كتَّاب إيلاف

حـرب الاســـتنزاف

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

نقلت صحفٌ ("المصري اليوم" وغيرها) عن الدكتور محمد عمارة "المفكر الإسلامي" المعروف وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أنه قال في كلمة له يوم 3 أبريل ضمن فعاليات الملتقي الدولي الثاني لخريجي جامعة الأزهر: "إننا نلاحظ الآن وجود أعلي نسبة تحول من المسيحية إلى الإسلام في مصر، لتصبح أكبر موجات هذا التحول عبر تاريخ مصر الحديث".
وبعدها، قدَّرت صحيفة "الدستور" (7 أبريل) عدد المتحولين بخمسة آلاف سنويا. ونقلت "العربية نت" (10 أبريل) عن الشيخ عبد الله مجاور رئيس قطاع مكتب شيخ الأزهر قوله بأن "عدد المسيحيين المصريين الذين يشهرون إسلامهم في الأزهر يتزايد بشكل ملحوظ"، مؤكدا أن "عددهم يقترب من الخمسة آلاف"، لكن الأزهر لم ينشر أرقاماً محددة عن عددهم.
والغريب أن بعض الأصوات والأقلام (القبطية) سارعت إلى انتقاد ومهاجمة د. عمارة، آخذة عليه أنه "يتعمد الإساءة للمسيحيين، وخاصة في أيام يحتفلون فيها بعيد القيامة" (!!). على النقيض من هؤلاء، فإننا نقدم للدكتور عمارة خالص الشكر: فها هو، من موقعه كموظف في الحكومة المصرية ـ وبالذات في مجمع "البحوث" الإسلامية ـ يتحدث عن ثقة لا يوفرها له إلا إطلاعه على إحصائيات لا نستطيع الوصول إليها، ليؤكد لنا صورة يكشف عنها لأن فرحه وافتخاره بها أكبر من حرصه على الكتمان. ولكنه بهذا يساعدنا على فتح الملف الذي يفضل الكثيرون إغلاقه بزعم "حساسيته".

(1)
سنرجيء الكلام حول ما قاله د. عمارة عن "زيادة الإقبال على الإسلام في العالم أجمع وخاصة منذ 11 سبتمبر" ونقتصر هنا على التحول داخل مصر.
وفي البداية، نؤكد أن الإنسان ـ لكي يكون جديرا بإنسانيته ـ هو حرٌ مسئول عن اختياراته، وبالتالي فإن حريته في التفكير والاعتقاد هي من أثمن ما يملك وأن محاولة تقييد تلك الحرية اعتداءٌ على حقوقه، قد يرقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. ولكن ....حرية الاعتقاد يتحتم أن تكون:
1ـ حرية مسئولة لأشخاص بالغين سن الرشد القانوني (وبعيدا عن التلاعب!)؛
2ـ حرية حقيقية لا تشوبها شبهات الإجبار والإغواء، وبالتالي تحيط بها ضمانات مثل حيادية الدولة وحيادية المجال العام، وبدون التعرض لأذى من قبل أي جهة أمنية أو سياسية؛
3ـ حرية مبنية على كون البشر مشتركين معاً في الإنسانية، وعلى حق الأفراد والجماعات من مختلف الديانات في أن يعرضوا بشكل سلمي نظرتهم الخاصة بالأمور الدينية أو الإنسانية؛
4ـ حرية مبنية على أن اللجوء إلى العنف لتأكيد وجهة نظر دينية أو لإجبار آخرين علي اعتناقها هو همجية مرفوضة وجريمة لا تغتفر؛
5ـ حرية مكفولة للجميع وعلى قدر المساواة وليست في اتجاه واحد؛ ولمن يمارسها الحق في أن يعيش بسلام مع جيرانه مهما كان معتقدهم.
هل يظن د. عمارة حقا أن الشروط السابقة متوافرة في كل أو عُشر أو حتى واحد على ألف من حالات التحول إلى الإسلام في مصر والتي جلبت له السرور والحبور والانشكاح؟ وإن كان يرى توافرها، ندعوه لمراجعة الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي نذكرها، ونُذَكِّر بها، أدناه.
وما رأيه يا ترى في الشرط الأخير، وفي فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي ـ الذي يشاركه "الاعتدال" ـ بهذا الشأن: [إن أشد ما يواجه المسلم من الأخطار ما يهدد وجوده المعنوي، أي ما يهدد عقيدته، ولهذا كانت الردة عن الدين (الكفر بعد الإسلام) أشد الأخطار على المجتمع المسلم (..) وقد أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد - وإن اختلفوا في تحديدها- وجمهورهم على أنها القتل، وهو رأي المذاهب الأربعة، بل الثمانية]. (راجع موقع قرضاوي دوت نت).
على النقيض من هذا التطبيق العجيب لمبدأ "لا إكراه في الدين" الذي يصدعون أدمغتنا به، نتمسك بحرية الضمير والعقيدة كما نفهمها وتنص عليها بوضوح مواثيق حقوق الإنسان الدولية، ولا نفكر في تحديدها أو فرض حظر عليها.

(2)
عند تناول موضوع التحول إلى الإسلام في مصر، سنجد بالطبع حالات "شخصية" لها دوافعها الرئيسية المباشرة مثل:
1ـ أسباب "عقيدية" حيث يأتي الاقتناع بعد بحث وتمحيص ـ ولكن هذا يحدث على الجانبين! فإن كان هناك من يتركون المسيحية إلى الإسلام لأسباب يجدونها وجيهة، فهناك أيضا من يعبرون الطريق في الاتجاه العكسي، ولأسبابهم الوجيهة أيضا ـ وهم عادة يلاقون الأهوال في سبيل ذلك؛
2ـ أسباب "عاطفية" أو "عائلية" ـ حقيقية أو مصطنعة؛
2ـ أسباب "مصلحية" ـ مباشرة (رشوة!)، وغير مباشرة كالتسلق المجتمعي أو الوظيفي، أو نتيجة للضغوط الاقتصادية؛
4ـ أسباب "إجرامية" مدبرة يقوم فيها أفراد وجماعات، مع سابق الإصرار والتعمد، بتحديد الضحية والإيقاع بها بشتى الطرق والأساليب والحيل من الإغواء والابتزاز إلى التهديد وانتهاء بالخطف الفعلي أحيانا.
5ـ أسباب "قانونية" (وياللعجب!) تصدر فيها المحاكم قرارات بإجبار أبناء قصر على اعتناق الإسلام، عند تحول أحد الوالدين (الأب أو الأم)، بدعوى ضرورة تبعيتهم لمن ينتمي إلى "أفضل الأديان" (!)، في غيبة قانون واضح ـ أو حتى برغم القوانين القائمة ـ استنادا إلى المادة الثانية الشهيرة من الدستور! ومثل هذه الأوضاع تشكل بلا جدال جريمة أو على الأقل فضيحة يندى لها جبين أي إنسان متحضر وشريف.
6ـ وفي كل ما سبق من حالات وأسباب، وغيرها، يأتي دور أجهزة الأمن الذي يتراوح في معظم الأحيان بين التواطؤ والمشاركة في "تسهيل" التحول. بل إن ما يطلق عليه "جلسات الإرشاد"، التي كانت تعقد تحت إشراف رجال الأمن بين الشخص المزمع التحول وأفراد أسرته وأحد رجال الدين للتأكد من الجدية وعدم وجود ضغوط قاهرة؛ هذه الجلسات التي كانت عرفا منذ عقود، قد تم إلغاؤها منذ العام الماضي بواسطة وزارة الداخلية بدون إبداء أسباب!

(3)
إضافة لذلك، هناك الكثير من الأسباب غير المباشرة التي لا تقل أهمية، إن لم تزد؛ والتي نسوق بعضها على سبيل التذكير فقط حول الخلفية الحياتية العامة لغير المسلم:
1ـ ما تاثير "الإغراق السمعي والبصري" الديني، مثل أن يفتح المرء، طفلا كان أو بالغا، التلفاز أو المذياع فيجده يبدأ وينتهي بالقراءات الدينية وتُقطع برامجه لبث الآذان وهو متخم ببرامج تشرح للمسلمين أمر دينهم الحق؛ أو أن تخترق أذنَ المرء، طفلا كان أو بالغا، مكبراتُ الصوت الزاعقة التي تبث نهارا وليلا، وفي كل مكان وأي مكان؛ أو أن يضطر المرء إلى الاستماع إلى مواد دينية في وسائل المواصلات، وإذا تجرأ وطالب على الأقل بخفض الصوت، هاج عليه المحيطون؟
2ـ ما تأثير أن يفتح المرء عينيه على جريدة الصباح ليجدها غارقة في مقالات دينية وتفسير ديني للأحداث المحلية والعالمية والاهتمام بشأن الإسلام والمسلمين حتى أطراف الكون؛ وتفرد صفحاتٍ للفقر الديني، تُفخِّم الإسلام وتُحقِّر غيره؟ أو يجد الكتب والأشرطة التي تكفر الديانات الأخرى تباع على الأرصفة، بأسعار مدعومة؛ وبدون حتى حق الرد؟
3ـ ما تاثير أن تُجبر التلميذة على ارتداء الحجاب، باعتباره "الزي المدرسي" المعتمد؟ أو أن يُجبر التلاميذ على حفظ نصوص قرآنية في حصص اللغة العربية، وعلى حفظ تاريخ وأمجاد الإسلام ودولته على مر العصور بدون إشارة إلى تاريخ أجداده؟
4ـ ما تأثير أن تجد الموظفة في إدارة حكومية نفسها وحيدة في غرفة متخمة بمنقبات ومحجبات يقضين معظم وقتهن في قراءات دينية يتخللها الغمز واللمز ثم التصريح والتحريض والضغط لدعوة الأخت "الشاذة" إلى التوبة واعتناق الدين الحق؟
5ـ ما تأثير كون عدد الكنائس في مصر هو بمعدل أقل من كنيسة لكل ستة آلاف "مواطن" مسيحي، في مقابل مسجد لكل 550 مواطن مسلم، تصبح لكل ستين فردا إذا أخذنا المصليات في الاعتبار ـ ناهيك عن أمور مثل "خطط مديريتي التربية والتعليم بالقاهرةrlm;rlm; والجيزة للتوسع في انشاء المساجد بالمدارسrlm;،rlm; وزيادة مساحتها (..) بهدف نشر القيم الدينية الرفيعة بين الطلابrlm;، من خلال تشجيعهم علي المواظبة في اقامة شعائرهم الدينية" (الأهرام 16 أكتوبر 2006) ـ وعلما بأن فرنسا بها مسجد لكل 830 مواطن مسلم!
6ـ ما تأثير أن تصبح الدولة بكافة أجهزتها وعلى كافة مستوياتها في خدمة الإسلام، بدءا من رئيس الجمهورية الذي يخطب في كل مناسبة دينية وكأنه "أمير المؤمنين"؛ إلى وزير الأوقاف الذي قرر مؤخرا، بجرة قلم، تعيين 2600 إمام وخطيب وسبعة آلاف مؤذن وعامل بمساجد الدولة، إضافة إلى إعلان الأزهر تعيين rlm;19rlm; ألف مدرس في rlm;ثمانيةrlm; ألاف معهد ديني تابع للدولة حتى الآن في العام الحالي (الأهرام 7 أبريل)؛ وانتهاء بالسفير المصري في عاصمة أوروبية كبرى الذي يفتتح لقاءاته (حتى لو ذهب إلى كنيسة للمعايدة) بالبسملة ـ للتأكيد على كونه "سفيرا مسلما لدولة مسلمة"؟ أو أن تقوم مصلحة الأحوال المدنية، بدور الخصم ضد المواطنين وترفض تثبيت معلومات هويتهم الدينية وتستأنف الأحكام لو فرض أن حكم القضاء الإداري لصالح المدعي؟
7ـ ما تاثير أن يرى طالب الجامعة استحالة ـ إلا فيما ندر ـ حصوله على تقديرات في المراكز المتقدمة (تطبيقا لسياسة تجفيف المنابع التي ابتكرها الرئيس المؤمن السادات) وبالتالي استحالة التحاقه بالسلك الجامعي؟ وما تأثير سياسات حظر وظائف معينة على المسيحيين، عيانا بيانا وبلا خجل أو اعتذار؛ وتحديد نسب تواجدهم في باقي الوظائف بما لا يتجاوز اثنين بالمائة؟
8ـ وأخيرا، وليس آخرا، ما تأثير المادة الثانية من الدستور التي تعني بصورة مباشرة أن غير المسلمين في مصر هم كمٌ مهمل إن لم يكن محتقرا لأنهم لا يتبعون الدين الحق؟ وتأثير المناقشات "الفقهية" التي تجري علنا حول أحقية غير المسلمين في تبوء هذا المنصب أوذاك؛ أو حول فرض الجزية وشرعية بناء الكنائس؟
الخ الخ العشرات من الأسئلة الموجعة.

(4)
بعد كل ما سبق من أسباب، وهي لا تمثل أكثر من قمة جبل جليدي، لا شك أننا نصدق تماما ما يقوله د. عمارة وغيره عن ازدياد معدلات التحول للإسلام في مصر، بل ولن يدهشنا أن تكون الأرقام الحقيقية أكثر بكثير مما ذُكِر، لتزيد عن عشرين حالة يوميا. وكل هذا يؤكد أن خطط أسلمة مصر التي تمضي على قدم وساق منذ بضعة عقود قد بدأت ثمارُها تينع وأُكُلُها تأتي. وهي الخطط التي تشارك فيها أجهزة الدولة، بالريادة أو بالانسياق؛ بالتواطؤ أو بالموالسة؛ بالتدبير، أو بالتنفيذ أيضا.
خطط الضغوط المجتمعية الخانقة التي تُمارَس بإصرار عنيد، والتي ساهم فيها التعليم والإعلام بدور جوبلزي جهنمي، تجعل غير المسلم محاصرا في رقاده واستيقاظه، وحيثما ذهب. تطارده ليل نهار مطارق الهيمنة والتسلط الناتجة عن عقلية الغزو والفتح، والتي تستهدف على الأخص الأفراد والفئات الأضعف، وتسعى عبر حرب استنزاف دؤوبة، تصبح أحيانا حرب عصابات، لإعطاء "حرية الاختيار" في إطار ثلاثية: دخول الدين الحق (عن اقتناع!)، أو مواجهة "سيف" الإذلال والتحقير، أو دفع "جزية" احتمال التعصب والتفرقة.

(5)
ما العمل الآن؟ لم تعد "حساسية" الموضوع تكفي لتبرير الصمت، فالأمر ـ إضافة لكونه يتعلق بالحريات والحقوق العامة التي توجد بشأنها معايير حقوق إنسان دولية واضحة وقاطعة ـ يمثل أيضا قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار.
نقترح في البداية أن تقوم جهة ذات مصداقية ببحث الموضوع عبر مسح ميداني موثق، ثم الخروج، في أقرب وقت ممكن، بتوصيات محددة، في الجوانب التشريعية والإجرائية وأيضا التعليمية والإعلامية والسياسية بصفة عامة، يطلب من القيادة السياسية للبلاد العمل على تنفيذها بدون تهرب أو تسويف. ولا نعرف الكثير من الجهات "ذات المصداقية" في مصر وإن كنا نستبعد منها "المجلس القومي لحقوق الإنسان". لماذا لا تقوم بالدور جهة مجتمع مدني مثل "مركز القاهرة لحقوق الإنسان" بمشاركة "منتدى حريات الشرق الأوسط" ومراكز أخرى؟
وإذا تقاعست القيادة السياسية بعدها عن علاج المشكلة، فلا مفر من اللجوء لجهات وهيئات دولية لتتضح وتنفضح مسئولية مصر أمام المجتمع الدولي.

adel.guindy@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف