لكي لا تتكرر حملات الأنفال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
-1-
كما شهد هذا الشهر نيسان/ابريل التهجير والتحرير، تهجير مليون من الكرد في شتات الأرض، وتحرير شعب العراق من ربقة الاضطهاد والطغيان، كذلك شهد ثمانٍ من حملات الأنفال المشؤومة التي لم يُكتب عنها حتى الآن غير النزر اليسير. فهذه الحملات كانت أكبر بكثير من التاريخ الذي سُجِّل عنها حتى الآن. وهذه الحملات تحتاج الى مجموعة كبيرة من المؤرخين والروائيين والسينمائيين والباحثين، لكي نتعرّف على تفاصيل مآسيها، ودقائق كوارثها، لأنها لم تعد مُلكاً للتاريخ الكردي فقط، ولا للتاريخ العربي فقط، ولكنها أصبحت مُلكاً للتاريخ البشري. ومن حق البشرية أن تعرف حق المعرفة، ماذا حصل في عام 1988 فيما أُطلق عليه "حملات الأنفال". والأنفال في اللغة العربية "المقدسة"، هي "غنائم الغزو" كما هو معروف. وقد أطلق عليها الطاغية النافق هذا الإسم، لأنه اعتبر الكُرد أعداءً له وغنائم لعهده. وأن غزوهم، وسلبهم، ونهبهم، وتشريدهم، وقتلهم، بمثابة غنائم غزو، امتدحها الشعراء العرب الكبار جداً ، ونجوم الثقافة العربية المخزية والمُستهانة، وأنشدوا لها في مرابد الشعر التي كانت تقام برعاية وبركات الطاغية النافق.
-2-
والأنفال الصدامية البعثية النازية، لم تكن حملة واحدة فقط، وإنما كانت ثماني حملات خلال عام 1988. بدأت في شهر فبراير/شباط، وانتهت في شهر سبتمبر/ أيلول من العام نفسه؛ أي أنها استمرت ستة أشهر طوال، استعملت فيها السلطات الطاغية كل أنواع الأسلحة التقليدية والكيماوية المحرمة دولياً. واشترك فيها فيلقان من الجيش العراقي، وقوات منتخبة من الحرس الجمهوري، والقوات الخاصة، والمغاوير، وقوات من الجيش الشعبي، وأفواج الدفاع الوطني. بمعنى أن كل ما تملكه تلك السلطة الغاشمة من قوة عسكرية تمَّ استخدامه بقيادة علي الكيماوي (علي حسن المجيد) الذي كان في هيئة شيطان رجيم، لا مثيل له، في هذه الحملات.
بدأت الحملات المشؤومة في 23/2/1988 ، ثم تبعتها حملة ثانية في مارس/آذار، وتبعتها حملة ثالثة في نيسان/ابريل، ثم حملة رابعة في 3 مايو/أيار، وحملة خامسة وسادسة وسابعة في 24 مايو/أيار، واستمرت حتى 26 أغسطس/آب. والحملة الثامنة والأخيرة في 28 أغسطس والتي انتهت في الثالث من سبتمبر/ أيلول. وهي الحملة التي يُطلق عليها "المجزرة الكبرى". وقد راح ضحية هذه الحملات أكثر من 2000 قرية تم مسحها من على وجه الأرض. وقُتل ودُفن أكثر من 180 ألفاً في مقابر جماعية، وتشرد عدد كبير. وتبقى هذه الارقام تقريبية ومتضاربة، وعلى مؤرخي الكُرد حصر وحسم أرقام الضحايا والخسائر، بشكل نهائي وموثّق، حتى لا تبقى لاجتهاد الرواة المختلفين وتخميناتهم.
-3-
في هذه الحملات الثماني، تمَّ حرق الزرع والضرع. وحرق الزرع والضرع هنا ليست عبارة أدبية مجازية فخمة للتشدّق، ولكنها عبارة تستأهل التعبير والتفسير الدقيق والمفصل ايضاً من قبل النخب الكردية وغير الكردية. ففي كردستان العراق تم حرق الاشجار والنباتات والزهور وكل شيء أخضر، وقلب الأرض رأساً على عقب. وتمَّ قتل كل ذي ضرع من الإنس والجن والحيوان والطيور. وتحولت كردستان العراق الى قاعٍ صفصفٍ حقيقي، كالأرض الخراب التي تحدث عنها الشاعر والناقد الانجليزي/الأمريكي ت.إس. إيليوت. واستباح الشيطان والسفاح علي الكيماوي كردستان، كما سبق واستباح يزيد بن معاوية المدينة المنورة لمدة ثلاثة أيام، يفعل فيها جنده ما يشاءون. بل كان يزيد - حسب رواية الطبري - أكثر رحمة بالزرع والضرع من الشيطان علي الكيماوي.
-4-
الغريب في الأمر، أنه رغم هذه البشاعة، وهذه الفظاعة، وكل كلمة في اللغة العربية "المقدسة" تنتهي بـ "عة"، إلا أن البعثيين والصداميين، وكل من اشترك في هذه المجزرة البشرية، لم يهتز له طرف، أو جفن، أو غصن. فلم يصحو ضمير أي منهم يوماً، ويعتذر، أو يستغفر، أو يُعلن الندم، ويطلب المغفرة والرحمة. بل كبيرهم صدام الذي علمهم كيفية أكل اللحم الأحمر النيىء، وشرب الدم (سِكْ) بدون ماء أو ثلج، وقف أمام مجموعة من عناصر حزب البعث النازي، وقال- في شريط عرضته فضائية "العربية" بالصوت والصورة - : "أنني على استعداد لقتل عشرات الآلاف من المواطنين، دون أن تهتز لي شعرة واحدة في جسمي". ولم يكن الجلاد بحاجة الى هذا التصريح. فالسيّاف مسرور الجلاد المشهور في التاريخ العربي ، قبل أن يصبح سيّافاً، قطع قلبه ورماه للكلاب، حتى لا يحزن على قطع الرقاب يوماً. وهكذا فعل صدام، وكل من اشترك في حرب الابادة الجماعية في 1988 وفي 1991، ضد الكُرد، وضد الشيعة، وضد السُنَّة من المعارضين في داخل العراق وخارجه.
-5-
المهم الآن، ماذا نفعل لكي لا تتكرر مأساة مجازر 1988، و 1991؟
لن يكون صدام حسين آخر طاغية يظهر في العالم العربي. فالعالم العربي الآن، وفي الماضي كان وما زال حتى الآن، من أكثر مناطق العالم تهيئةً واستعداداً لظهور الطغاة. والدليل على ذلك هذه القائمة الطويلة من الطغاة الذين مروا بمراحل التاريخ العربي منذ 14 قرناً، وتركوا بصماتهم "المباركة"، بحيث نُتْبع ذكر اسمائهم بعبارة المباركة "رضي الله عنهم". فالتربة العربية "المباركة"، من أكثر أنواع التربة خصوبة وصلاحية لزراعة الديكتاتورية والطغيان. والشعب العربي، من أكثر شعوب الأرض عشقاً، وترحيباً، وتعلقاً، وتلذذاً، وتنعماً، بحكم الطغاة. ومَنْ كان مِنَ الحكام عادلاً ورحيماً ورؤوفاً - وهم ندرة - أُطلق عليه لقباً انثوياً استهزاءً وسخرية منه، كما فعل أهل الشام في العهد العثماني مع الوالي أسعد باشا العظم، الذي كان يُطلق عليه "سعدية" لحنانه ولينه ورأفته وعدله. وقد ترجم العرب هذا العشق حتى الموت في حب الطاغية حديثاً، فيما أظهروه من مشاعر الحزن والوفاء والاخلاص لآخر طاغية نفق من طغاتنا، بحيث أصبح حبل مشنقته ربطة عنق (بابيون سهرة) لحفلات الآخرة، وأصبح الجزار "سيد الشهداء"، ولحق بالأكرمين من آل البيت، وغداً سوف نُلحق ذكر اسمه أيضاً بالعبارة المقدسة : "رضي الله عنه" !
وهناك طغاة ما زالوا يحكمون، وحزب البعث ما زال هناك ينتظر، وحركة الاخوان المسلمين، وحزب الله، وحركة حماس، والقاعدة، ما زالوا هناك ينتظرون لاقامة الخلافة الديكتاتورية الدينية. فالديكتاتوريات العاتية القائمة الآن غير كافية، ولا شافية، ولا تردَّ العافية. وبذور الطغيان ما زالت مزروعة بكثرة في الأرض العربية، تنتظر رعود الانقلابات العسكرية، وبروق الأحزاب الدينية والأمطار القومية، لكي تنبت وتزهر، وتقفز هذه الديكتاتوريات باسم الدين الحنيف والعروبة الخالدة، وتجلس على الكراسي، وتقبض على المراسي، حيث ستهتف لها ملايين الحناجر بالروح الشريرة، وبالدم النجس.
ماذا نفعل لكي نحول دون تكرار ظهور الطغاة مرة أخرى، ودون تكرار حدوث مجازر أخرى في كردستان والجنوب العراقي، وفي كل بقعة من العالم العربي؟
سؤال في منتهي السهولة.
ولكن الاجابة عليه أكثر سهولة، لو ملكنا الإرادة القوية.
فكلنا يتحدث عنها، ويعلك ويتشدق بها، ولكن لا يملكها.
السلام عليكم.