كمال أتاترك الذي أخرج بلاده من القرون الوسطى لإدخالها بقدم راسخة في الحداثة. وبعبارة أخرى يريد أن يقول بأن البلدان العربية كانت ستكون أفضل حالا لو كان لقادتها الشجاعة السياسية لإقامة أنظمة علمانية على غرار كمال أتاترك، ونلاحظ هنا الدور المزدوج للأخضر، فهو من جهة ملاحظ واسع الإطلاع بتاريخ البشرية حيث يعاين بأن المجتمعات الإنسانية تتجه حتما إلى العلمانية، ومن جهة أخرى هو مصلح شغوف ومستعجل لكي يشهد في حياته ظهور العلمانية في المجتمعات الإسلامية. ولذلك فهو ينتقد بشدة القادة العرب الذين لم يسلكوا بعد طريق التقدم.
العلمانية لا تعادي الدين
يفنّد الأخضر رؤى من يتهم العلمانية بأنها تعادي الدين. ويصف من يتهمون العلمانية بأنها ضد الدين بأنهم يفعلون ذلك عن جهل أو مكر كما يفعل معظم الإسلاميين. فرنسا العلمانية مثلا لا تمنع بناء المساجد على أرضها، بل أنها بنت عام 1921 جامع باريس الكبير تكريما لذكرى المسلمين الشمال إفريقيين من ضحايا الحرب العالمية الأولى، بينما إيران الإسلامية تمنع مواطنيها السنة من بناء مساجد خاصة بهم في طهران. وبالمثل فإنه يؤكد بأن لا شيء يمنع الدولة العلمانية من تدريس التعليم الديني، شرط أن يكون هذا التعليم خضع لعملية إصلاح. لكي يكون في الإمكان تحديث وإصلاح المناهج الدينية يجب على الطالب أن يدرس الدين على ضوء العلوم الحديثة : تاريخ الأديان المقارن، وسوسيولوجيا الأديان، وعلم النفس، والأنتروبولوجيا الدينية، والألسنية وعلم التأويل والفلسفة، وذلك لتنمية الفكر النقدي لدى الأجيال الصاعدة كما يقول الأخضر. في تونس، يوضح الأخضر، الطلبة يدرسون في الجامعة الزيتونية الفلسفة الإسلامية والحديثة خلال السنوات الأربعة. ولا شيء كالفلسفة والعلوم الإنسانية لتحصين الأجيال الشابة ضد الدعاية الدينية السياسية الإسلاموية. التعليم الديني الحديث والذي تم إصلاحه ليس فقط مرغوبا بالنسبة للدولة العلمانية في العالم العربي الإسلامي بل هو ضرورة كما يقول.
مثل هذا التعليم يشكل، بالنسبة له، ترياقا ضد التطرف الديني والإرهاب،
يشير العفيف الأخضر إلى أن العلمانية لن تكون في قطيعة مع الإسلام، لكن ستكون بالتأكيد في قطيعة مع الإستبداد والحكومة الدينية في العالم الإسلامي. وهي تسمح أيضا بربط العلاقة من جديد مع قراءات أخرى للإسلام، مثل قراءة علم الكلام العقلاني الإعتزالي الذي أخضع النصوص المقدسة للتأويل الإنساني، أو مثل القراءة التأويلية الصوفية.
الأخضر علماني مقتنع، لا ينكر أن للدين دورا في الحياة الحديثة شرط أن يكون دينا فرديّا، محصورا في الدائرة الخاصة ويعترف بأنه معجب بالتجربة الصوفية وخاصة بتجربة القطب الأكبر محيي الدين بن عربي. وهكذا فالأخضر يذكرني بحامل جائزة نوبل للآداب نجيب محفوظ (الذي كان هو الآخر معجبا بإبن عربي).
على مسلمي أوروبا الإندماج في المجتمعات الأوروبية وتبني القيم الثقافية الحديثة
في مقابلة أخيرة لخّص العفيف الأخضر موقفه إزاء المشكلة الصعبة، الإندماج أو التقوقع الطائفي، التي تواجه أوروبا ومسلمي أوروبا. وقد قال يوجد اتجاهان متعارضان في الإسلام الأوروبي. الأول ثقافوي، يشدد على الإستقلال الثقافي للمسلمين، يدعو إلى الإبتعاد عن الإندماج في المجتمعات الأوروبية وإلى المحافظة على جميع التقاليد الإسلامية بما فيها تلك التي تناقض القيم الكونية السائدة في المجتمعات المعاصرة، الأوروبية خاصة. الإتجاه الآخر الذي ينتمي إليه الأخضر يحبذ، بالعكس من ذلك، اندماج مسلمي أوروبا الثقافي في المجتمعات الأوروبية وتبنيهم للقيم الثقافية الكونية لكي يحدّثوا قيمهم التقليدية، التي هي في معظمها ليست متكيفة مع عصرنا. هذا الإندماج الثقافي الضروري لا يعني قط تخلي المسلمين عن قيمهم الروحية كما قال، بل يعني فقط عن عاداتهم وتقاليدهم المتناقضة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومع الإتفاقات الدولية ذات الصلة به.
يعتبر الأخضر بأن الإتجاه الأول الذي يمكن تسميته بالإتجاه "الطائفي" له الأغلبية بين مسلمي فرنسا وأوروبا. أنصاره يرفضون حتى الحديث عنه "المسلمين الأوروبيين" مفضلين عبارة "المسلمين في أوروبا" وذلك للإشارة إلى تعارض الهويتين الثقافيتين الأوروبية والإسلامية، في حين أن الأخضر يتحدث عن الإسلام الأوروبي عن طواعية وإختيار.
يعزو الأخضر التأثير القوي للإسلاميين على مسلمي أوروبا إلى تواطئ وسائل الإعلام معهم، لا فقط العربية بل أيضا الفرنسية والأوروبية التي تحابي أنصار الرؤية الطائفية مثل طارق رمضان متجاهلة تماما تقريبا المثقفين العرب والمسلمين العديدين المناصرين للإندماج الثقافي مثل طاهر بن جلون، محمد أركون، فتحي بن سلامة، مالك شبيل والعفيف الأخضر نفسه وكثيرين آخرين. تدفق البترودولارات يعطي وزنا لأعداء الإندماج لأنه يمكنهم من إنشاء وسائل إعلامهم الخاصة بهم، ومن نشر ترجمات الفقهاء الظلاميين إلى اللغات الأوروبية مثل يوسف القرضاوي والشهير ابن تيمية، وارسال الدعاة الإسلاميين إلى جميع الضواحي الحساسة التي بها سكان مسلمون كثيرون. كما يرى الأخضر أن هناك عاملا آخر يلعب لصالح الإتجاه الإسلامي الطائفي، هو موقف بعض المثقفين الليبراليين الغربيين.
يفسر الأخضر القاعدة الفقهية للمسعى الطائفي بمذهب الولاء والبراء (الولاء حصرا للمؤمنين والقطيعة الشاملة مع الكفار). هذا المذهب الذي يتبناه الإسلاميون يقول بأن على المسلمين ألاّ يتحالفوا إلا مع المسلمين أمثالهم، ولا يوالون إلا المؤمنين الحقيقيين، كما أن عليهم أن يظهروا عداءهم وغضبهم لجميع من هم غير مسلمين، اليهود والمسحيين خاصة. ارتداء الحجاب، الذي يتمسك به الإسلاميون أيما تمسك، هو واحدة من ترجمات الولاء والبراء : يقول الشيخ يوسف القرضاوي : "هذا الزي ينبغي ألا يماثل أزياء الكفار، اليهود والنصارى والمشركين. فمجرد النية بتقليد نسائهم حرام في الإسلام الذي يطلب من المسلمين الإختلاف عن الآخرين في الجوهر والشكل. ولهذا أمر بحمل عكس ما يحمله الكفار". (المرجع، عادل جندي، الحرية في الأسر، دار ميريت، القاهرة). أما الأخضر فيعتبر الحجاب سواء في أوروبا أو في البلاد الإسلامية ترجمة واضحة للإسترقاق، والدونية واحتقار المرأة. وهو موقف لا مفر من تغييره لتسهيل اندماج مسلمي أوروبا الثقافي، وأيضا للسماح للمجتمعات المسلمة بالتقدم. وعلى هذا الأساس يرفض الأخضر النقد الموجه إلى الحكومة الفرنسية - بخصوص قانون منع ارتداء الحجاب في المدارس - ملاحظا أن منتقدي السياسة الفرنسية بهذا الخصوص يتصرفون كما لو أن الحكومة الفرنسية قد منعت كلية ارتداء الحجاب. وهذا بالتأكيد غير صحيح، فالمنع يقتصر على المدرسة فقط. يرى الأخضر أن ارتداء الحجاب في المدارس ضرب من الدعاية الدينية لذلك يجب منعه. وهو في الوقت ذاته استفزاز وقح : الفرنسيون أخرجوا منذ 1905 الكنيسة من مدارسهم، وبعد قرن تريد أقلية من مسلمي فرنسا أن تدخل مسجدها في المدرسة العلمانية للجمهورية ؟
ويتساءل الأخضر عن إثارة هذه المشكلة بهذه العبارات :
"ما الذي حدث حتى يساند بعض المثقفين الأوروبيين والإعلام البريطاني والأمريكي الإتجاه الإسلامي الطائفي ؟" ويقترح الإجابة التالية : التفسير الأول هو الديماغوجيا السياسوية : عندما يكون اليمين في الحكم ويصدر قرارا أو يتخذ موقفا، فإن اليسار أي المعارضة يتبنى تلقائيا الموقف النقيض، فقط لتمييز نفسه عن اليمين. التفسير الثاني الشعور بالذنب (نتيجة الإستعمار الأوروبي) الذي يشل الفكر النقدي لدى عديد المثقفين الأوروبيين ويدفعهم دفعا إلى دعم المطلب الإسلامي بارتداء الحجاب في المدرسة أو حتى دعم ممارسة بعض المسلمين ذبح خروف عيد الإضحى في غرف الإستحمام، أو أيضا اختيار بعض العائلات المسلمة ممارسة ختان البنات. العفيف الأخضر يصف "بالمرضى" هذا المسعى الذي لا مبرر له إلا احساس عصابي بالذنب. التفسير الثالث يراه الأخضر في النسبوية الثقافية، التي هي أشد خطرا من العاملين السابقين، لأنها قادمة من قناعة فلسفية سائدة في أوروبا والعالم الغربي. ماذا تعني النسبوية الثقافية يتساءل الأخضر : "أن جميع الثقافات والقيم متساوية"، جميع الثقافات متشابهة ومتساوية سواء منها الثقافات التي تلغي عقوبة الزنا والثقافات التي ترجم المرأة حتى الموت من أجل الزنا. العقل السليم، كما يقول الأخضر، لا يمكنه إلا أن يقبل باحترام القيم الكونية مثل حقوق الإنسان، بدون هذا الإحترام يغدو كل مجتمع مجتمعا داروينيّا شعاره "البقاء للأقوى"، وقد يعود العالم إلى "حالة الطبيعة" حسب هوبز حيث يسود قانون الغابة.
خلاصة
رؤية العفيف الأخضر للإسلام في أوروبا تضرب بجذورها في القيم الكونية التي يتبناها : قيم الإنسانية، الليبرالية والديموقراطية، التي تتطلب المساواة بين الرجل والمرأة وتأبى التمييز الديني والأثني. ولا يخفي أنه يعتبر المجتمعات الأوروبية أكثر تقدما بكثير في هذا المجال من المجتمعات العربية الإسلامية، ومن هنا يرى أن على العالم الإسلامي أن يستلهم النموذج اللأوروبي. ولذا فهو يحبذ كليا الإندماج الكامل للمسلمين في المجتمع الأوروبي. وفي حوار حديث العهد معه، اقترح مرجعا هاما : فهو ينصح مسلمي أوروبا بتبني المبدأ التلمودي "دينا دلماخوطا دينا" (اتبع شريعة البلد التي أنت فيه) كشعار لأقليات أوروبا الإسلامية وهو مسعى جريء منه. في الشكل والمضمون معا يبدو إذن العفيف الأخضر ممثلا لصوت شجاع وأصيل في الفكر العربي المعاصر. إنه مصلح لا يسعى بأي طريقة إلى تبرير الممارسات والعادات الإسلامية المتناقضة مع قيم حقوق الإنسان الكونية.
(محاضرة قدمت في 10 ديسمبر 2006 في المؤتمر الدولي حول "الإسلام في أوروبا" في الجامعة العبرية بالقدس)
* مناحم ميلسون هو أستاذ الدراسات العربية ومدير ميمري