وسيط ضروري بين الإسلام والديمقراطية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نظرية السياسة عند المعتزلة ..
من البين أن الانتصار إلى روح الاعتزال اليوم هو بحد ذاته نبذ لروح الفرقة والتشرذم في حضارة اقرأ وتعالي عن الانقسام بين السنة والشيعة وابتعاد عن التقليد والتعصب واعتصام بالعقل والمصلحة وأخذ بعين الاعتبار للواقع والتجربة التاريخية للملة للانطلاق نحو التجديد والاجتهاد التأويلي ومن الجلي أيضا أن استعادة كنوز هذا التراث العقلاني الحر هو توطين لجهة السؤال ومغادرة لكهف الجواب من أجل بناء التنوير الأصيل المقصود وتأويل القرآن تأويلا يوائم روح العصر. ولعل التنبه إلى اجتهادات شيوخ أهل التوحيد والعدل في مجال السياسة والإمامة هو خير ما يمكن أن يبدأ به الفكر الحاذق ويقتنصه من هذا التراث خاصة إذا ما كان ديدنه هو الارتكاز على نصوص شرعية ترفض الثيوقراطية المستندة على الحق الإلهي وتتوجه نحو السياسة الاستخلافية المستندة على الحق الإنساني. بيد أن القول بوجود شورى اجماعية في فكر المعتزلة تمثل الإرهاصات العربية الإسلامية لفكرة الديمقراطية قد يكون قولا مغالطا يفتقد إلى أسانيد وحجج حقيقية وقد يجعل البعض يتساءل:أليست الديمقراطية فكرة يونانية وقع استعادتها وتحريكها على مسطح حداثي من طرف الغرب؟ وأليس العرب والمسلمون لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الفكرة بل رفضوها رفضا كليا بدعوى الحاكمية لله والعمل على تطبيق الشريعة وإقامة دولة الخلافة؟ هل يوجد بالفعل تناقض صارخ وجوهري بين الإسلام في حد ذاته والقيم الديمقراطية الأصيلة؟ لماذا تعثرت التجارب الديمقراطية في الدول التي تنتمي إلى حضارة اقرأ ونجحت في دول ليس لها أي تراث ديني؟ هل يفسر ذلك التعثر باحتماء الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني؟ ألا ينبغي أن نبني ديمقراطيتنا المنشودة من خلال القيام بعلمنة جذرية للإسلام مثلما نشأت الديمقراطية الغربية عبر الفصل بين الكنيسة والحياة السياسية؟لكن إلى أي مدى نستطيع أن نفصل الإسلام كدين في معظمه معاملات عن حياة الأفراد الذين يعتقدونه ومن دائرة الشؤون التي يتدبرونها بعقولهم ؟
ما ينبغي تفاديه هو الإسلام الشمولي الذي مورس تاريخيا وجعل الشدائد والأحكام والتعسير تطغي على الرخص والتخفيف والتيسير وما ينبغي السعي إليه هو الإسلام العقلاني الذي ينشد الحرية والعدل لبني البشر قاطبة عبر الكلمة الطيبة والعمل الصالح. فكيف ساهم أئمة الاعتزال في بلورة هذا الفهم المستنير للإسلام منذ الفترة التأسيسية الأولى؟
المعتزلة هم الذين أسسوا علم الكلام و"هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة.وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد." [1] ويستند هذا العلم على مجموعة من الأدلة:"أولها:دلالة العقل،لأن به يميز بين الحسن والقبيح ولأن به يعرف أن الكتاب حجة وكذلك السنة والإجماع وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر وليس الأمر كذلك لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل ولأن به يعرف أن الكتاب حجة وكذلك السنة والإجماع،فهو الأصل في هذا الباب وان كنا نقول:إن الكتاب هو الأصل من حيث أن فيه التنبيه على ما في العقول كما أن فيه الأدلة على الأحكام وبالعقل يميز بين أحكام الأفعال وبين أحكام الفاعلين ولولاه لما عرفنا من يؤاخذ بما يتركه أو بما يأتيه ومن يحمد ومن يذم ولذلك تزول المؤاخذة عمن لا عقل له" [2]
ومن المعلوم أن الاعتزال يقوم على أصول خمسة:
- التوحيد:وهي القول بأن صفات الباري هي عين ذاته تنزيها له من كل تشبيه أو تجسيم.
- العدل:إن كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي والإنسان هو مسؤول عن أفعاله أما الله فمنزه عن إرادة الشر بالعباد بل لا يفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة لهم.
- الوعد والوعيد:العدل الإلهي يقتضي أن يجازي كل إنسان بعمله فأهل الخير يجازون بالجنة وأهل الشر يجازون بالنار.
- المنزلة بين المنزلتين: مرتكب الكبيرة لا يسمى كافرا ولا مؤمنا بل هو فاسق وحكمه على درجة قريبة من المنافق.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هما واجبان على المسلمين يكونان باللسان أولا أي بالقول اللين فإن لم يفد فبالقول الخشن وباليد ثانيا أي بالضرب فإن لم ينفع ذلك فبالسيف إلى أن يقع ترك المنكر.
وقد رد المعتزلة على عقيدة الجبر واعتبروها تبريرا للاستبداد استعملها معاوية ابن أبي سفيان للقضاء على كل من يناوئه في الحكم،فكان أول من أعلن تبنيه عقيدة الجبر ليوهم الناس أن حكمه مقدر من الله وبمشيئته ومن عانده في خلافته فكأنه غير راض بحكم الله وبالتالي فقد كفر ويجوز معاقبته في الدنيا والآخرة ويحكى عنه أنه قال:"لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه ولو كره الله تعالى ما نحن فيه لغيره". وجهم ابن صفوان هو القائل بالجبر في أفعال العباد عندما صرح:"الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة واختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات كما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وطلعت الشمس إلى غير ذلك والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا" [3]
ولما اتفق كبار المعتزلة أن العبد قادر على خلق أفعاله خيرها وشرها وأن الله لا يفعل إلا الصلاح والخير للعباد سقط الأساس الذي يقوم عليه الظلم والجور وتنزه الله عن أن يضاف إليه الشر لأنه لو خلق الظلم في العباد كان ظالما ولجاز أن أراد من العباد على خلاف ما أمر. كما رد المعتزلة على المرجئة وهي جماعة تقول بالتأخير أي يؤخرون العمل عن النية والقصد ويقولون:لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر ويعتقدون أن الإيمان معرفة بالله ومحبة بالقلب، فقد رأى عبيد المكتئب أن ما دون الشرك مغفور لا محالة وأن العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات.وقد وظفت عقيدة الإرجاء من أجل تبرير التساهل في القيام بالواجبات وتعطيل الحدود فغذت هذه العقيدة التواكل والانتظارية والعجز عن الحكم والقعود عن فصل الأمور بالحجة والعقل وقد روي عن واصل بن عطاء أنه قال:"الحق يعرف من وجوه أربعة:كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه وحجة عقل وإجماع من الأمة".
بيد أن أهم كشوفات المعتزلة التي تحسب لهم والتي أيدتها الفلسفة الحديثة إضافة إلى الجوهر الفرد والطفرة وشيئية المعدوم ومشاركة الروح للجسم واستقلالية الأعراض هو تجويز شيخهم النظام إجماع الأمة في كل عصر على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال وقوله بأن من أخبار الأحاد ما يوجب العلم الضروري ومن الخبر المتواتر يجوز أن يقع كذبا. وقد انعكس ذلك في فهمهم لأمور الإمامة والرئاسة فهم رفضوا منذ البدء تواصل الوحي عن طريق عصمة الأئمة كما ترى الشيعة ورفضوا نظرية الخلافة كما استقرت عند أهل السنة وحاولوا أن يعالجوا الإشكاليات التالية معالجة عقلية حرة:
هل الإمامة مصلحة دينية لا يجوز إغفالها ولا تفويضها للأمة أو إنها مصلحة دنيوية يوكل أمرها إلى الأمة فتتولى النظر فيها وتختار من يصلح لها ؟ وهل يشترط في الإمام النسب القريشي إلى جانب العلم والعدالة والشجاعة أم أن الإمامة حق لكل مسلم بغض النظر عن نسبه وقبيلته وجنسه؟
ترى المعتزلة أن الإمامة ليست ركن من أركان الدين بطريق التعيين والوصية بل من المصالح الدنيوية التي يوكل أمرها إلى الأمة بطريق الانتخاب والاختيار يستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة ولم يراعوا في ذلك النسب وذلك لأن الله تعالى لم ينص على رجل بعينه ولا الرسول صلعم.
قال القاضي عبد الجبار:"وأما الكلام في طرق الإمامة فقد اختلف فيه وعند المعتزلة انه العقد والاختيار" [4] ويشير النوبختي أن المعتزلة لم يجعلوا النسب القرشي شرطا أساسيا في صحة الإمامة بل ترى أنه إذا اجتمع قرشي ونبطي وهما قائمان بالكتاب والسنة ولت القرشي وقد خلفهم ضرار في هذا الرأي عندما قال إذا اجتمع قرشي ونبطي ولينا النبطي وتركنا القرشي لأنه أقل عشيرة وأقل عددا فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته أهون".وقد توصل المعتزلة إلى هذه النظرية العقلانية في السياسة الاستخلافية بعد أن نظروا نظرة مجردة إلى المسائل الخلافية ابتعدوا عن المغالاة والتعصب واحتكموا إلى صوت العقل والمصلحة والواقع وقد أعطوا للأمة حق الممارسة الفعلية للسلطة فهي التي تختار عن طريق البيعة العامة الحاكم وهي التي تراقبه وتعمل على خلعه إن غير وبدل واعتدى على المقاصد الكلية للشرع وأضر بمصالح الناس.
من المعروف أن المعتزلة رفضوا الخروج بالسيف والاستيلاء على السلطة بالقوة كما ينظر إلى ذلك الخوارج ورفضوا تكفير عامة المسلمين وارتضوا بالمعارضة العلنية عن طريق الكلمة الصادقة والدعوى الصريحة واختاروا منهج النصيحة والنقد البناء للملوك والسلاطين ولم يخشوا في ذلك لومة لائم رغم ما تعرضوا له من تنكيل ومطاردة ولكنهم لم يتخلوا عن هذا النهج ولم يبدلوا مسلكهم طبقة بعد أخرى وذلك لإيمانهم العميق بتهافت أراء خصومهم ووجاهة أطروحتهم. ويحسب للجاحظ أنه أسس السياسة على العدل إذ يقول:"فاجعل العدل والنصفة في الثواب والعقاب حاكما بينك وبين إخوانك فمن قدمت منهم فقدمه على الاستحقاق وبصحة النية في مودته وخلوص نصيحته لك مما قد بلوت من أخلاقه وشيمه" [5] . واللافت للنظر أن الجاحظ بني نظريته السياسية على أسس استخلافية فهو رأى أن الناس طبعوا في جبلتهم على حب المنفعة ودفع الضرر فكانوا ميالين إلى المحافظة على وحدة الجماعة والتنظم ونابذين لروح الفرقة والفوضى محبين العدل والقسط كارهين للظلم والتعدي. وقد عرف السياسة أنها حسن التدبير وجعل "الرهبة والرغبة أصلا كل تدبير وعليهما مدار كل سياسة عظمت أم صغرت" [6] وقصد بذلك أن الناس لا يصلح حالهم ولا يستقيم معاشهم إلا بترغيبهم فيما يحتاجونه وترهيبهم مما يخشونهم حتى يحسن ترويضهم وتأديبهم وإيناسهم واستئناسهم ومن هذا المنطلق نصح أبو عثمان كل سائس بقوله:"ليعمل كل عامل على ثقة مما وعده وأوعده فتعلقت قلوب العباد بالرغبة والرهبة فاطرد التدبير واستقامت السياسة لموافقتها ما في الفطرة وأخذهما بمجامع المصلحة" [7] وواضح هنا أن السياسة الاستخلافية ينبغي عليها أن توافق الفطرة الإنسانية وأن تراعي المصلحة ولا يكون ذلك ممكنا إلا بإقامة الرغبة والرهبة على حدود العدل وموازين النصفة بحيث لا يجوز الإفراط في الوعيد أو التفريط في الوعد حتى لا تتحول الطاعة إلى خضوع والأمر والنهي إلى إكراه وإجبار. وقد قدم الجاحظ آداب في معاملة العدو ينصح أن يعتبر بها أولي الأمر ليستظهر بها عليه وهي:
- أن يأخذه بالفضل ويبتدئه بالحسنى.
- أن يحصن عنه أسراره ويطلع على مواضع عيوبه ولا يظهرن عليه حجة.
- أن يستبطن الحذر منه ويستعد له ويظهر الاستهانة به.
وهنا رفض الجاحظ من حيث المبدأ الطموح العسكري للسياسي ونبذ المحاربة ومنطق العداوة وآثر منطق التدافع والتعارف ولذلك نراه قد مدح قيمة الصداقة ورأى أنها أفضل من الأخوة تكرس المؤانسة والتعاون وتخرج المرء من الوحدة والوحشة إذ قال في هذا السياق عن الصديق:"فإنما هو شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك ومستمد رأيك وتوأم عقلك" وأضاف في نفس المعنى:"ثم لا يمنعك ذلك من الاستكثار من الأصدقاء فإنهم جند معدون لك ينشرون محاسنك ويحاجون عنك." [8] لكن كيف يمكن أن نحول مؤسسة الصداقة من مؤسسة أخلاقية تهم خصال الفرد الممدوحة إلى مؤسسة سياسية تهم القوانين العادلة التي يجب أن تنظم علاقته مع غيره؟ ثم ألا تحتاج هذه النصوص الاعتزالية الغنية بالأفكار الثورية إلى المزيد من الاستكشاف والتنقيب قصد تمكينها من التفتح والإزهار على أحسن وجه؟
المراجع:
ابن خلدون المقدمة دار الجيل تحقيق سعيد محمود عقيل الطبعة الأولى بيروت2005
فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة تحقيق فؤاد السيد الدار التونسية للنشر1986
القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة تحقيق عبد الكريم عثمان القاهرة1965
الشهرستاني الملل والنحل تحقيق صدقي جميل العطار دار الفكر بيروت الطبعة الثانية 2002
الجاحظ الرسائل السياسية تحقيق على أبو ملحم دار ومكتبة الهلال بيروت الطبعة الثالثة1995
* كاتب فلسفي
[1] ابن خلدون المقدمة دار الجيل تحقيق سعيد محمود عقيل الطبعة الأولى بيروت2005ص392
[2] فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة تحقيق فؤاد السيد الدار التونسية للنشر1986ص139
[3] الشهرستاني الملل والنحل تحقيق صدقي جميل العطار دار الفكر بيروت الطبعة الثانية 2002ص87
[4] القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة تحقيق عبد الكريم عثمان القاهرة1965 ص753
[5] الجاحظ الرسائل السياسية تحقيق على أبو ملحم دار ومكتبة الهلال بيروت الطبعة الثالثة 1995ص75
[6] الجاحظ الرسائل السياسية تحقيق على أبو ملحم دار ومكتبة الهلال بيروت الطبعة الثالثة 1995ص74
[7] الجاحظ الرسائل السياسية تحقيق على أبو ملحم دار ومكتبة الهلال بيروت الطبعة الثالثة 1995ص74
[8] الجاحظ الرسائل السياسية تحقيق على أبو ملحم دار ومكتبة الهلال بيروت الطبعة الثالثة 1995ص85
--------------------------------------------------------------------------------